دكتور : راغب السرجاني
الحلقة الثالثة
=================
ثم انظر إلى الآية الربانية العجيبة – وكل آيات الله عجيب- والله ما قرأتها إلا ووقفت مبهورا أمامها ، عاجزا عن تخيل كل أبعادها ..يخاطب رب العزة جل شأنه بني آدم ، فيقول
قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا (100) الإسراء ، سبحان الله! هل تتخيل خزائن الرحمة الإلهية؟ إنه من المستحيل أن تحيط بها .. إن السماوات و الأرض وما بينهما لأمر هين بسيط في هذه الخزائن الإلهية ..لو أن ابن آدم يملك هذه الخزائن ، و ترك لهواه و فطرته و طبيعته دون تعديل ولا توجيه ولا تهذيب ..ماذا يفعل؟ سيمسك خشية الإنفاق !! مع أن هذه الخزائن لا تنتهي ..ولن تنتهي !! لكن من فطرته الإمساك .. (.. وكان الإنسان قتورا ) يقول ابن عباس و قتادة ( رضي الله عنهما ) أي : ( بخيلا منوعا ).
القضية إذن عسيرة ، والإنفاق صعب ، ولا يعجبني أبدا أن يتكلم الواعظ عن الإنفاق و كأنه أمر يسير بسيط ..من لم يفعله كان دليلا على فساد فطرته ، أو ضياع دينه ..فالأمر عسير شاق بالفعل .. و إن كنت في شك من ذلك فأجبني : أي الشيئين أغلى : نفسك أم مالك؟ إن النفس أغلى دون شك ، أما المال فيذهب و يجيء ..تذكر هذه المقارنة السابقة ، ثم تأمل الآيات القرانية التي جمع الله فيها بين النفس و المال في أمور الجهاد.. لقد قمت ببحث عن تلك الآيات ، فكانت ثماني مرات !! وجدت فيها أمرا عجيبا ..لقد قدم الله المال على النفس سبع مرات ، وكأنه أشق و أصعب
* ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) التوبة
*لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ44) التوبة
الآية الوحيدة التي قدم الله فيها النفس على المال كانت
( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التوبة.. إلى آخر الآية ..
هنا قدم الله النفس لأنه سبحانه و تعالى الذي يشتري ، و يعلم أيها أغلى : النفس أم المال ..بمعنى أن الإنسان من شدة تمسكه بالمال قد يتحرج في الجهاد به أكثر من تحرجه في الجهاد بنفسه!!
ولهذا الأمر تطبيق كبير في الواقع ..وجدناه في أنفسنا و في من حولنا ..وجدنا من يقدم كنز ماله على نفسه و راحتها ومتعتها !! قد يخاطر بسمعته من أجل المال ، مع أن تلويث السمعة إيذاء للنفس ! قد يخاطر بإراقة دماء الوجه من أجل المال ، و إراقة ماء الوجه إيذاء للنفس ! بل قد يخاطر بإخوانه و أحبابه .. وحتى بأبنائه من أجل المال ، يتركهم أعواما و أعواما ..يعمل بعيدا وحيدا حزينا من أجل المال ، وترك الأهل و الأحباب إيذاء للنفس
وفوق كل ذلك ..قد يخاطر الرجل بحياته و نفسه من أجل المال ، وهذا ليس مجرد إيذاء للنفس ..بل هو تضييع لها !! نشاهده كثيرا .. أرأيتم المرتزقة كيف يقاتلون في المعارك الضارية من أجل المال؟ أرأيتم السائق كيف يقود سيارته وهو يغالب النعاس ، فلا يركن إلى راحة معرضا حياته و حياة من معه للضياع من أجل المال؟ أرأيتم مريض القلب طبيبا كان أو مهندسا أو تاجرا .. كيف لا يكف عن الإرهاق في عمله وهو يعلم أنه يعرض نفسه للموت من أجل المال؟
