أكل الحلال وحلاوة المناجاة
لفضيلة الشيخ: عبدالعزيز آل عبداللطيف
يُقال: إنَّ الحَجَّاج بن يوسف لَمَّا ولي العراق، وكان أهله لا يتولَّى عليهم أحدٌ يشوش عليهم إلا هلَك سريعًا بدعائهم عليه، فأمَرَهم الحجاج أنْ يأتي كلُّ واحد منهم ببيضة دجاجة، ويضعها في صحْن الجامع، وأراهم أنَّ له بذلك ضرورة، فاستخفُّوا ذلك منه ففعَلوا، ثم أمَرَهم بعد ذلك أنْ يأخذ كلُّ واحدٍ عين بيضته، وأراهم أنْ قد بدا له الرجوع عمَّا أراده، فلمَّا أخذوا ذلك لم يعلم كلُّ واحدٍ منهم عينَ بيضته، فلمَّا علم الحجَّاج أنهم تصرَّفوا في ذلك مَدَّ يده إليهم، فدعَوا عليه على عادتهم فمُنِعوا الإجابة.
قال ابن الحاج (ت 737هـ) مُعلِّقًا على تلك الحادثة: "ولأجل هذا المعنى كَثُرت المظالم اليوم، وكَثُر الدعاء على فاعلها وقلَّت الإجابة أو عدمت… فلو سلم بعضهم من مثْل هذه الحال ودعا، لاستُجِيب له عاجلاً".
ولقد احتَفَى أهل السُّنة بأكْل الحلال تقريرًا وتحقيقًا، حتى أثبَتُوه في عقائدهم؛ يقول الفضيل بن عِياض: "إنَّ لله عبادًا يُحيِي بهم البلاد والعباد، وهم أصحاب سُنَّة، مَن كان يعقل ما يدخُل جوفه من حِلِّه كان في حزب الله تعالى".
قال ابن رجب معلقًا على عبارة الفضيل: "وذلك لأنَّ أكْل الحلال من أعظم الخِصال التي كان عليها النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأصحابه".
ووَصَف شيخُ الإسلام الصابوني أهلَ الحديث والسُّنة أنهم يتواصَوْن بالتعفُّف في المآكِل والمشارب، والمنكح والملبس، وكذا قرَّره قِوام السُّنة الأصفهاني.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله طيِّب لا يَقبَل إلا طيبًا، وإنَّ الله – تعالى – أمَر المؤمنين بما أمَر به المرسلين، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال – تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكَر الرجل يُطِيل السفر أشعث أغبر، يمدُّ يدَيْه إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومَطعَمه حَرام، ومَشرَبه حَرام، ومَلبَسه حَرام، وغُذِي بالحرام، فأَنَّى يُستَجاب لذلك؟!)).
ومن شُروحات ابنِ رجب لهذا الحديث قوله: "مِنْ أعظَم ما يحصل به طيبة الأعمال للمؤمن طيب مطعمه، وأنْ يكون من حلال، فبذلك يزكو عمله… وفي الحديث إشارةٌ إلى أنَّه لا يُقبَل العمل ولا يزكو إلا بأكْل الحلال، وأنَّ أكْل الحرام يُفسِد العمل، ويمنع قبولَه… فالرسل وأُمَمهم مأمورون بالأكل من الطيِّبات التي هي الحَلال، وبالعمل الصالح، فما دام الأكل حَلالاً فالعمل صالح مقبول، فإذا كان الأكل غير حلال فكيف يكون العمل مقبولاً؟!".
والمقصود أنَّ على الداعي أنْ يتحرَّى أكْل الحلال، ويَتورَّع في مطعمه ومشربه؛ فإنَّ هذا من آكَد آداب الدعاء، بل هو من شروط الدعاء المُستَجاب.
إنَّ من أجَلِّ آداب الدعاء إظهارَ الافتِقار إلى الله، والانطِراح والانكِسار بين يديه – سبحانه – وكما قال سهل التُّستَرِيُّ: "ليس بين العبد وبين ربِّه طريقٌ أقرب إليه من الافتقار".
وكلَّما ازداد الشخص عبوديَّةً وافتِقارًا إلى الله ازداد كمالُه وعَلَتْ درجته؛ فأكرَمُ ما يكون العبد على الربِّ – سبحانه – أحوَجُ ما يكون إليه، وأمَّا الخلق فأهوَنُ ما يكون عليهم الشخص أحوجُ ما يكون إليهم.
فمَن أعرض عن الدعاء والافتِقار والإلحاح على الله فإنَّه يشتَغِل بمسألة الناس، ويُقْبِل على التذلُّل لهم… فيرتكب ثلاث مفاسد: مفسدة الافتقار إلى غير الله، ومفسدة إيذاء المسؤول، ومفسدة امتهانه لنفسه، وذله لغير الله.
