نحن نعلم ان الله العزيز الحكيم خلق الانسان وجعل منه زوجين الذكر والانثى ، قال تعالى: ( ياايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) ، ولم يقتصر هذا النظام على الانسان فقط بل تعداه ليشمل مملكة الحيوان ، فقد جاء فيما قال تعالى : ( وانه خلق الزوجين الذكر والانثى* من نطفة اذا تمنى ) ، وقول الله تعالى : ( قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ) ، فالانسان والشطر الاكبر من فصائل الحيوان والنبات خلقوا جميعا في صورة ذكر وانثى ، هذا مايخبرنا القران وما تعلمناه في علوم الاحياء ، وبالاضافة الى ذلك نرى في الاية التالية شمولا اكبر واعم ، قال تعالى : ( ومن كل شيئ خلقنا زوجين لعلكم تتذكرون ) ، فكلمة شيئ هنا فهمها من قبلنا ويفهمها اكثرنا على انها تشمل الانسان والحيوان والنبات فقد جمع القران ذكرهم في هذه الاية واخبرنا بانه جعل من كل المخلوقات الحية زوجين ، وقد يكون الامر كذلك ، لكن اذا امعنا النظر لوجدنا ان كلمة " شيئ " فيها شمول اكثر من النبات والحيوان والانسان … انها تشمل الجماد ايضا ، فهل في الجماد زوجين؟
من اجل الاجابة عن هذا السؤال نحتاج لعودة قصيرة الى فيزياء الجسيمات في النصف الاول من القرن العشرين ، عندما كان احد الفيزيائيين الانجليز ـ واسمه ديراك Dirak ـ يقوم بابحاث على معدلات الالكترونات، والالكترونات كما نعلم هي جسيمات سالبة الشحنة تدور حول نواة الذرة ، وفي اثناء قيامه بهذه الابحاث اكتشف ديراك ان المعادلات لها حلين وليس لها حل واحد ، واي واحد منا تعامل مع معادلات الدرجة الثانية يستطيع ان يدرك بسهولة هذا الموقف ، فمعادلات الدرجة الثانية تحتوي على مربع كمية مجهولة ، والكمية المربعة دائما موجبة ، فحاصل ضرب2*2 يعطي اربعة كذلك حاصل ضرب (-2*-2) يعطي ايضا نفس النتيجة ، ومعنى ذلك ان الجذر التربيعي لـ4 هو اما 2او-2 ، وقد كانت معادلات ديراك اكثر تعقيدا من هذا المثال ولكن المبدأ هو نفسه ، فقد حصل على مجموعتين من الحلول احداهما للالكترونات سالبة الشحنة والاخرى لجسم مجهول موجب الشحنة.
وقد قام ديراك ببعض المحاولات الغير ناجحة لتفسيرهذا الجسيم المجهول ، فقد كان يؤمن بوجوده ولكن الفيزيائيون تجاهلوا بعد ذلك فكرة وجود جسيم موجب الشحنة ممكن ان يكون قرينا للالكترونات ، تماما كما يتجاهل المهندس الذي يتعامل مع معادلات الدرجة الثانية الحلول التي تعطى اطوالا اوكتلا سالبة.
وبعد عدة سنوات من اعمال ديراك النظرية وفي اوائل الثلاثينات اكتشف اثار هذا الجسيم المجهول في جهاز يسمى بغرفة الضباب (cloud chambre ) ، وعند دراسة تاثير المجال المغناطيسي على هذه الاثار اكتشف ان كتلة ذلك الجسيم تساوي كتلة الالكترون وانه يحمل شحنة موجبة ومساوية لشحنة الالكترون ، وعندئذ سمي هذا الجسيم بقرين الالكترون ( Antielectron) او بالبوزترون ( Positron ) ، ومن ثم بدأ البحث عن قرائن الجسيمات الاخرى ، وفعلا بدأ اكتشاف هذه القرائن الواحد تلو الاخر وسوف نكتفي بذكر نتيجتها النهائية وهي وجود قرين لكل جسيم بل ولكل جسم .
