بقلم: أ. د عمر بن قينة
كان زميلي، مسؤول الكلية يحثني على الذهاب إلى مقرّ العمل من دون عمل، فقلت له: اعفني من دعوتك، فماذا أفعل هناك اليوم ولامحاضرة لي ولاحاجة للكلية ولا للطلبة بي، ولاحاجة لي بهم في هذا اليوم، فدعني أنسى العمل اليوم وأبتعد عما قد يؤذي نظري أو سمعي من سلوك أو فعل أو قول، فلن أبرح اليوم بيتي، فأنا في حاجة إلى سكينة نفس، وراحة بال، وهدوء بدن، وصمت لسان أيضاً.
هنا كانت (المفاجأة) حين جاء رد صاحبي المسؤول في (العمادة): وماذا تفعل في البيت؟ سيقتلك الضجر والملل!
أعترف أنني ذهلت لأمر صاحبي الذي يقترح علي (الهرب من البيت) لأدنى المبررات، من دون حاجة، وقد ربط البيت بالملل والضجر، والكسل من دون عمل، لكن ماذا عساي أن أعمل في الكلية غير إتاحة الفرصة لازدهار سوق الأقاويل حين أسهم في الإصغاء أو في السؤال من دون نفع للناس، ولا للإدارة ولاللطلبة.
حينئذ لاحت لي معالم جديدة لم أكن أدركها من أسباب (الهرب من البيت) فقد عشت في زمن قَصيّ تجربة (الهرب من البيت) لكنه هرب إيجابي، إلى العزلة مع الطبيعة الناعمة الأنيس الثاني بعد الكتاب، فكانت تحتضنني الطبيعة الوادعة العذبة وأصغي لنجوى الكتاب في الصمت المحيط بي من كل جانب، أما المعالم الجديدة فهي أيضاً نفسية اجتماعية خاصة، لكنها تبحث عن الهرب إلى (الفراغ) أي الهرب السلبي غير المجدي، الهرب من كسل إلى كسل يتلف وقتاً ثميناً، ويهدر مالاً عبثاً، ويجرّ ذنوباً مختلفة، وقد يلحق الأذى بالآخرين، وربّما أوقع الهارب من البيت في سيئة، من دون غنى لا للفكر ولاللرّوح، بل قد يتلوث فيه الفكر والروح معاً فقال محدثي: أتتحمل البقاء في البيت؟ ماذا تفعل؟
هكذا بكل هذه البساطة والسطحية والضحالة، ومنطق (الفراغ) المميت الذي يعصف في نفوس بعضنا، فتضيق الدنيا في وجوههم، وقد باتت محصورة في عمل يومي رتيب وعادات نوم واستيقاظ وطعام.
قلت لصاحبي: بل لا أتحمل البقاء خارج البيت إلاّ في ساعات العمل، فما أن تنقضي هذه حتى أهرع إلى البيت فلا طعام أحلى وألذ من طعام البيت مهما كان بسيطاً، وأحلى لحظات الراحة إنما هي في البيت، في استلقاء على السرير أو متابعة شريط أو قراءة كتاب.
أحلى أوقاتي أقضيها بالبيت متخّفّفاً من عبء العمل وملابسه، وجديته والعلاقات الشكلية التي تتلون باردة.. ظاهرها المودة.. وباطنها في معظم الأحوال النفاق.. في صيغ مجاملات ومداهنات، فأنا في العمل أحن إلى البيت، فإذا كان الهرب من البيت عادة بعض الناس.. فإن العكس قائم لدي، وهو الهروب إليه، الهرب إلى البيت بمجرد انتهاء العمل، أو انتهاء مهمة، أو الفراغ من أي شأن من شؤون الحياة.
في البيت أجد الطمأنينة بعيداً عن التطاحن والصراع حتى في ميدان العمل نفسه، في الجامعة نفسها التي تستدعي طبيعتها تكاتفاً ومودة لاتطاحناً ولاصراعاً، بل تآلفاً وتعاوناً وحواراً ونقاشاً فكرياً راقياً، لامؤامرات ومقالب وتكتلات.
