أَمَّا بَعْدُ :
فَمِنْ دُرَرِ مَا كَتَبَ الإمام ابْنُ الجَوْزِيِّ _رَحِمَهُ اللَّهُ_ فِي كِتَابِهِ «صَيْدِ الخَاطِرِ» : الأَسْبَابُ الَّتِي تَجْعَلُ القَلْبَ يَعُودُ إِلَى غَفْلَتِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ المَوْعِظَةِ ، فَذَكَرَ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ ذَلِكَ :
(أَنَّ المَوَاعِظَ كَالسِّيَاطِ ، وَالسِّيَاطُ لاَ تُؤْلِمُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا إِيلاَمَهَا وَقْتَ وُقُوعِهَا) .
فَتَأَمَّلْتُ كَلاَمَهُ _رَحِمَهُ اللَّهُ_ ، فَرَأَيْتُ أَنَّ السِّيَاطَ وَإِنْ كَانَتْ لاَ تُؤْلِمُ بَعْدَ انْقَضَائِهَا إِيلاَمَهَا وَقْتَ وُقُوعِهَا ؛ إِلاَّ أَنَّ المُحَافَظَةَ عَلَى اسْتِصْحَابِ ذِكْرِهَا بَعْدَ انْقِضَائِهَا يَجْعَلُهَا فِي النَّفْسِ كَمَا لَوْ كَانَ الضَّرْبُ بِالسِّيَاطِ مَرَّةً تِلْوَ الأُخْرَى ، وَكَذَلِكَ المَوْعِظَةُ .
وَتَحَمُّلُ النَّاسِ لأَلَمِ السِّيَاطِ مَرَاتِبُ ؛ فَقَدْ يَتَأَلَّمُ مِنْهَا أَحَدُهُمْ وَقَدْ لاَ يَتَأَلَّمُ مِنْهَا غَيْرُهُ ، وَكَذَلِكَ المَوْعِظَةُ ؛ مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَثَّرُ بِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَتَأَثَّرُ .
وَالمُتَأَلِّمُ صِنْفَانِ :
الأَوَّلُ : صِنْفٌ يَشْعُرُ بِالأَلَمِ وَيَكُونُ شَدِيداً عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ بَعْدَ انْقِضَائِهِ ؛ يَنْسَى الأَلَمَ وَلاَ يَذْكُرُهُ ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَنْ يَتَيَقَّظُ قَلْبُهُ بِالمَوْعِظَةِ حَالَ سَمَاعِهَا ، ثُمَّ بَعْدَ انْقِضَائِهَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ غَفْلَتُهُ ، فَلاَ يَتَذَكَّرُهَا .
وَأَكْثَرُ هَؤُلاَءِ الصِّنْفِ : أَصْحَابُ القُلُوبِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي تَشْغَلُهَا الشَّوَاغِلُ الكَثِيرَةُ ، وَتَكُونُ هَذِهِ الشَّوَاغِلُ حَاجِزاً بَيْنَهَا وَبَيْنِ ذِكْرِ المَوَاعِظِ .
وَهَذَا الصِّنْفُ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَتَرَدَّدَ إِلَى المَجَالِسِ الَّتِي فِيهَا المَوَاعِظُ ؛ حَتَّى تَتَجَدَّدَ اليَقْظَةُ فِي قَلْبِهِ .
وَالثَّانِي : صِنْفٌ يَشْعُرُ بِالأَلَمِ ، وَيَكُونُ شَدِيداً عَلَيْهِ ، وَيَبْقَى يَتَذَكَّرُ هَذَا الأَلَمُ ، وَيَذْكُرُهُ _كُلَّمَا تَكَرَّرَ_ .
وَسَبَبُ تَذَكُّرِهِ دَائِماً : هُوَ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ رِقَّةٍ وَكَثْرَةِ تَأَمُّلٍ .
وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَنْ يَتَيَقَّظُ قَلْبُهُ بِالمَوْعِظَةِ حَالَ سَمَاعِهَا ، وَيَبْقَى قَلْبُهُ مُتَيَقِّظاً بِهَا ذَاكِراً لَهَا _وَإِنْ غَفَلَ أَحْيَاناً ، لَكِنَّ الغَالِبَ عَلَيْهِ اليَقَظَةُ_ .
وَهَذَا الصِّنْفُ : هُمْ أَصْحَاب القُلُوبِ الطَّيِّبَةِ الَّذِينَ قَلَّتْ شَوَاغِلُهُمْ ، وَزَهَدُوا بِالدُّنْيَا .
وَأَمَّا غَيْرُ المُتَأَلِّمِ ؛ فَثَلاَثَةُ أَصْنَافٍ :
الأَوَّلُ : صِنْفٌ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُتَحَمِّلٌ لِلأَلَمِ ، وَلاَ أَثَرَ عَلَيْهِ ، وَيُصَرِّحُ بِهَذَا ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَنْ يَسْمَعُ المَوْعِظَةَ وَقَلْبُهُ غَافِلٌ .