واكتشاف قرين المادة يخبرنا باحتمال وجود عالم اخر يناظر عالمنا المادي ويتكون من قرائن الجسيمات أي من قرين المادة ، والسؤال الذي يطرح نفسه هو : أين هو هذا العالم الذي يتكون من قرين المادة ؟
هذا هو السؤال الذي لم يستطع احد الاجابة عليه، فالارض تتكون اساسا من مادة وليس من قرائن المادة ، اما قرائن المادة التي يتم انتاجها في الاشعة الكونية (cosmic rays ) او في معجلات الجسيمات ( Particle accelerator) فهي لا تعيش مدة طويلة في الاجواء الارضية، فبمجرد ان تنخفض سرعتها بعض الشيئ يتحتم عليها ان تواجه مصيرها المؤلم الذي لاتستطيع الفرار منه وهو المحق او الابادة بواسطة المادة المقابلة لها والتي تملأ اجواء الارض ، فعندما يتقابل الجسيم مع قرينه او المادة مع قرينها يبدد كل منهما الاخر ويختفي الاثنان في شيئ يشبه الانفجار متحولين كليهما الى طاقة معظمها في صورة اشعة جاما.
واحد الالغاز التي حيرت الفيزيائيين هو مقدار القرائن الداخلية في بناء هذا الكون فهل تعتبر الارض نموذجا مصغرا لبقية الكون؟ أي هل تزيد نسبة المادة في الكون كله عن نسبة قرائنها كما هو الحال في الارض؟ قد نستطيع الجزم بان نسبة قرائن المادة في مجرتنا نسبة ضئيلة والا تبددت اكثر المواد الموجودة بين النجوم ولسجلت مراصدنا كميات اكبر بكثير من اشعة جاما ، ولكن مايدرينا ان الامر لا يختلف كثيرا عن ذلك في المجرات الاخرى البعيدة التي تقع في اطراف الكون النائية ؟ فلربما وجدت مجرات باكملها تسمى بقرائن المجرات وتتكون من قرائن النجوم واذا سلمنا بوجود قرين للمجرة ، وجدنا انفسنا امام سؤال محير اخر هو : مالذي يمنع المجرة وقرينها من الاقتراب من بعضها ومن ثم التبدد والزوال؟ هل هو الفراغ الكوني الهائل والمسافات الشاسعة التي اوجدها العلي القدير لتفصل بين المجرات وقرائنها؟ وهل تقدم لنا هذه النظرية تفسيرا جديدا لقوله العزيز الحكيم : ( ان الله يمسك السماوات والارض ان تزولا وان زالتا ان امسكهما من احد من بعده انه كان حليما غفورا ) ؟
فتبدد المجرات وقرائنها وزوالها بهذه الطريقة قد يكون في لحظات وتكون نتيجتها كمية كبيرة من الطاقة فتبدو السماء وكانها وردة كالدهان ، قال تعالى: ( فاذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ) ، ونحن لانستطيع ان نتصور انشقاق السماء كيف ستنشق؟ واي جزء منها سيبدو منشقا؟ ولكن اذا حدث وانفجرت مجرتنا مع قرينتها فذلك يعني تبدد كل مستوى المجرة الذي نراه نحن من داخلها وكانه يقسم الكون الى قسمين فتبدو السماء منشقة وعندئذ تنكدر النجوم وتنطمس فكل نجم يتبدد عندما يقترب من قرين النجم ، قال تعالى: ( اذا السماء انفطرت * واذا الكواكب انتثرت ) ، وسينتج عن ذلك اضطرابات هائلة على كوكبنا الارض قال تعالى: ( واذا البحار فجرت ) وقال تعالى: ( واذا الجبال سيرت ) وقال تعالى: ( واذا القبور بعثرت ) .
انها علامات الساعة التي اخبرنا الخالق بها .. وقد يقدم لنا موضوع فيزياء الجسيمات وقرائنها تفسيرا لها ، فزوال المادة وقرينها اصبح حقيقة علمية تحدث يوميا في معجلات الجسيمات التي تحول الطاقة الى مادة ، واذا عدنا الى الاية الكريمة: (ومن كل شيئ خلقنا زوجين) لوجدنا ان اجابتنا ستكون بالايجاب على سؤال وجود الجماد او المادة في صورة زوجين : المادة وقرينها ، فالخلاق الكريم لم يخلق الانسان والحيوان والنبات فقط في صور زوجين بل جعل من كل شيئ زوجين حتى من الجماد والمادة وهذا هو تفسير الشمول التام الذي نراه في الاية : ( ومن كل شيئ خلقنا زوجين لعلكم تتذكرون ) .
وجزاك الله كل خير