تخطى إلى المحتوى

السفر إلى الله تعالى، معالمه، دوافعه، موانعه، مقصده، أعداؤه 2024.

عنوان الحلقة :

امتلاك همة السفر إلى الله تعالى

– إن الهدف من هذه المجالس أن يخرج الإنسان بتغيير جوهري في ذاته، وإلا فالذي يدخل الحمام ثم يخرج وآثار الدرن ما زالت على بدنه، يُعلم بأنه لم يستحم أو لم ينتفع من دخوله؛ لأن حاله قبل الدخول هي ذاتها بعد الخروج.. فدخول الحمام ليس مطلوباً فى حد ذاته، بل إنه يستلزم التخلص من الأدران العالقة بالبدن، ولهذا نلاحظ هذا التشبيه من النبي الأكرم (ص) حيث قال: (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟.. قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا).
فالذي تمر عليه المواسم العبادية في شهر محرم وصفر، وفي موسم رمضان والحج.. دون أن يلمس تغييراً في هذه الروح -والتي شأنها أعلى وأسمى من ذلك البدن- ولم يطهرها من الشوائب والعوالق، مثله كمن يتناول دواءً طلباً للاستشفاء ولكن لا يجده مؤثراً.. والسبب فى ذلك أنه على شكل الدواء، وليس هو الدواء نفسه؛ وإلا كان مؤثرا.. فمن انتفاء الأثر نعلم أن المؤثر ليس هو الحقيقى منه.

– من المعلوم عداء الشيطان الأصيل لبني آدم، فهو لا ينفك عن الإنسان حتى يرديه قتيلا.. فلو أنه يئس من ارتكابه للحرام، تراه يلهيه ويخدره بالحركات العاطفية، ويلقي عليه البكاء والخشوع؛ مغفلاً إياه عن التحرك لتغيير ذاته، وما أن يتحرك للتغيير، فإنه سيجلب عليه بخيله ورجله، ويستنفذ كل طاقته وقواه؛ ليصده عن الحركة.. فالحركات العاطفية لا تهم الشيطان أبداً، ومن هنا تفنن الخوارج -الذين حاربوا أمير المؤمنين (ع)- في ذلك، فالشيطان أقنعهم بالحركات العاطفية والعبادية، وجعلهم في موقف عدائي وقتالي مع إمام زمانهم.
– من الملاحظ في عالم تكامل الأبدان، أن الإنسان ينتقل من مرحلة إلى أخرى بشكل قهري وطبيعي إلى أن يلقى الرب الكريم.. بينما في عالم الأرواح، فإن الحركة التكاملية اختيارية، والذي لا يتحرك ولا يبذل جهده سعياً لتحقيق تكامل روحه، فإن وضعه لن يتغير وسيبقى ثابتاً، فظاهره إنسان بالغ راشد، ولكنه في الواقع يحمل في باطنه طفلاً صغيرا!..
فما دام أن الدنيا ليست بدار قرار، والإنسان شاء أم أبى صائر إلى لقاء ربه تعالى، كيف يمكن له أن يستثمر هذه الفترة من الولادة إلى الموت، لتحقيق اللقاء الاختياري قبل أن يصير إلى اللقاء الإجباري؟.. كيف يموت قبل أن يموت؟..
إن هذا سفر، والمسافر يحتاج إلى دابة، وإلى زاد، وإلى خارطة طريق، وإلى رفقاء، وإلى التعرف على الأعداء والعقبات.. الخ من العناوين المفصلة والعديدة التي قد تناولها علماؤنا الأبرار.
ومع أن هذا بحث تخصصي يحتاج إلى دورات في مكان يعقد لهذا الغرض، ولكننا نعتقد أن مناسبة مجالس الحسين (ع) من أفضل المناسبات لعرض هذا البحث، وأعتقد أن هذا البحث بحث مناسب، وإن شاء الله يحقق الهدف من إقامة مجالسهم (ع).. وإلا فما الفائدة العملية فى أن نذكر الفضائل المجردة من دون برنامج عملي كمثل من يحفز شابا أعزبا فقيرا، لا وظيفة له ولا عمل له، ونفتح شهيته لأن يتزوج -مثلاً- من ملكة جمال العالم، وهو لا يملك المؤهلات الكافية!.. إذا أردنا أن نفتح شهيته، فلا بد أن نفتح له الطريق للوصول، وإذا كان هذا الطريق بعيداً فعلينا أن نذكر له مراحل الوصول.
وإذا كان عاشقاً حقاً فلابد أن يثبت عشقه، ويسعى بكل جهده، ليله ونهاره؛ ليكون على المستوى المطلوب الذي يؤهله للقبول.. وإلا فإنه سيواجه بالصدود والطرد.. ومن الطريف أن أحدهم نقل لى حوارية بين أم شاب فقير وأم بنت يطلبها ذلك الشاب، فاعترضت أم الفتاة قائلة: هذا الشاب عاشق مفلس!.. مما جعل كيان ذلك الذى يسمع الحوارية يهتز، وهو عالم من العلماء.. فإذن، ماذا نعمل لنخرج من واقعنا الذي نحن فيه؟..

