تخطى إلى المحتوى

كلمات تكتب بماء الذهب لابن الجوزي . 2024.

الحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ .

أَمَّا بَعْدُ :

فَمِنْ دُرَرِ مَا كَتَبَ الإمام ابْنُ الجَوْزِيِّ _رَحِمَهُ اللَّهُ_ فِي كِتَابِهِ «صَيْدِ الخَاطِرِ» : الأَسْبَابُ الَّتِي تَجْعَلُ القَلْبَ يَعُودُ إِلَى غَفْلَتِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ المَوْعِظَةِ ، فَذَكَرَ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ ذَلِكَ :

(أَنَّ المَوَاعِظَ كَالسِّيَاطِ ، وَالسِّيَاطُ لاَ تُؤْلِمُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا إِيلاَمَهَا وَقْتَ وُقُوعِهَا) .

فَتَأَمَّلْتُ كَلاَمَهُ _رَحِمَهُ اللَّهُ_ ، فَرَأَيْتُ أَنَّ السِّيَاطَ وَإِنْ كَانَتْ لاَ تُؤْلِمُ بَعْدَ انْقَضَائِهَا إِيلاَمَهَا وَقْتَ وُقُوعِهَا ؛ إِلاَّ أَنَّ المُحَافَظَةَ عَلَى اسْتِصْحَابِ ذِكْرِهَا بَعْدَ انْقِضَائِهَا يَجْعَلُهَا فِي النَّفْسِ كَمَا لَوْ كَانَ الضَّرْبُ بِالسِّيَاطِ مَرَّةً تِلْوَ الأُخْرَى ، وَكَذَلِكَ المَوْعِظَةُ .

وَتَحَمُّلُ النَّاسِ لأَلَمِ السِّيَاطِ مَرَاتِبُ ؛ فَقَدْ يَتَأَلَّمُ مِنْهَا أَحَدُهُمْ وَقَدْ لاَ يَتَأَلَّمُ مِنْهَا غَيْرُهُ ، وَكَذَلِكَ المَوْعِظَةُ ؛ مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَثَّرُ بِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَتَأَثَّرُ .

وَالمُتَأَلِّمُ صِنْفَانِ :

الأَوَّلُ : صِنْفٌ يَشْعُرُ بِالأَلَمِ وَيَكُونُ شَدِيداً عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ بَعْدَ انْقِضَائِهِ ؛ يَنْسَى الأَلَمَ وَلاَ يَذْكُرُهُ ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَنْ يَتَيَقَّظُ قَلْبُهُ بِالمَوْعِظَةِ حَالَ سَمَاعِهَا ، ثُمَّ بَعْدَ انْقِضَائِهَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ غَفْلَتُهُ ، فَلاَ يَتَذَكَّرُهَا .

وَأَكْثَرُ هَؤُلاَءِ الصِّنْفِ : أَصْحَابُ القُلُوبِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي تَشْغَلُهَا الشَّوَاغِلُ الكَثِيرَةُ ، وَتَكُونُ هَذِهِ الشَّوَاغِلُ حَاجِزاً بَيْنَهَا وَبَيْنِ ذِكْرِ المَوَاعِظِ .

وَهَذَا الصِّنْفُ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَتَرَدَّدَ إِلَى المَجَالِسِ الَّتِي فِيهَا المَوَاعِظُ ؛ حَتَّى تَتَجَدَّدَ اليَقْظَةُ فِي قَلْبِهِ .

وَالثَّانِي : صِنْفٌ يَشْعُرُ بِالأَلَمِ ، وَيَكُونُ شَدِيداً عَلَيْهِ ، وَيَبْقَى يَتَذَكَّرُ هَذَا الأَلَمُ ، وَيَذْكُرُهُ _كُلَّمَا تَكَرَّرَ_ .

وَسَبَبُ تَذَكُّرِهِ دَائِماً : هُوَ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ رِقَّةٍ وَكَثْرَةِ تَأَمُّلٍ .

وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَنْ يَتَيَقَّظُ قَلْبُهُ بِالمَوْعِظَةِ حَالَ سَمَاعِهَا ، وَيَبْقَى قَلْبُهُ مُتَيَقِّظاً بِهَا ذَاكِراً لَهَا _وَإِنْ غَفَلَ أَحْيَاناً ، لَكِنَّ الغَالِبَ عَلَيْهِ اليَقَظَةُ_ .

وَهَذَا الصِّنْفُ : هُمْ أَصْحَاب القُلُوبِ الطَّيِّبَةِ الَّذِينَ قَلَّتْ شَوَاغِلُهُمْ ، وَزَهَدُوا بِالدُّنْيَا .

وَأَمَّا غَيْرُ المُتَأَلِّمِ ؛ فَثَلاَثَةُ أَصْنَافٍ :

الأَوَّلُ : صِنْفٌ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُتَحَمِّلٌ لِلأَلَمِ ، وَلاَ أَثَرَ عَلَيْهِ ، وَيُصَرِّحُ بِهَذَا ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَنْ يَسْمَعُ المَوْعِظَةَ وَقَلْبُهُ غَافِلٌ .