وَالثَّانِي : صِنْفٌ قَاسٍ لاَ يَتَأَلَّمُ ، وَيَعْلَمُ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ يُبْدِي خِلاَفَ ذَلِكَ ؛ أَمَلاً فِي الْتِفَاتِ القُلُوبِ إِلَيْهِ ؛ لأَنَّ المُتَأَلِّمَ هُوَ مَنْ تَلْتَفِتُ إِلَيْهِ القُلُوبُ ، أَمَّا غَيْرُ المُتَأَلِّمِ ؛ فَلاَ .
فَالأَلَمُ حَاصِلٌ عِنْدَ رَقِيقِ القَلْبِ ، بَيْنَمَا هُوَ مُرَادٌ _وَلَيْسَ بِحَاصِلٍ_ عِنْدَ قَاسِيهِ .
والثَّالِثُ _وَهُوَ أَهَمُّهُمْ وَأَخَصُّهُمْ بَيْنَ النَّاسِ_ : صِنْفٌ قَاسٍ لاَ يَتَأَلَّمُ ، وَلَكِنَّهُ _لِيَلْفِتَ القُلُوبَ إِلَيْهِ_ ؛ يُوهِمُ نَفْسَهُ وَالآخَرِينَ أَنَّهُ مُتَأَلِّمٌ ، وَهُوَ فِي حَقِيقَتِهِ صَاحبُ قَلْبٍ قَاسٍ _وَلاَ يَشْعُرُ بِذَلِكَ_ .
وَأَكْثَرُ هَذَا الصِّنْفِ _وَلِلأَسَفِ الشَّدِيدِ_ بَعْضُ مَنْ طَلَبَ العِلْمَ ، وَلَكِنِ اخْتَرَقَتْ قَلْبَهُ سِهَامُ الأَخْلاَقِ السَيِّئَةِ وَالطَّبَائِعِ القَبِيحَةِ .
فَمَعَ قُوَّةِ ثَبَاتِ هَذِهِ المَسَاوِئِ فِي قَلْبِهِ _وَالَّتِي يَجْمَعُ مَعَهَا هَذَا القَلْبُ العِلْمَ وَالمَعْرِفَةَ_ ؛ جَعَلَتْهُ يَجْمَعُ _مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُ_ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالقَبِيحِ ، فَيَبْقَى عَلَى حَالَتِهِ هَذِهِ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرَهُ فِيمَا يَعْلَمُ _عَزَّ وَجَلَّ_ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ ؛ فَإِمَّا أَنْ يَهْدِيَهُ ، وَإِمَّا أَنْ يُضِلَّهُ .
وَالغَالِبُ فِي هَذَا الصِّنْفِ : الحَالُ الثَّانِي ؛ لأَنَّ القُبْحَ أَمْرٌ مُنْتَفٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لاَ يَشْعُرُ بِهِ .
وَمِنْ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ عَلَى هَذَا الصِّنْفِ : أَنْ لاَ يفْعَلَ شَيْئاً إِلاَّ وَقَدِ اخْتَلَقَ لِنَفْسِهِ مَا يُوَافِقُ مُرَادَهُ شَرْعاً ، فَيَظُنُّ أَنَّ فِعْلَهُ كُلَّهُ لِلَّهِ ، وَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ حَالَيْنِ :
إِمَّا هَوًى .
وَإِمَّا أَمْرٌ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ …
وَالعَجَبُ _وَهَذَا الوَاقِعُ!_ : أَنْ تَجِدَ عِنْدَ (طَالِبِ العِلْمِ!) مُرَاقَبَةً لِظَاهِرِهِ أَشَدَّ بِكَثِيرٍ جِدًّا مِنْ مُرَاقبَتِهِ لِبَاطِنِهِ ! فَتَجِدُهُ لاَ يُخَالِفُ الشَّرْعَ فِيمَا هُوَ ظَاهِرٌ _كَاللِّبَاسِ وَبَعْضِ سُنَنِ الفِطْرَةِ_ ، فِي حِينِ تَجِدُ فِيهِ صِفَاتٍ قَبِيحَةً _كَالحَسَدِ وَالظَّنِّ مَثَلاً_ !! مَعَ أَنَّ البَاطِنَ وَالظَّاهِرَ مُسْتَلْزِمَانِ لِبَعْضِهِمَا البَعْضَ ! وَلاَ غِنَى عَنْ أَحَدِهِمَا فِي مُرَاقَبَةِ المُؤْمِنِ أَعْمَالَهُ !!
وَأَخِيراً :
أَسْأَلُ اللَّهَ _سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى_ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الكَلِمَاتُ نُصْحاً لِنَفْسِي قَبْلَ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِي .
وَأَسْأَلُهُ _سُبْحَانَهُ_ أَنْ يَرْزُقَنَا الإِخْلاَصَ فِي القَوْلِ وَالعَمَلِ ، وَالظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ .
وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ .
تنبيه : كلمات تحتاج منا إلى تدبر وتأمل من أخ ناصح – وفقه الله – وخاصة لأمثالنا …
محبكم
أبو عمر
وفيكم بارك
اخوكم
ابو عمر