– إن قوام السفر أمران:
أولاً: أن يعيش الإنسان حالة التأذي والتبرم من واقعه.
ثانياً: أن يتصور المتع واللذائذ البديلة.
فالإنسان الذي يعيش حالة الارتياح من وضعه في الحياة، ويقنع بحياته المستقرة من جميع النواحي، من الطبيعي أن لا يفكر في السفر.. وأيضاً فإن حالة الشوق وتصور الجمال في الهدف المقصود، يستلزم العزم وشد الرحال.
ولا خلاف في كون طبيعة الحياة الدنيا طبيعة مملولة، ومتعها متع محدودة وزائلة.. إن الإنسان يعيش في هذه الدنيا على أمل أن يحقق شيئاً، أو يصل إلى بغية ما، وهذا هو الذي يجعله يعيش الأنس، ويجعله يكدح ويتعب ويتحمل كل ما يتحمل.. ولكنه كلما تقدم به العمر يضعف هذا الامل، وازدادت وحشته ، فكم من الذين عاش معهم وأنس بوجودهم ثم ارتحلوا عنه، وحتى أدوات التلذذ لديه تضعف مع الزمن.
والغريب أننا نلاحظ أن للانتحار في المترفين، وفي أولاد المترفين نسبة عالية!.. لأن هؤلاء وصلوا إلى آخر الطريق، فالفقير يتعب ويكدح ليصل إلى الغنى، والشاب الأعزب يجاهد ويدرس ويتغرب على أمل ليلة الزفاف والزواج، والأم تتحمل تبعات الحمل وما شابه ذلك:
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} على أمل ساعة ولادة الطفل.. أما الذي وصل إلى الغنى واستغنى، والذي تزوج وجاء بالأولاد، والذي استقر سكنه، والذي اشترى دابته، والذى استقر أمر معاشه كالمتقاعدين مثلا.. ما الذي يجعله يعيش الأنس في هذه الحياة الدنيا؟.. ورد في الحديث عن الرسول الأكرم (ص): الأمل رحمة لأُمّتي، ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجرا.
فإذن، آفة الدنيا أمران: الانقطاع والتمامية.. والثاني: بهجتها بهجة مملولة تزول مع الزمن والألفة ومن هنا قيل: لكل جديد بهجة!..
دخلت بعض البيوت التي أشبه بالقصور، ولكن لا تبقى فيها نصف ساعة إلا وترى كل شيء لا جاذبية له، وكأن هذا البيت كباقي بيوت العالمين لا تميز فيه.. ذهبنا إلى منطقة يقال أنها من أجمل بقاع العالم.. قلت لهم: هذا هو آخر جمال الطبيعة، هذا هو البحر الهادئ، أشجار النخيل الباسقة، الجبال العالية وهي مكتسية بالأشجار الاستوائية الجميلة، وهذا المناخ اللطيف، والنسيم العليل.. ثم ماذا؟.. هذا كمال للطبيعة لا لي أنا، أنا إنسان مسافر، إنسان متفرج أجتاز هذه المنطقة وأعبرها، ما الذي دخل في جوفي؟.. هذه الشجرة جمال للجبل، هذا الموج جمال للبحر، هذه الأزهار جمال للحديقة.. أنا راجع إلى وطني، وأترك كل هذه المناظر.
كنا في سفرة إلى بلد بعيد، اجتمعنا مع الطلبة، قلت لهم: تذكروا ساعة العودة!.. أنتم إقامتكم في هذا البلد الجميل أربع أو خمس أو ست أو سبع سنوات، ولكن سيأتى يوم الفراق إما بالموت، أو أنه فى يوم من الأيام ستركبون الطائرة وترجعون إلى بلادكم.. وهذه الأيام التي قضيمتوها في المتعة المحرمة، سوف تنتهي ولا يبقى منها إلا الحسرات
(شتان بين عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره).