قال ابن تيمية: "وقد جرَّب الناس أنَّ مَن لم يكن سائِلاً لله سأَل خلقَه، فإنَّ النفس مضطرَّة إلى مَن يُحصِّل لها ما ينفَعُها، ويَدفَع عنها ما يضرُّها؛ فإنْ لم تطلب ذلك من الله طلبَتْه من غيره".
وهذا حال بعض شيوخ الصوفيَّة الذين يترُكون الدعاء استِكبارًا وغرورًا، ويدَّعون الاستغناءَ عن اللَجَأ إلى الله – عزَّ وجلَّ – ثم آخِر حالهم يَعكُفون على أبواب الظَّلَمة، ويَقتاتون من مكاسب خبيثة.
وقد وصَف ابن تيميَّة أولئك الشيوخ بقوله: "هكذا شيوخ الدعاوَى والشطح، يدَّعِي أحدهم الإلهيَّة، وما هو أعظم من النبوة، ويعزل الربَّ عن ربوبيَّته، والنبيَّ عن رسالته، ثم آخِرته شحَّاذ يطلب ما يقيته، أو خائف يستعين بظالمٍ على دفْع مظلمته، فيفتَقِر إلى لقمة، ويَخاف من كلمة؛ فأين هذا الفقر والذل من دعوى الربوبيَّة المتضمِّنة للغِنَى والعزِّ؟!".
وفي غمرة الغفلات المتتابعة، وحظوظ النفس المتشعِّبة، وصخب الحياة الجسديَّة – فإنَّ النفس لا تنفكُّ عن الجهل والظلم، وحينئذٍ يعتدُّ الأشخاص بقدراتهم ومواهبهم التي امتنَّ الله بها عليهم، ويَركَنون إلى حولِهم وقُوَّتهم، ويدَّعِي أحدُهم بلسان الحال أو المقال أنَّه "العملاق" أو "سوبر مان".
بل إنَّ اعتِداد الشخص وثقتَه بنفسه وطاقته بعُجَرها وبُجَرها قد استَحوَذ على فِئامٍ من الدعاة، فلا تَكاد تُخطِئ عينُك كثرة الدَّورات والندوات في هذا الشأن؛ وغرق القوم في الالتِفات والاعتماد على الأسباب الظاهرة المحسوسة، بل تجاوَزُوه إلى تعلُّق بأسبابٍ مثالية موهومة، وأعقب ذلك ما نُكابِده من ضعْف الأحوال الإيمانية: من الإخبات والخشوع والإنابة إلى الله – تعالى – بل ربما غاب ما يتعيَّن استصحابُه من فقرنا وفاقتنا، وضعفنا ومسكنتنا، وعجزنا وتفريطنا في جنْب الله.
والناظر إلى الأئمَّة الأعلام لدى أهل الإسلام والسُّنة، وسِيَرِهم وأحوالهم، لا تكاد تجدهم إلا أصحاب إخباتٍ وانطِراحٍ بين يدي الله – تعالى – واعتِراف بالذنب والتقصير، ويقين بالفاقة إلى الغني الحميد – سبحانه – فرحمة اللهِ على تلك الأرواح، لم يبقَ منهم إلا الأشباح.
وقدوتهم في ذلك رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – الذي كان يقول: ((سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهْدك ووعْدك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي؛ فإنَّه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
وروي عنه – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنَّه قال: ((اللهم إنَّك تَسمَع كلامي، وترى مَكاني، وتَعلَم سرِّي وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيءٌ من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، والوجل المشفق، المقرُّ بذنبه، أسألك مسألةَ المسكين، وأبتَهِل إليك ابتهالَ المذنب الذليل، وأدعوك دعاءَ الخائف الضرير، مَنْ خضعَتْ لك رقبتُه، وذلَّ لك جسدُه، ورَغِمَ لك أنفُه، اللهم لا تجعلني بدعائك ربي شقيًّا، وكُنْ بي رؤوفًا رحيمًا، يا خير المسؤولين، يا خير المُعطِين)).
ويبدو أنَّ ثمَّة تَلازُمًا بين أكْل الحلال، وحلاوة المناجاة لله – تعالى – ولذَّة الأنس والافتِقار إليه – عزَّ وجلَّ – وقد قرَّر الحافظ ابن كثير – في "تفسيره" – أنَّ أكْل الحلال عونٌ على العمل عند تفسيره لقوله – تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51].