وَالثَّانِي : صِنْفٌ قَاسٍ لاَ يَتَأَلَّمُ ، وَيَعْلَمُ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ يُبْدِي خِلاَفَ ذَلِكَ ؛ أَمَلاً فِي الْتِفَاتِ القُلُوبِ إِلَيْهِ ؛ لأَنَّ المُتَأَلِّمَ هُوَ مَنْ تَلْتَفِتُ إِلَيْهِ القُلُوبُ ، أَمَّا غَيْرُ المُتَأَلِّمِ ؛ فَلاَ .

فَالأَلَمُ حَاصِلٌ عِنْدَ رَقِيقِ القَلْبِ ، بَيْنَمَا هُوَ مُرَادٌ _وَلَيْسَ بِحَاصِلٍ_ عِنْدَ قَاسِيهِ .

والثَّالِثُ _وَهُوَ أَهَمُّهُمْ وَأَخَصُّهُمْ بَيْنَ النَّاسِ_ : صِنْفٌ قَاسٍ لاَ يَتَأَلَّمُ ، وَلَكِنَّهُ _لِيَلْفِتَ القُلُوبَ إِلَيْهِ_ ؛ يُوهِمُ نَفْسَهُ وَالآخَرِينَ أَنَّهُ مُتَأَلِّمٌ ، وَهُوَ فِي حَقِيقَتِهِ صَاحبُ قَلْبٍ قَاسٍ _وَلاَ يَشْعُرُ بِذَلِكَ_ .

وَأَكْثَرُ هَذَا الصِّنْفِ _وَلِلأَسَفِ الشَّدِيدِ_ بَعْضُ مَنْ طَلَبَ العِلْمَ ، وَلَكِنِ اخْتَرَقَتْ قَلْبَهُ سِهَامُ الأَخْلاَقِ السَيِّئَةِ وَالطَّبَائِعِ القَبِيحَةِ .

فَمَعَ قُوَّةِ ثَبَاتِ هَذِهِ المَسَاوِئِ فِي قَلْبِهِ _وَالَّتِي يَجْمَعُ مَعَهَا هَذَا القَلْبُ العِلْمَ وَالمَعْرِفَةَ_ ؛ جَعَلَتْهُ يَجْمَعُ _مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُ_ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالقَبِيحِ ، فَيَبْقَى عَلَى حَالَتِهِ هَذِهِ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرَهُ فِيمَا يَعْلَمُ _عَزَّ وَجَلَّ_ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ ؛ فَإِمَّا أَنْ يَهْدِيَهُ ، وَإِمَّا أَنْ يُضِلَّهُ .

وَالغَالِبُ فِي هَذَا الصِّنْفِ : الحَالُ الثَّانِي ؛ لأَنَّ القُبْحَ أَمْرٌ مُنْتَفٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لاَ يَشْعُرُ بِهِ .

وَمِنْ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ عَلَى هَذَا الصِّنْفِ : أَنْ لاَ يفْعَلَ شَيْئاً إِلاَّ وَقَدِ اخْتَلَقَ لِنَفْسِهِ مَا يُوَافِقُ مُرَادَهُ شَرْعاً ، فَيَظُنُّ أَنَّ فِعْلَهُ كُلَّهُ لِلَّهِ ، وَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ حَالَيْنِ :

إِمَّا هَوًى .

وَإِمَّا أَمْرٌ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ …

وَالعَجَبُ _وَهَذَا الوَاقِعُ!_ : أَنْ تَجِدَ عِنْدَ (طَالِبِ العِلْمِ!) مُرَاقَبَةً لِظَاهِرِهِ أَشَدَّ بِكَثِيرٍ جِدًّا مِنْ مُرَاقبَتِهِ لِبَاطِنِهِ ! فَتَجِدُهُ لاَ يُخَالِفُ الشَّرْعَ فِيمَا هُوَ ظَاهِرٌ _كَاللِّبَاسِ وَبَعْضِ سُنَنِ الفِطْرَةِ_ ، فِي حِينِ تَجِدُ فِيهِ صِفَاتٍ قَبِيحَةً _كَالحَسَدِ وَالظَّنِّ مَثَلاً_ !! مَعَ أَنَّ البَاطِنَ وَالظَّاهِرَ مُسْتَلْزِمَانِ لِبَعْضِهِمَا البَعْضَ ! وَلاَ غِنَى عَنْ أَحَدِهِمَا فِي مُرَاقَبَةِ المُؤْمِنِ أَعْمَالَهُ !!

وَأَخِيراً :

أَسْأَلُ اللَّهَ _سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى_ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الكَلِمَاتُ نُصْحاً لِنَفْسِي قَبْلَ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِي .

وَأَسْأَلُهُ _سُبْحَانَهُ_ أَنْ يَرْزُقَنَا الإِخْلاَصَ فِي القَوْلِ وَالعَمَلِ ، وَالظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ .

وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ .

تنبيه : كلمات تحتاج منا إلى تدبر وتأمل من أخ ناصح – وفقه الله – وخاصة لأمثالنا …

محبكم

أبو عمر

شكر الله لك أخى
بارك الله فيك أخي الفاضل ..
وجزاكم الله مثله

وفيكم بارك

اخوكم

ابو عمر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.