فكيف لاأعذر في الهروب إلى البيت موطن السكينة والأمن والأمان بحول الله وقوته، أسعد بين أطفالي وزوجتي، تحية من هؤلاء وقبلات في صبحهم أوفي مسائهم، بلغة الطفولة «بابا» ينطقها حتى الكبير منهم تطمئنني عليهم، منقلاً النظر بينهم مطمئنين يملأ قلبي الأمل في هنائهم وسعادتهم وتوفيقهم في حياتهم العلمية والعملية والاجتماعية، وحدب من زوجتي على كل شأن من شؤوني، والتفاتتها مقبلة وفي يدها فنجان قهوة لاأحلى منه ولاألذ، فإذا طلبت مزيداً: تحايلت دفعاً للضرر بحجج تبعد علي آثار الفناجين المتلاحقة، فإذا مالمحت عدم اقتناعي أضافت.. من دون جدل.. مع بعض التسويف الجميل، والتماطل العذب.. هذا التماطل لاتمارسه ربة البيت في لحظات أخرى حين أكون بين كتبي وأقلامي وأوراقي.
هاهنا عنصر آخر من عناصر النداء في الهروب إلى البيت بدل الهرب منه، فما أجمل تلك اللحظات المشرقة الندية في مكتبي.. بين كتبي في جلساتها ذات الهيئات المختلفة الوديعة في كل الحالات: قائمة منتصبة أو مائلة متكئة، حتى وهي نائمة تسعدني، أتأملها أو أتلمسها، أشمّها، أجوس بأناملي بين صفحاتها، كما أسعد بأوراقي البيضاء، حولي تنتظر الإخصاب، تحثني وتغريني، فلا تتأخّر أقلامي المتأهبة المختلفة الأحجام والأشكال والألوان، بدورها تؤدي تحية الولاء والوفاء معلنة استعدادها للترجمة عني، صلة وفية صادقة حانية بيني وبين الآخرين، متعاونة أو متناوبة متبادلة المواقع والأدوار، يصحّح أحمرها خطأ أزرقها، ويستدرك على هذا أخضرها، وربّما علق أسودها على لمسة ذلك أو هذا.
فكيف لاأحب الهرب إلى البيت ياصاحبي، بين أهلي، وكتبي وأوراقي. وأقلامي رسلي للآخرين، وهؤلاء الآخرون مصدر آخر من مصادر سعادتي.. وصوت أحدهم يأتي على الطرف الآخر بعد رنين الهاتف.. قارئاً مخلصاً صادقاً وفياً ودوداً أو صديقاً حميماً أو زميلاً كريماً.
فإن كنت ياصاحبي تهوى الهرب.. من البيت، فأنا أحب الهرب إليه مهما كان الموقع الذي كنت فيه سعيداً بهذا الهرب إلى أحلى موقع وأجمل مكان، فهو بعد بيت الله الحرام مهوى الفؤاد، هو مأوى البدن والروح وموطن السكينة والسلام.. أو هكذا أرى، ولهذا أيضاً أرى العمل من أجل اجتثاث عادات الهرب.. من البيت إلى هذر الشارع، وإهدار الوقت فيه: نواصي وزوايا وخنادق، من أجل عملية عكسية تحثنا على الهروب إلى البيت ليقل أذانا، وتخف آثامنا بانتفاء مسبباتها.
اعذرني أيّها الزميل الكريم.. وقد أدهشتني فعلاً دعوتك للهرب من البيت آملاً أن تقتنع يوماً أنّ الهرب إلى البيت أجدى وأنفع للفرد وللجماعة، فإن لم تقتنع فهذا شأنك.. أما شأني فقد حدثتك عنه، فالهرب من البيت هزيمة لكل الأطراف، أما الهرب إليه فهو انتصار، توزّع أوسمته حسب الاستحقاق.. الرابح الكبير فيه المجتمع عامة والوطن، قبل الأفراد والأسر.
فلنعلم أبناءنا حسن العمل والجد فيه والهرب إلى البيت موطن سكينة وهناء، وإلاّ شيدنا لهم الأبواب للهروب من البيت إلى الشوارع والأزقة لنحر أوقاتهم، وإتلاف شبابهم ليكونوا من أسباب قعود أمة، بدل انطلاقها وازدهارها، وتخلّف وطن بدل تقدّمه وتطوّره.
منقوووووووووووووووووووووووووووووو