– إن الخطوة الأولى في هذا السفر تبدأ من لحظة الانقلاب والاستفاقة على الواقع الذي يعيشه الإنسان، فالذي يتأمل في نفسه ويعيش حالة التبرم وعدم الرضا، من المرجو له أن يتحرك ويبدأ سفره هذا.. مثله كإنسان خُدر وخُطف، وإذا به يستفيق ويرى نفسه والأعداء يحيطونه من كل جانب، فهذا من المتوقع أن يسعى لتخليص نفسه، ويبادر بالفرار ما أمكنه بكل جهده ووسعه وطاقته، حتى يبتعد ويصل إلى مأمنه.
– إن البعض قد يتعذر بعدم وجود الدليل والمرشد، والحال بأن صاحب الأمر (ع) في كل عصر هو المسؤول والراعي عن لهذه الأمة، وهدفه تنمية القابليات.. نحن نعتقد أن الإمام الحسين (ع) وصل إلى قمة السفر، وأخذ بيده أصحابه، وآخر قابلية نماها، هي قابلية الحر بن يزيد.. فهو بنظرة ملكوتية ولائية أنقذه مما هو فيه، وإلا فإن الحياة التي أمضاها الحر في جهاز الظالمين لم تكن تخوله لهذه النقلة، ولكن يقال بأن الذي جعله يترشح لكرامة ونظرة إمام زمانه، هو صلاته مع الإمام (ع)، واحترامه لمولاتنا فاطمة الزهراء (ع) عندما قال له الإمام: ثكلتك أمك!.. وإذا به يستنكف أن يرد بالمثل وإمامه ابن فاطمة (ع).. وعليه، فإن الحر الذي كان قائد جيش يقاتل إمام زمانه، والذي أرعب قلوب الهاشميات، رأى فيه الإمام الحسين (ع) القابلية، ونمى هذه القابلية بدعائه وبحركته وبقوله.. ومن المعلوم أن صاحب الأمر هو وارث الحسين (ع)، ونحن عندما نقول: (السلام عليك يا وراث أبا عبد الله) مخاطبين إمام زماننا، فعلينا أن نعرف أن هذه الوارثية ليست من ناحية الثأر لدمه فحسب!.. إنما ملكات الأئمة وكل ما يقال عن المعصومين، كلها مجتمعة في إمام زماننا (ع)، وهو راعي هذه الأمة.
وعليه، فإن الذي يقدم قرباناً ويقوم بحركة إيجابية، فإنه -بلا شك- سيكون في محط ألطاف الإمام صاحب العصر (عج) وعنايته، الذي إذا رأى القابليات المتميزة فإنه ينميها.. ويحسن ذكر هذه العبارة الجميلة لأحد العلماء الأجلاء:
(إن الإنسان إذا صار مخلصاً وجاداً في الوصول إلى الله حتى الحائط يتحول له إلى أستاذ، وإلا لا تنفعه مواعظ النبي الأكرم (ص)).. فإذن، المهم على الإنسان أن يبدي صدقه ويثبت حسن نيته.

