تفسير السعدي للآية 23 من سورة الحديد
23 "لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا
بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ "
وأخبر الله عباده بذلك, لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم, ويبنوا
عليها ما أصابهم من الخير والشر. فلا يأسوا ويحزنوا, على ما
فاتهم, مما طمحت له أنفسهم, وتشوفوا إليه, لعلمهم أن ذلك مكتوب
في اللوح المحفوظ, لا بد من نفوذه ووقوعه, فلا سبيل إلى دفعه.
ولا يفرحوا بما آتاهم الله, فرح بطر وأشر, لعلمهم أنهم ما أدركوه
بحولهم وقوتهم, وإنما أدركوه بفضل الله ومنه, فيشتغلوا بشكر من
أولى النعم, ودفع النقم, ولهذا قال: " وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ " أي: متكبر فظ, معجب بنفسه, فخور بنعم
الله, ينسبها إلى نفسه, وتطغيه وتلهيه كما قال تعالى: " ثُمَّ
إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ
عَلَى عِلْمٍ "
تفسير القرطبي
قوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض" قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار. وقيل: الجوائح في الزرع. "ولا في أنفسكم" بالأوصاب والأسقام، قال قتادة. وقيل: إقامة الحدود، قال ابن حيان. وقيل: ضيق المعاش، وهذا معنى رواه ابن جريج. "إلا في كتاب" يعني في اللوح المحفوظ. "من قبل أن نبرأها" الضمير في "نبرأها" عائد على النفوس أو الأرض أو المصائب أو الجميع. وقال ابن عباس: من قبل أن يخلق المصيبة. وقال سعيد بن جبير: من قبل أن يخلق الأرض والنفس. "إن ذلك على الله يسير" أي خلق ذلك وحفظ جميعه "على الله يسير" هين. قال الربيع بن صالح: لما أخذ سعيد بن جبير رضي الله عنه بكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه. قال: فلا تبك فإنه كان في علم الله أن يكون، ألم تسمع قوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسك" الآية. وقال ابن عباس: لما خلق الله القلم قال له اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. ولقد ترك لهذه الآية جماعة من الفضلاء الدواء في أمراضهم فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكلا عليه، وقالوا قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة، فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نرأها". وقد قيل: إن هذه الآية تتصل بما قبل، وهو أن الله سبحانه هون عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال وما يقع فيها من خسران، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له، وإنما على المرء امتثال الأمر.
قوله تعالى: "لكيلا تأسوا على ما فاتكم" أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه. وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه) ثم قرأ "لكيلا تأسوا على ما فاتكم" إي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم "ولا تفرحوا بما آتاكم" أي من الدنيا، قال ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: من العافية والخصب. وروى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا. والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز، قال الله تعالى: "والله لا يحب كل مختال فخور" أي متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس. وقراءة العامة "آتاكم" بمد الألف أي أعطاكم من الدنيا. واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو "أتاكم" بقصر الألف واختاره أبو عبيد. أي جاءكم، وهو معادل لـ "فاتكم" ولهذا لم يقل أفاتكم. قال جعفر بن محمد الصادق: يا ابن آدم ما لك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت. وقيل لبرزجمهر: أيها الحكيم! مالك لا تحزن على ما فات، ولا تفرح بما هو آت؟ قال: لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة. وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى: الدنيا مبيد ومفيد، فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد آذن بالرحيل. وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار، وكلاهما شرك خفي. والفخور بمنزلة المصراة تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن، فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدع فهو الفخور.
