إن رقة القلوب وخشوعها وانكسارها لخالقها وبارئها منحة من الرحمن وعطية من الديان تستوجب العفو والغفران ، وتكون حرزا مكينا وحصنا حصيناً مكيناً من الغي والعصيان .
ما رقَّ قلبٌ لله عز وجل إلا كان صاحبه سابقا إلى الخيرات مشمرا في الطاعات والمرضاة .
ما رق قلب لله عز وجل وانكسر إلا وجدته أحرص ما يكون على طاعة الله ومحبة الله، فما ذُكّر إلا تذكر، ولا بُصّر إلا تبصر .
ما دخلت الرقة إلى القلب إلا وجدته مطمئنا بذكر الله يلهج لسانه بشكره والثناء عليه سبحانه وتعالى .
وما رق قلب لله عز وجل إلا وجدت صاحبه أبعد ما يكون عن معاصي الله عز وجل .
فالقلب الرقيق قلبٌ ذليل أمام عظمة الله وبطش الله تبارك وتعالى .
ما انتزعه داعي الشيطان إلا وأنكسر خوفا وخشية للرحمن سبحانه وتعالى .
ولا جاءه داعي الغي والهوى إلا رعدت فرائص ذلك القلب من خشية المليك سبحانه وتعالى .
القلب الرقيق صاحبه صدّيق وأي صدّيق .
القلب الرقيق رفيق ونعم الرفيق .
ولكن من الذي يهب رقة القلوب وانكسارها ؟
ومن الذي يتفضل بخشوعها وإنابتها إلى ربها ؟
من الذي إذا شاء قلَبَ هذا القلب فأصبح أرق ما يكون لذكر الله عز وجل،
وأخشع ما يكون لآياته وعظاته ؟
من هو ؟ سبحانه لا إله إلا هو ، القلوب بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فتجد العبد أقسى ما يكون قلب ، ولكن يأبى الله إلا رحمته ، ويأبى الله إلا حلمه وجوده وكرمه .
حتى تأتي تلك اللحظة العجيبة التي يتغلغل فيها الإيمان إلى سويداء ذلك القلب بعد أن
أذن الله تعالى أن يصطفى ويجتبى صاحب ذلك القلب .
فلا إله إلا الله ، من ديوان الشقاء إلى ديوان السعادة ، ومن أهل القسوة إلى أهل الرقة
بعد أن كان فظا جافيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه ، إذا به
يتوجه إلى الله بقلبه وقالبه .
إذا بذلك القلب الذي كان جريئا على حدود الله عز وجل وكانت جوارحه تتبعه في تلك
الجرأة إذا به في لحظة واحدة يتغير حاله ، وتحسن عاقبته ومآله ، يتغير لكي يصبح
متبصرا يعرف أين يضع الخطوة في مسيره .
أحبتي في الله : إنها النعمة التي ما وجدت على وجه الأرض نعمة أجل ولا أعظم منها
، نعمة رقة القلب وإنابته إلى الله تبارك وتعالى . وقد أخبر الله عز وجل أنه ما من
قلب يُحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعودا بعذاب الله ..
قال سبحانه : ( فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ) .
ويل ، عذاب ونكال لقلوب قست عن ذكر الله ، ونعيم ورحمة وسعادة وفوز لقلوب
انكسرت وخشعت لله تبارك وتعالى . لذلك – إخواني في الله – ما من مؤمن صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر كيف السبيل
لكي يكون قلبي رقيقا ؟ كيف السبيل لكي أنال هذه النعمة ؟ فأكون حبيبا لله عز وجل ، ولياً من أوليائه ، لا يعرف الراحة والدعة والسرور إلا في
محبته وطاعته سبحانه وتعالى ، لأنه يعلم أنه لن يُحرم هذه النعمة إلا حُرم من الخير
شيئا كثيرا .
ولذلك كم من أخيار تنتابهم بعض المواقف واللحظات يحتاجون فيها إلى من يرقق
قلوبهم فالقلوب شأنها عجيب وحاله غريب .. تارة تقبل على الخير ، وإذا بها أرق ما
تكون لله عز وجل وداعي الله .
