{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: 134].
فقد أوجب الله عز وجل علينا محبة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن يكون هذا الحب أكثر من حب الآباء والأبناء، والإخوة والزوجات والأموال.
وهدد الله عز وجل من يحب شيئًا من ذلك أكثر من حبه لله عز وجل، أو لرسوله – صلى الله عليه وسلم – أو للجهاد في سبيل الله، فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24]، ثم فسَّقهم الله عز وجل بخاتمة الآية، فقال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
فهذا الحب للنبي – صلى الله عليه وسلم – واجب على الأعيان، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين))[1].
ومن تأمل الخير الواصل إليه من جهة النبي – صلى الله عليه وسلم – علم أنه أحق بالمحبة والتوقير والتعظيم والاتباع من الآباء والأمهات، فإذا كان الآباء والأمهات سببًا في الحياة الفانية، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – سبب في الحياة الدائمة الباقية؛ بل هو – بأبي وأمي – أحب إلينا من أنفسنا، كما قال الله عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6].
ويجب على كل مسلم أن يفدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بنفسه وماله وأهله وولده، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120].
وقال عمر – رضي الله عنه – للنبي – صلى الله عليه وسلم -: "يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي"، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك))، فقال له عمر – رضي الله عنه -: "فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي"، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((الآن يا عمر))[2].
فقوله: ((الآن يا عمر))؛ أي كمل إيمانك الآن.
وهذا الحب الكامل للنبي – صلى الله عليه وسلم – له ثمرات عاجلة وآجلة، فمن ثمرات حب النبي – صلى الله عليه وسلم – تذوق حلاوة الإيمان؛ قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار))[3].
ومن ثمرات هذا الحب الكامل للنبي – صلى الله عليه وسلم – أنه يكون معه في الجنة، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: "يا رسول الله، متى الساعة؟"، قال: ((ما أعددتَ للساعة؟))، قال: "حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم"، قال: ((فإنك مع من أحببت)).
قال أنس – رضي الله عنه -: فما فرحنا بعد الإسلام فرحًا أشد من قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((فإنك مع من أحببت)).
قال أنس – رضي الله عنه -: "فأنا أحب الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم"[4].
وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: "يا رسول الله، كيف تقول في رجل أحب قومًا ولم يلحق بهم؟"، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((المرء مع من أحب))[5].
ولهذا الحب الكامل للنبي – صلى الله عليه وسلم – علامات، فمن وجدت فيه هذه العلامات فقد كمل حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، وليبشر بحلاوة الإيمان وصحبة النبي عليه الصلاة والسلام.
فمن هذه العلامات:
أن المسلم لو خُيِّر بين فقد غرض من أغراضه، أو فقد رؤية النبي – صلى الله عليه وسلم – إن لو كانت ممكنة، فاختار فقد غرض من أغراضه على فقد رؤية النبي – صلى الله عليه وسلم -فهو عند ذلك موصوف بالأحبية المذكورة، وقد توفرت هذه العلامة في الصحابة الكرام، فكانوا يحرصون على صحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – في الدنيا والآخرة.
قال أنس – رضي الله عنه -: "لما دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المدينة أضاء منها كل شيء، ولما لحق النبي- صلى الله عليه وسلم – بالرفيق الأعلى أظلم منها كل شيء، وما نفضنا الأيدي عن دفن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى أنكرنا قلوبنا".
ولما علمت فاطمة – رضي الله عنها – شدة حب الصحابة للنبي – صلى الله عليه وسلم – قالت لأنس – رضي الله عنه -: "يا أنس، أطابت نفوسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟".
فسكت أنس رعاية لحالها، ولسان حاله يقول: ما طابت نفوسنا بذلك، ولكن قهرناها على ذلك، استجابة لأمره، صلى الله عليه وسلم.
جاء رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: "يا رسول الله، إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك"، فلم يرد عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى نزل جبريل – عليه السلام – بهذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69].
العلامة الثانية من علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم: بذل النفس والمال دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن علامات حب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكثر من حب النفس: أن يبذل العبد نفسه وماله حتى يسلم رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
كان أبو طلحة الأنصاري يقول لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم أحد: نحري دون نحرك يا رسول الله، وكان يجوب عليه بترس، ووقاه طلحة بن عبيدالله أحد العشرة المبشرين بيده؛ فَشُلَّت يده.