قوله تعالى: "الذين يبخلون" أي لا يحب المختالين "الذين يبخلون" فـ "الذين" في موضع خفض نعتا للمختال. وقيل: رفع بابتداء أي الذين يبخلون فالله غني عنهم. قيل: أراد رؤساء اليهود الذين يبخلون ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي في كتبهم، لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلهم، قال السدي والكلبي. وقال سعيد بن جبير: "الذين يبخلون" يعني بالعلم "ويأمرون الناس بالبخل" أي بألا يعلموا الناس شيئا. زيد بن اسلم: إنه البخل بأداء حق الله عز وجل. وقيل: إنه البخل بالصدقة والحقوق، قال عامر بن عبدالله الأشعري. وقال طاوس: إنه البخل بما في يديه. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وفرق أصحاب الخواطر بين البخل والسخاء بفرقين: أحدهما أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك. والسخي الذي يلتذ بالإعطاء. الثاني: أن البخيل الذي يعطي عند السؤال، والسخي الذي يعطي بغير سؤال. "ومن يتول" أي عن الإيمان "فإن الله هو الغني الحميد" غني عنه. ويجوز أن يكون لما حث على الصدقة أعلمهم أن الذين يبخلون بها ويأمرون الناس بالبخل بها فإن الله غني عنهم. وقراءة العامة "بالبخل" بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحميد وابن محيصن وحمزة والكسائي "بالبخل" بفتحتين وهي لغة الأنصار. وقرأ أبو العالية وابن السميقع "بالبخل" بفتح الباء وإسكان الخاء. وعن نصر بن عاصم "البخل" بضمتين وكلها لغات مشهورة. وقد تقدم الفرق بين البخل والشح في آخر "آل عمران".
وقرأ نافع وابن عامر "فإن الله الغني الحميد" بغير "هو". والباقون "هو الغني" على أن يكون فصلا. ويجوز أن يكون مبتدأ و"الغني" خبره والجملة خبر إن. ومن حذفها فالأحسن أن يكون فصلا، لأن حذف الفصل أسهل من حذف المبتدأ.
تفسير الطبري
القول في تأويل قوله تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}
يعني تعالى ذكره: ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في أموالكم ولا في أنفسكم، إلا في كتاب قد كتب ذلك فيه من قبل أن نخلق نفوسكم {لكيلا تأسوا} يقول: لكيلا تحزنوا {على ما فاتكم} من الدنيا، فلم تدركوه منها {ولا تفرحوا بما آتاكم} منها.
ومعنى قوله: {بما آتاكم} إذا مدت الألف منها: بالذي أعطاكم منها ربكم وملككم وخولكم؛ وإذا قصرت الألف، فمعناها: بالذي جاءكم منها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26070- حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس {لكيلا تأسوا على ما فاتكم} من الدنيا {ولا تفرحوا بما آتاكم} منها.
26071- حدثنا عن الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا إسحاق بن منصور، عن قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس {لكيلا تأسوا على ما فاتكم} قال: الصبر عند المصيبة، والشكر عند النعمة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سماك البكري، عن عكرمة، عن ابن عباس {لكيلا تأسوا على ما فاتكم} قال: ليس أحد إلا يحزن ويفرح، ولكن من أصابته مصيبة فجعلها صبرا، ومن أصابه خير فجعله شكرا.
26072- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله عز وجل: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} قال: لا تأسوا على ما فاتكم من الدنيا، ولا تفرحوا بما أتاكم منها.
واختلفت القراء في قراءة قوله: {لما آتاكم} فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والكوفة {بما آتاكم} بمذ الألف. وقرأه بعض قراء البصرة "بما أتاكم" بقصر الألف؛ وكأن من قرأ ذلك بقصر الألف اختار قراءته كذلك، إذ كان الذي قبله على ما فاتكم، ولم يكن على ما أفاتكم، فيرد الفعل إلى الله، فألحق قوله: وبما أتاكم "به، ولم يرده إلى أنه خبر عن الله.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان صحيح معناهما، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وإن كنت أختار مد الألف لكثرة قارئي ذلك كذلك، وليس للذي اعتل به منه معتلو قارئيه بقصر الألف كبير معنى، لأن ما جعل من ذلك خبرا عن الله، وما صرف منه إلى الخبر عن غيره، فغير خارج جميعه عند سامعيه من أهل العلم أنه من فعل الله تعالى، فالفائت من الدنيا من فاته منها شيء، والمدرك منها ما أدرك عن تقدم الله عز وجل وقضائه، وقد بين ذلك حل ثناؤه لمن عقل عنه بقوله: {ما أصاب من مصيبه في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} فأخبر أن الفائت منها بإفاتته إياهم فاتهم، والمدرك منها بإعطائه إياهم أدركوا، وأن ذلك محفوظ لهم في كتاب من قبل أن يخلقهم.
.قوله: {والله لا يحب كل مختال فخور} يقول: والله لا يحب كل متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس.
