تخطى إلى المحتوى

أثر الخواطر والأفكار على المسلم 2024.

  • بواسطة


أثر الخواطر والأفكار

مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنهاتُوجب التصوُّرات، والتصوُّرات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة، فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها.
فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليِّها وألهها، صاعدة إليه، دائرة على مرضاته ومحابِّه، فإنه سبحانه به كل صلاح، ومن عنده كل هدى، ومن توفيقه كل رشد، ومن تولِّيه لعبده كل حفظ، ومن تولِّيه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء، فيظفر العبد بكل خير وهدى ورشد بقدر إثبات عين فِكْرَته في آلائه ونعمه، وتوحيده، وطرق معرفته، وطرق عبوديته وإنزاله إيِّاه حاضرًا معه، مشاهدًا له، ناظرًا إليه، رقيبًا عليه، مطَّلعًا على خواطره وإرادته وهمِّه، فحينئذ يستحي منه ويجلِّه أن يُطْلِعه منه على عورة يكره أن يطلع عليها مخلوق مثله، أو يرى في نفسه خاطرًا يَمْقُتُه عليه.
فمتى أنزل ربه هذه المنزلة منه رفعه، وقرَّبه منه، وأكرمه، واجتباه ووالاه، وبقدر ذلك يبعد عن الأوساخ والدناءات، والخواطر الرديئة، والأفكار الدنيئة، كما أنه كلما بَعُد منه، وأعرض عنه، وقَرُب من الأوساخ والدناءات والأقذار، ويُقْطَع عن جميع الكمالات، ويتَّصل بجميع النقائص.
فالإنسان خير المخلوقات إذا تقرَّب من بارئه، والتزم أوامره ونواهيه، وعمل بمرضاته وآثره على هواه، وشرُّ المخلوقات إذا تباعد عنه، ولم يتحرك قلبه لقربه وطاعته وابتغاء مرضاته، فمتى اختار التقرب إليه وآثره على نفسه وهواه، فقد حكَّم قلبه وعقله وإيمانه على نفسه وشيطانه، وحكَّم رشده على غيِّه، وهداه على هواه، ومتى اختار التباعد منه، فقد حكَّم نفسه وهواه وشيطانه على عقله وقلبه ورشده.
واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدِّي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤدِّيها إلى التذكر، فيأخذها الذكر فيؤدِّيها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤدِّيها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها.
ومعلوم أنه لم يُعْط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها، فإنها تهجم عليه هجوم النفس؛ إلا أن قوة الإيمان والعقل تُعِينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها وكراهته له نفرته منه، كما قال الصحابة: يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حُمَمَة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: (أو قد وجدتموه؟)، قالوا: نعم،قال: (ذاك صريح الإيمان)، وفي لفظ: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة)، وفيه قولان:
أحدهما: أن رده وكراهيته صريح الإيمان.
والثاني: أن وجوده وإلقاء الشيطان له في النفس صريح الإيمان،فإنه إنما ألقاه في النفس طلبًا لمعارضة الإيمان و إزالته به.
وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهةً بالرَّحى الدائرة التي لا تَسْكُن، ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حبٌ طحنته، وإن وضع فيها تراب أو حصا طحنته، فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرَّحى، ولا تبقى تلك الرَّحى معطلة قط؛ بل لا بد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حبًا يخرج دقيقًا ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملًا وحصًا وتبنًا ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبيَّن له حقيقة طحينه.
فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته صار فكرًا جوَّالًا، فاستخدم الإرادة فتساعدت هي والفكر على استخدام الجوارح، فإن تعذَّر استخدامها رجعا إلى القلب بالتمني والشهوة وتوجِّهه إلى جهة المراد.
ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد، فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون مالا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر ومن فكَّر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه، فالفْكِر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصَّتُك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك.
ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئًا خسيسًا لم يكن في سائر أمره إلا كذلك.
وإياك أن تُمَكِّن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك، فإنه يفسدها عليك فسادًا يصعب تداركه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضِرّة،ويحول بينك وبين الفِكْر فيما ينفعك،وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك،فمَلَكها عليك،فمثالك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب،فأتاه شخص معه حِمْل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته،فإن طرده ولم يمكِّنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه، وإن مكَّنه في إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحبِّ و خرج الطحين كله فاسدًا.
وقال في موطن آخر:
وجماع إصلاح ذلك أن تُشَْل فكرك في باب العلوم والتصوُّرات بمعرفة:
* ما يلزمك التوحيد وحقوقه.
* وفي الموت وما بعده إلى دخول إلى الجنة والنار.
* وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها.
* وفي باب الإرادات والعزوم أن تَشْغَل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته وطرح إرادة ما يضرك إرادته.
وعند العارفين: أن تمني الخيانة وإشغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من نفس الخيانة؛ ولا سيما إذا فرَّغ قلبه منها بعد مباشرتها،فإن تمنِّيها يَشْغَل القلب بها ويملؤه منها، ويجعلها همَّه ومراده.

فوائد الفوائد
للإمام ابن القيم -رحمه الله-

بارك الله فيك

ومعلوم أنه لم يُعْط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها، فإنها تهجم عليه هجوم النفس؛ إلا أن قوة الإيمان والعقل تُعِينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها وكراهته له نفرته منه

رحم الله ابن القيم، و جزاكِ خيراً..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.