لما أسر خبيب بن عدي، وعذب عذابًا شديدًا بمكة، قال له أحد المشركين أتحب أن محمدًا مكانك، وأنت معافى في أهلك ومالك، فقال: والله ما أحب أن أكون معافى في أهلي ومالي، ويشاك محمد – صلى الله عليه وسلم – بشوكة، وفي ذلك قيل:
سَأَلُوهُ هَلْ يُرْضِيكَ أَنَّكَ سَالِمٌ وَلَكَ النَّبِيُّ فِدًى مِنَ الإِتْلاَفِ
فَأجَابَ كَلاَّ لاَ سَلِمْتُ مِنَ الرَّدَى وَيُصَابُ أَنْفُ مُحَمَّدٍ بِرُعَافِ
وترس دون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أبو دجانة بنفسه، ويقع النبل في ظهره وهو منحنٍ عليه، حتى كثر فيه النبل.
وفي رواية: وهو لا يتحرك.
وروى الحاكم عن زيد بن ثابت – رضي الله عنه – قال: بعثني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم أحد لطلب سعد بن الربيع رضي الله عنه، وقال لي: ((إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله : كيف تجدك؟)).
قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأصبته في آخر رمق وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت له: يا سعد، إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقرأ عليك السلام، ويقول لك: خبرني كيف تجدك؟
قال: على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – السلام، وعليك السلام، قل له: أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم – وفيكم شفر يطرف، قال: وفاضت نفسه رضي الله عنه[6].
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
ثم أما بعد:
فالعلامة الثالثة من علامات محبة النبي – صلى الله عليه وسلم – الواجبة: المسارعة إلى امتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
لما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – الصحابة الكرام بالخروج إلى حمراء الأسد لتتبع جيش أبي سفيان الغد من غزوة أحد، ما قالوا: عدنا بالأمس، وفينا من الجراح والقتلى، ولكنهم استجابوا لأمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان شاقًّا على النفس، من حبهم لله عز وجل ولرسوله – صلى الله عليه وسلم – وسجل الله عز وجل لهم ذلك في كتابه الخالد، فنزل قوله عز وجل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 172 – 174].
ومن ذلك مسارعتهم إلى إراقة الخمر بعد تحريمها:
روى البخاري عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانًا وفلانًا، إذ جاء رجل فقال: وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: وما ذاك؟ قال: حرمت الخمر، قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس، قال: فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبر الرجل[7].
العلامة الرابعة من علامات محبة النبي – صلى الله عليه وسلم -: نصر سنته، والذب عن شريعته.
فمن ذلك إصرار أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – على بعث جيش أسامة بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – وارتداد من ارتد من الأعراب، وقد أشار عليه بعض الصحابة بإبقائه بالمدينة فقال – رضي الله عنه -: أنا أحبس جيشًا بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد اجترأت على أمر عظيم، والذي نفسي بيده لأن تميل العرب أحب إلي من أن أحبس جيشًا بعثهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية عند الطبري قال: والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته.
ومن ذلك فرح حرام بن ملحان بالشهادة، وهو يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم: روى البخاري عن أنس – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث خاله – أخ لأم سليم – في سبعين راكبًا، فانطلق حرام أخو أم سليم وهو رجل أعرج، ورجل من بني فلان، قال حرام: كونوا قريبًا حتى آتيهم، فإن آمنوني كنتم قريبًا مني، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم، فقال: أتؤمنوني أن أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فجعل يحدثهم فأومؤوا إلى رجل، فأتاه من خلفه فطعنه، قال همام: أحسبه حتى أنفذه بالرمح، قال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة[8].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعلِ راية الحق والدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه، اللهم اهدنا واهد بنا وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وانصرنا على من بغى علينا.
وصل اللهم وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
[1] البخاري (14) ومسلم (63) من حديث أنس رضي الله عنه.
[2] رواه البخاري (6632) الأيمان والنذور.
[3] رواه البخاري (16) الإيمان، ومسلم (43) الإيمان.
[4] رواه مسلم (2639) البر والصلة.
[5] رواه البخاري (6169) الأدب، ومسلم (2640) البر والصلة والآداب.
[6] الحاكم (3/221) وقال: "صحيح الإسناد".
[7] رواه البخاري (4617) التفسير.
[8] البخاري (4251