حب المال – إذن – متغلغل تماما في النفس البشرية ، مسيطر تماما على جنباتها ..لماذا؟ لماذا يخلق الله- جلت قدرته و تعاظمت حكمته – الإنسان على هذه الجبلة؟لماذا يفطره على هذه الفطرة؟ ما الحكمة الربانية الجليلة وراء ذلك؟ هذا ما أسميه ( فلسفة الابتلاء)..الله سبحانه و تعالى – بقدرته و حكمته – زرع في النفس أمورا متأصلة فيها ، وعظم جدا حبها فيها ..ولما علم سبحانه وتعالى أنك أصبحت تحبها حبا جما ، ولا تطيق لها فراقا .. هنا طلب منك أن تبذلها في سبيله ، وتنفقها من أجله ..حتى تثبت أنك تقدم حب الله على حب شيء متأصل عميق في الفطرة، وهذا دليل الصدق في حب الله .. ولو طلب الله من الخلق بذل شيء بسيط زهيد لنجح في الاختبار الصادقون والكاذبون .. الأمر ليس تمثيلية هزلية ..الاختبار حقيقي و جاد ..بل هو عسير وشاق ، ولكونه عسيرا وشاقا فإن المكافأة سخية والجائزة عظيمة ..بل هي أعظم من أن يتخيلها البشر ، أو تخطر على أذهانهم .. إنها الجنة !! لو أدركتم حقيقتها لذبتم اشتياقا إليها ..لو أدركتم حقيقتها ما طابت لكم حياة على الأرض..لو أدركتم حقيقتها ما خاطرتم بها ، ولو كان الثمن خزائن الأرض و كنوز الدنيا بأسرها …ترجمة هذا أنك تجد في نفسك حبا فطريا ، وميلا غريزيا للمال ، ثم يطلب الله منك أن تنفقه في سبيله ..هنا لابد أن تعقد مقارنة سريعة حتمية في داخلك : أيهما تحب أكثر : المال ..؟ أم الله ؟ !! نعم يا أخوة ، هذه هي الحقيقة بكاملها : المال .. أم الله ؟؟ كل إنسان سيقول بلسانه : أختار الله على ما سواه ..لكن لابد أن يصدق العمل قول اللسان ، و إلا فما معنى الاختبار؟؟
وترجمة هذا أيضا أنك تجد في نفسك حبا فطريا للآباء و الأبناء و الأزواج والعشيرة ، ثم يأتي موقف إما أن ترضي فيه الأحباب ، و إما أن ترضي فيه الله ..وعليك أن تعقد مقارنة سريعة : الأحباب؟ .. أم الله ؟ و تذكر أن الإجابة ستكون بالفعل لا بالقول .. الأمر جد خطير ، والقضية مصيرية في حياة الإنسان
)قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ
بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24) التوبة
انظر إلى هذه المقارنة ..الجهاد جزء من حب الله و رسوله لكن لماذا يذكر في هذا المقام؟ حتى يلفت النظر إلى قضية ( الفعل لا القول )فلا يكفي أن تقول : أحب الله أكثر ..ولكن لابد من الجهاد في سبيله ، وبذل هذه الأشياء الثمانية المذكورة في الآية ..ولكن ماذا لو لم تفعل؟ (فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين)
أنا أريد أن أحفزكم إلى معاكسة فطرتكم ، ومخالفة ميلكم ، ومقاومة غريزتكم .. وهو أمر من الصعوبة بمكان -كما ترون – و لأني أعلم أني أضعف من أن أحفزكم بقولي ، فقد آثرت أن أحفزكم بقول العليم ببواطنكم ..الخبير بخفايا نفوسكم ..القدير على تصريف قلوبكم ..سأذكر لكم طريقة الله – عز وجل – في التحفيز على الإنفاق ، وهي طريقة عجيبة فريدة معجزة ، جديرة بأن تدرس بعمق ، وتفهم بعناية ، هي طريقة تختلف كثيرا عن طريقته – سبحانه وتعالى – في التحفيز على أمور الخير الأخرى ..طريقة تشعرك فعلا أن قضية إنفاق المال قضية محورية في مسألة الابتلاء و الاختبار ، بل هي قضية محورية في إثبات صدق إيمان العبد.. ولكونه يعلم -سبحانه – أن إخراج المال شاق وعسير ، فقد نوع في طريقته ، وعلم رشوله الكريم صلى الله عليه وسلم وسائل فريدة لتحفيز المسلمين نحو حب الإنفاق ، والوقاية من شح النفوس …
هذه الوسائل ..هي موضوع الصفحات التالية
يتبع
الحلقة الأولى
من يشتري الجنة؟ سلسلة للدكتور راغب السرجانى
منقول
جزاكِ الله خيراً..