وأشار ابن الجوزي إلى ذلك التلازُم في إحدى خَواطِره، فقال: "وربما رأى العاصي سلامةَ بدنِه وماله، فظنَّ أنْ لا عقوبة، وغفلته عَمَّا عُوقِب به عقوبةٌ، وربما كان العِقاب العاجل معنويًّا، كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: "يا رب، كم أعصيك ولا تعاقبني! فقيل له: كم أعاقبك ولا تدري؛ أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟!".
فمَن تأمَّل هذا الجنس من المعاقبة وَجَدَه بالمرصاد، فرُبَّ شخصٍ أطلق بصره فحُرِم اعتبارَ بصيرته أو لسانه، فحرم صفاء قلبه، أو آثَر شبهةً في مطعمه، فأظلم سِرُّه، وحُرِم قيامَ الليل وحلاوة المناجاة… إلى غير ذلك، وهذا أمرٌ يعرفه أهلُ محاسبة النفوس.
ولقد رأينا مَنْ سامَح نفسَه بما يمنع منه الشرع، طلبًا للراحة العاجلة، فانقلبت أحواله إلى التنغُّص العاجل، وعكست عليه المقاصد".
وقد كابَد ابن الجوزي شيئًا من عَوارِض حَلاوة المناجاة ومُكدِّراتها، ثم إنَّ الله تَدارَكَه برحمته ولطفه، ولقد حكى هذه المعاناة بأسلوبٍ بديع، فقال: "كنت في بداية الصبوة قد أُلهِمت سلوك طريق الزهَّاد؛ بإدامة الصوم والصلاة، وحُببت إِلَيَّ الخلوة، فكنتُ أجد قلبًا طيبًا، وكانت عين بصيرتي قويَّة الحِدَّة تتأسَّف على لحظةٍ تمضي في غير طاعة، وتُبادِر الوقتَ في اغتِنام الطاعات، ولي نوعُ أُنْسٍ وحلاوة مناجاة، فانتهى الأمر إلى أنْ صار بعض وُلاة الأمور يستحسن كلامي، فأمالني إليه فمال الطبع؛ ففقَدتُ تلك الحلاوة، ثم استَمالني آخَر، فكنت أتَّقِي مخالطته ومطاعمه لخوف الشبهات، وكانت حالتي قريبة، ثم جاء التأويل فانبسطتُ، فقدم ما كنت أجد، وصارت المخالطة تُوجِب ظُلمَةَ القلب إلى أنْ عُدِم النور كله، فكان حنيني إلى ما ضاع منِّي يُوجِب انزعاج أهل المجلس، فيتوبون ويصلحون، وأخرج مفلسًا فيما بيني وبين حالي، وكَثُر ضَجِيجي من مرضي، وعجزتُ عن طبِّ نفسي، فاجتذبني لطف مولاي بي إلى الخلوة على كراهةٍ مِنِّي، ورَدَّ قلبي عليَّ بعد نفوره مِنِّي، فأفقت من مرض غفلَتِي، وقُلت في مناجاة خلوتي: سيِّدي، كيف أقدر على شكرك؟ وبأيِّ لسان أَنطِق بمدحك؛ إذ لم تؤاخذني على غفلتي، ونبَّهتَنِي من رقدتي، وأصلَحتَ حالي على كرهٍ من طبعي؟! فما أربحني فيما سُلِب مِنِّي؛ إذ كانت ثمرته اللجأ إليك،وما أوفر جمعي؛ إذ ثمرته إقبالي على الخلوة! وما أغناني؛ إذ أفقرتَنِي إليك! وما آنَسَنِي؛ إذ أوحشتني من خلقك! آهٍ على زمانٍ ضاعَ في غير خدمتك! أسفًا لوقتٍ مضی في غير طاعتك!".
وأختم هذه السطور بطرفٍ من مناجاة أبي الحسن الكانشي (ت 347هـ)، الذي عُرِف بالعلم والوَرَع، ورقَّة القلب ومجانبة أهل الأهواء؛ فقد حُكِي عنه أنه قام ليلة فقرأ سورة الإسراء حتى ختم المصحف، ثم أخَذ في البكاء وقال:
أتراك بعد الدرس للقرآن تحرقني؟
يا ليتني أُدرِجتُ قبل الذنب في الكفنِ
ثم عاد إلى البكاء حتى طلَع الفجر، ثم أقبل يقول: "وعزتك وجلالك ما عصيتك استِخفافًا بحقِّك، ولا جحودًا لربوبيَّتك، لكنِّي حضرني جهلي، وغاب عنِّي علمي، واستفزَّني عدوِّي، وإنِّي عليها – يا إلهي – لنادم".
ومن مناجاته: "أَرِنِي مَن أطاعَه فأضاعَه، أرِنِي مَن قصَدَه فخيَّبه، أرِنِي مَن توكَّل عليه فأضاعَه، إذًا لا تراه أبدًا".