– إن تصور البدائل الأخرى من اللذائذ، من المحفزات التي تدفع الإنسان إلى السفر.. فالذي يضيق من حر الصيف في مقر سكنه، ويتصور جمال الطبيعة في مكان آخر، لا شك في أنه سيشد الرحال إليه، وإن كلفه الأمر آلاف الدنانير، فكيف إذا كان قد ذهب مسبقاً، ورأى بعينه ذلك الجمال؟!..
من المعلوم أن هناك نعيم أعد للمؤمن في الجنة من الحور، والغلمان، والقصور.. والأرقى من ذلك أن يصل الإنسان إلى مرتبة الخَّلاقية، يقول للشيء: كن!.. فيكون، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى:
{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}، وقوله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}.. ومن اللطيف أن الإنسان عندما يدخل الجنة، تأتيه بطاقة تهنئة من رب العالمين: (من الحي الذي لا يموت، إلى الحي الذي لا يموت).. ولكن هناك ما هو أرقى من ذلك كله!.. فالقرآن الكريم في آية أخرى يقول: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ}.. إن أهل الجنة ينشغلون عن الحور والقصور، بالنظر إلى جمال الوجه الإلهي، فما يعيشونه من النعيم المعنوي -الرضوان الإلهي- لا يقاس أبداً بذلك النعيم الحسي.
هذا النعيم -الذي يمثل أرقى لذائذ الجنة- بإمكان الإنسان أن يعيشه وهو في الحياة الدنيا، أي بإمكانه أن يصل إلى رحيق الجنة.. ولو أعطي إنسان هذا الرحيق، فإن الجنة لا يكون لها أملاً أو شوقاً كبيراً في نفسه؛ لأنه حصل على الفوز العظيم، الذي هو أرقى من الجنة وما فيها.. لهذا علي (ع) يقول ما مضمونه:
جلوسي في المسجد أحب إلي من الجلوس في الجنة، لأن جلوسي في المسجد فيه رضوان ربي.
وقد يقول قائل: إنه إذا وصل إلى الرضوان الإلهي، فإذن ما القيمة المرجوة من الجنة؟..
الجواب: بأن للرضوان الإلهي درجات، قسم منه يُعطى في الحياة الدنيا، وقسم منه يعطى في الآخرة.. كموسى (ع) عندما كلمه الله -عز وجل- في طور سيناء:
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}.
نلاحظ أنه استمع للخطاب الإلهي بكل هدوء، واقتبس ناراً، ثم رجع إلى أهله نبياً.. ولكن في وادٍ آخر لما تجلى ربه للجبل فجعله دكاً، موسى خر صعقا:
{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}.. فالتجلي هو التجلي، ولكن الشحنة رُفعت درجتها، وإذا بموسى يخر صعقا ، ومن المحتمل أنه لو زاد التجلي ، لفنى موسى من الوجود..
والإنسان بطبعه يحب الرحيق، فمع وجود هذه الثمرة الكبرى من هذا السفر، ألا يستحق أن يسافر ليصل إلى رحيق الجنة قبل الدخول للجنة؟!..

– إن البعض -مع الأسف- قد جعل المقامات والدرجات العليا حكراً على أصحاب الحوزات، وأهل النخب في المجتمع.. فإذا كان الأمر كذلك، فلمن يوجه هذا الخطاب الإلهي في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}؟.. وأمير المؤمنين (ع) من يعني في وصفه للمتقين: (فالمتقون فيها هم أهل الفضائل؛ منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع.. غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء.. ولولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب، وخوفا من العقاب.. عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم..)؟..
إن الباب مفتوح للجميع، ومن أراد وصل حيث أنه -تعالى- لا يحتجب عن خلقه إلا أن تحجبهم الأعمال دونه، وكم هم الذين حققوا درجات من القرب الإلهي، وهم من العامة، من أهل الوظائف وغيرهم.. فلنفتح شهيتنا على هذه الدرجات، وأول زاد السفر إلى الله، هذه الهمة للخروج من هذا الواقع.

عنوان الحلقة :