لو سُألت أن تنفق أموالها جميعا لمحبة الله لبذلت ، ولو سألت أن تبذل النفس في سبيل
الله لضّحت .. إنها لحظات ينفح فيها الله عز وجل تلك القلوب برحمته .
وهناك لحظات يتمعر فيها المؤمن لله تبارك وتعالى ، لحظات القسوة ، وما من إنسان إلا تمر عليه فترة يقسو فيها قلبه ويتألم فيها فؤاده حتى يكون أقسى من الحجر والعياذ بالله .
وللرقة أسباب :
الله تبارك وتعالى تكرم وتفضل بالإشارة إلى بيانها في الكتاب .
. فما رق القلب بسبب أعظم من سبب الإيمان بالله تبارك وتعالى ..
ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا كان قلبه رقيقا لله عز وجل ، وكان وقّافا عند حدود الله .
لا تأتيه الآية من كتاب الله ، ويأتيه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال بلسان الحال والمقال : ( سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) .
فما من عبد عرف الله بأسمائه الحسنى وتعرف على هذا الرب الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إلا وجدته إلى الخير سباق، وعن الشر محجام .
فأعظم سبب تلين به القلوب لله عز وجل وتنكسر من هيبته المعرفة بالله تبارك وتعالى ، أن يعرف العبد ربه .. أن يعرفه ، وما من شيء في هذا الكون إلا ويذكره بذلك الرب .
يذكِّره الصباح والمساء بذلك الرب العظيم .. وتذكِّره النعمة والنقمة بذلك الحليم الكريم ..
ويذكِّره الخير والشر بمن له أمر الخير والشر سبحانه وتعالى .
فمن عرف الله رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى ..
والعكس بالعكس فما وجدت قلباً قاسيا إلا وجدت صاحبه أجهل العباد بالله عز وجل ،
وأبعدهم عن المعرفة ببطش الله، وعذاب الله وأجهلهم بنعيم الله عز وجل ورحمة الله . حتى إنك تجد بعض العصاة أقنط ما يكون من رحمة الله ، وأيئس ما يكون من روح
الله والعياذ بالله لمكان الجهل بالله .. فلما جهِل الله جرأ على حدوده ، وجرأ على
محارمه ، ولم يعرف إلا ليلا ونهارا وفسوقا وفجورا ، هذا الذي يعرفه من حياته ، وهذا
الذي يعده هدفا في وجوده ومستقبله .
لذلك – أحبتي في الله – المعرفة بالله عز وجل طريق لرقة القلوب ، ولذلك كل ما
وجدت الإنسان يديم العبرة ، يديم التفكر في ملكوت الله ، كلما وجدت قلبه فيه رقة ،
وكلما وجدت قلبه في خشوع وانكسار إلى الله تبارك وتعالى .
السبب الثاني :
الذي يكسر القلوب ويرققها ، ويعين العبد على رقة قلبه من خشية الله عز وجل النظر
في آيات هذا الكتاب ، النظر في هذا السبيل المفضي إلى السداد والصواب .. النظر في
كتاب وصفه الله بقوله : ( كتابٌ أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) .
ما قرأ العبد تلك الآيات وكان عند قرأته حاضر القلب متفكرا متأملا إلا وجدت العين
تدمع ، والقلب يخشع والنفس تتوهج إيمانا من أعماقها تريد المسير إلى الله تبارك
وتعالى ، وإذا بأرض ذلك القلب تنقلب بعد آيات القرآن خصبة طرية للخير ومحبة الله
عز وجل وطاعته .
وما رق قلب لله عز وجل إلا وجدت صاحبه أبعد ما يكون عن معاصي الله عز وجل
نسأل الله العفو و العافية..
رزقنا الله و إياكم قلوبا خاشعة مطمئنة..
ونسال الله ان يرزقنا هذه القلوب الرقيقه اللهم امين