الزاد العلمي أول زاد السائر الله تعالى

<DIV class=Section1 dir=rtl><DIV class=Section1 dir=rtl><DIV class=Section1 dir=rtl><DIV class=Section1 dir=rtl><DIV class=Section1 dir=rtl><DIV class=Section1 dir=rtl><DIV class=Section1 dir=rtl><DIV class=Section1 dir=rtl><DIV class=Section1 dir=rtl><DIV class=Section1 dir=rtl><DIV class=Section1 dir=rtl>
<B>– ذكرنا بأن الإنسان -شاء أم أبى- في سفرة إجبارية على طريقٍ إلى لقاء ربه: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}.
وما دام هنالك لقاء إجباري، لماذا لا يحول اللقاء الإجباري إلى لقاء اختياري، وهذا معنى: موتوا قبل أن تموتوا.
– إن منطق التمثيل منطق جيد لتقريب المعقولات، ومن هنا فإن علماء الأخلاق يشبهون المعقولات بالمحسوسات، كما في تشبيههم للحركة إلى الله -تعالى- بالسفر الآفاقي.. وهذا المنطق استعمله القرآن الكريم حتى في أدق المعاني التوحيدية، حيث يقول تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ}.. وفي آية أخرى نلاحظ بأنه شبه الحياة الدنيا بماء المطر: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}..
فالإنسان الذي يريد أن يسافر ماذا يعمل؟..
– قلنا بأن أول خطوة يتخذها المسافر، هو تصور المتعة والأنس الذي يكمن في الجهة التي يريد الذهاب إليها، إما بنقل الآخرين لمعالم السفر، أو بسفراته السابقة.. ليحاول أن يوجد في نفسه دواعي الإثارة في هذا السفر.
والمسافر لابد له من الزاد، وقد كان المسافر في السفرات القديمة يحمل معه زاده الذي يكفيه، إن السفر إلى الله ليس بأقل من سفرة الحج، أو سفرة السياحة، أو ما شابه ذلك.. فما هو زادنا في هذا السفر؟..
إن الزاد الأول الذي لابد أن يتزود به المسافر إلى الله
تعالى، هو الزاد العلمي.. من المعلوم أن في السيارات الحديثة جهاز مرتبط بالأقمار الصناعية، يمكن أن يوصل الإنسان إلى مقصده، بمجرد أن يضغط على زر تعيين الجهة التي يقصدها، ثم إن هذا الجهاز يسدده في مسيره، ولولا ذلك لتاه في الطريق.
ونحن رأينا كم هم الذين أمضوا شطراً من عمرهم، ثم اكتشفوا أنهم لم يكونوا على الطريق الصحيح، وإن ما كانوا عليه كان يقودهم إلى طريقٍ معاكس لطريق النجاة والسعادة.
فالذي يريد أن يصل إلى لقاء ربه، لابد أن تكون له خارطة ودليل، تبين له منعطفات الطريق وموانعه، والأعداء والأصدقاء.
– إن البعض قد يقول: هل معنى هذا أن يترك الناس وظائفهم وأعمالهم، ويهاجروا جميعاً إلى الحوزات العلمية، وتبقى المستشفيات بلا أطباء، والشركات بلا مدراء، والمشاريع الهندسية بلا مهندسين؟..
الجواب: هو أن الكمال كل الكمال، والفخر كل الفخر، أن يجمع الإنسان بين نشاطه الدنيوي -بأفضل ما يكون- وبين تكامله الروحي.. نحن لم نرَ بأن أصحاب الأئمة (ع) كانوا من المتفرغين لطلب العلم، أي كانت لهم حوزة علمية في زوايا المدينة أو الكوفة من أجل طلب العلم، فقد كانوا من أصحاب المهن: كميثم التمار، الذي كان يبيع تمراته، ثم يجلس على مائدة أمير المؤمنين (ع)، ويتعلم ذلك العلم الذي قاده إلى محل الصلب، وقد كان يلهج بذكر فضائل أمير المؤمنين (ع) إلى لحظاته الأخيرة.. ومنهم الزيات، والصراف.. فكلهم من أصحاب المهن، ومع ذلك فقد وصلوا إلى درجات عليا من القرب الإلهي.
وقد كان أمير المؤمنين (ع) من أكبر المزارعين!.. إذ كان صاحب آبار ارتوازية، يزرع ويكدح ويتعب، مع العلم أن لحظات من عمر علي (ع) تساوي عمر الخلق، ولكنه كان يصرف هذه اللحظات في عمارة الأرض، وما زالت أبيار علي (ع) -في ميقات مسجد الشجرة- تشهد على ذلك.. ومن المعلوم موقف الإمام الباقر (ع) من ذلك الرجل الذي تهكم عليه، عندما رأى الإمام (ع) وهو يعمل في المزرعة، وجسمه يتصبب بالعرق، وكأنه مشغول بالدنيا، إذ بيّن له الإمام (ع) بأنه في حال عبادة.. رأى محمد بن المكندر أبا جعفر الباقر -عليه السلام- خارجا إلى بعض نواحي المدينة في وقت حار وهو يتصبب عرقا، فقال له: إنك من أشياخ المدينة تخرج على مثل هذا الحال لطلب الدنيا، أرأيت لو جاءك أجلك وأنت على هذا الحال؟.. فقال -عليه السلام-:
« إني لا أخاف أن يجيئني أجلي على هذا الحال وأنا في طاعة الله، أكف بها لنفسي وعيالي عنك وعن الناس.. وإنما كنت أخاف لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله». فمع استغراق الإمام في المعاني الإلهية فإنه كان يباشر تلك الأمور.
فإذن، ليس المطلوب الاعتكاف في المسجد، أو الرهبانية، أو أن يكون الجميع من رجال الحوزة.. وإنما أن يحاول -وهو في حركته في الحياة- أن يكون قلبه مع رب العالمين.. لي صديق هو كبير المهندسين وصاحب مشاريع كبرى، وقد كان يسر لي بعض أسراره، ويقول بأنه وصل -بحمد الله- إلى درجة أنه من خلال عمله الهندسي وانشغاله بتخطيط الخرائط الدقيقة، إلى أن يجعل قلبه مع رب العالمين طوال ساعات الدوام.. ومن الطريف أنه كان -بعض الأوقات- أثناء تنقله بين المواقع، تنتابه حالة معنوية، فيوقف سيارته في قارعة الطريق، ويحول الجو إلى جو مناجاة مع رب العالمين، ويشفي غليله ثم يكمل المشوار.. إن غاية سعي المؤمن أن يصل إلى درجة من التكامل، بحيث يتحول الذكر بالنسبة له إلى هواء يستنشقه.. ولو أنه نسي ذكر لله –عز وجل- فإنه يعيش حالة الاختناق، والذي يجعله يبادر إلى ذكر الله عزوجل، ليعيد الحيوية إلى قلبه وفؤاده.. فمثل هذا الإنسان لا يخاف عليه من الغفلة؛ لأنه كلما أراد أن يغفل، فان هذا الاختناق الباطني يدعوه إلى الذكر، مصداقًا لقوله تعالى:
{وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}.
– والذين هم في سن مبكرة فليغتنموا الفرصة للحركة إلى الله كلٌ بحسبه.. وقد رأيت عيّنات من هذا القبيل، وممن هم دون البلوغ، ويعيشون في بيئ بعيدة عن الإسلام والمسلمين، وهم -مع ذلك- يحملون إصراراً بليغا ليكونوا من المتقربين إليه تعالى.. وقد ورد عن الرسول الأكرم (ص) أنه قال: « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ،‏ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّه،‏ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ،‏ وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْه،‏ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ،‏ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ،‏ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ».<SPAN dir=ltr>

<B>– إننا نعتقد أن أغلب الناس يحملون في بواطنهم معادن نفيسة، ولكن -مع الأسف- هذه المعادن مجهولة، أشبه شيء -هذه الأيام- بالآبار النفطية.. فمن المعلوم أن النفط يحتاج إلى جهاز استخراج أولاً، ثم إلى جهاز تكرير ليصفى من الشوائب والعوالق، ثم يصبح بعد ذلك صالحاً ليكون وقوداً يصب في المحركات والسيارات.. والناس كذلك فى أن لأمر يحتاج إلى استكشاف واستخراج وتصفية؛ لكي تحول تلك المعادن المستبطنة إلى وقود يحركهم إلى الأمام..
والدليل على أن هذه الطاقات غير مستخرجة، أن الإنسان في شهر رمضان يرى في نفسه قوة لا مثيل لها طوال أيام السنة.. كنا في بعض البلاد وأقمنا إحياء ليلة القدر تقريبا من المغرب إلى طلوع الشمس.. هؤلاء الذين صبروا معي ما يزيد على اثني عشر ساعة في العبادة، هم من عامة الناس والذي لو ترك أحدهم وشأنه لنام في اليوم أكثر من أربع وعشرين ساعة، ولكن عندما يقع في ظرف متميز تراه يندفع للأمام.. وكذلك في موسم الحج نرى الحجاج في عشرة أو عشرين يوما، يستنفذون طاقاتهم لأجل أداء المناسك.. كنا في ليلة من الليالي في جمع قوم مترفين، وفي بيت يذكرنا بالترف المادي، واقترحنا على الإخوان أن نصلي لربنا بشكل جماعي خمسمائة ركعة، وفعلاً صبروا معي بتعب غير متعارف وأنجزنا ذلك بحمد الله..
رحم الله صاحب الغدير أي العلامة الأمينى يقول:
(البعض قد يستنكر على علي (ع) أنه صلى ألف ركعة، والحال بأنه بعض أهل زماننا من أراد أن يقدم للرضا (ص) هدية فقدم له ألف ركعة في ليلة واحدة).. وأنا عندي مصدر موثق أن صاحب القضية هو نفسه صاحب الغدير، لم يحب أن يرائي فأخفى الأمر.. فإذن، طاقاتنا الحقيقة أكثر بكثير من طاقاتنا المستخرجة، وبعد الاستخراج تحتاج إلى تصفية، وهذه الجلسات من أجل معرفة كيف نصفي الطاقات الباطنية لتحول إلى حركة في الحياة..<SPAN dir=ltr>
جــــزأااااكــــي الله خيراااااااا,,, ونفع الله بيك

حياااكــــ البااااااااريــ

جزاك الله خيرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.