تفسير ابن كثير
يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم ) أي في الآفاق وفي نفوسكم ( إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) أي من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة وقال بعضهم من قبل أن نبرأها عائد على النفوس وقيل عائد على المصيبة والأحسن عوده على الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها
كما قال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن منصور بن عبد الرحمن قال كنت جالسا مع الحسن فقال رجل سله عن قوله تعالى ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) وسألته عنها فقال سبحان الله ومن يشك في هذا كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة وقال قتادة ما أصاب من مصيبة في الأرض قال هي السنون يعني الجدب ( ولا في أنفسكم ) يقول الأوجاع والأمراض وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولانكبة قدم ولاخلجان عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر وهذه الآيةالعظيمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق قبحهم الله قال الإمام أحمد < 2/169 > حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا حيوة وابن لهيعة قالا أخبرنا أبو هانئ الخولاني أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ورواه مسلم < 2653 > من حديث عبد الله بن وهب وحيوة بن شريح ونافع بن زيد ثلاثتهم عن أبي هانئ به وزاد ابن وهب وكان عرشه على الماء ورواه الترمذي < 2156 > وقال حسن صحيح وقوله تعالى ( إن ذلك على الله يسير ) أي أن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله عز وجل لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون وقوله تعالى ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولاتفرحوا بما آتاكم ) أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها وتقديرها للكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم وما أخطئكم لم يكن ليصيبكم فلا تأسوا على ما فاتكم لأنه لو قدر شيء لكان ( ولا تفرحوا بما آتاكم ) أي جاءكم وتفسير آتاكم أي أعطاكم وكلاهما متلازم أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم فلا تتخذوا نعم الله أشرا وبطرا تفتخرون بها على الناس ولهذا قال تعالى ( والله لا يحب كل مختال فخور ) أي مختال في نفسه متكبر فخور أي على غيره وقال عكرمة ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا ثم قال تعالى ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ) أي يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه ( ومن يتول ) أي عن أمر الله وطاعته ( فإن الله هو الغني الحميد ) كما قال موسى عليه السلام ( إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد )
23 "لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا
بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ "
وأخبر الله عباده بذلك, لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم, ويبنوا
عليها ما أصابهم من الخير والشر. فلا يأسوا ويحزنوا, على ما
فاتهم, مما طمحت له أنفسهم, وتشوفوا إليه, لعلمهم أن ذلك مكتوب
في اللوح المحفوظ, لا بد من نفوذه ووقوعه, فلا سبيل إلى دفعه.
ولا يفرحوا بما آتاهم الله, فرح بطر وأشر, لعلمهم أنهم ما أدركوه
بحولهم وقوتهم, وإنما أدركوه بفضل الله ومنه, فيشتغلوا بشكر من
أولى النعم, ودفع النقم, ولهذا قال: " وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ " أي: متكبر فظ, معجب بنفسه, فخور بنعم
الله, ينسبها إلى نفسه, وتطغيه وتلهيه كما قال تعالى: " ثُمَّ
إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ
عَلَى عِلْمٍ "
تفسير القرطبي
قوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض" قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار. وقيل: الجوائح في الزرع. "ولا في أنفسكم" بالأوصاب والأسقام، قال قتادة. وقيل: إقامة الحدود، قال ابن حيان. وقيل: ضيق المعاش، وهذا معنى رواه ابن جريج. "إلا في كتاب" يعني في اللوح المحفوظ. "من قبل أن نبرأها" الضمير في "نبرأها" عائد على النفوس أو الأرض أو المصائب أو الجميع. وقال ابن عباس: من قبل أن يخلق المصيبة. وقال سعيد بن جبير: من قبل أن يخلق الأرض والنفس. "إن ذلك على الله يسير" أي خلق ذلك وحفظ جميعه "على الله يسير" هين. قال الربيع بن صالح: لما أخذ سعيد بن جبير رضي الله عنه بكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه. قال: فلا تبك فإنه كان في علم الله أن يكون، ألم تسمع قوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسك" الآية. وقال ابن عباس: لما خلق الله القلم قال له اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. ولقد ترك لهذه الآية جماعة من الفضلاء الدواء في أمراضهم فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكلا عليه، وقالوا قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة، فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نرأها". وقد قيل: إن هذه الآية تتصل بما قبل، وهو أن الله سبحانه هون عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال وما يقع فيها من خسران، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له، وإنما على المرء امتثال الأمر.
قوله تعالى: "لكيلا تأسوا على ما فاتكم" أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه. وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه) ثم قرأ "لكيلا تأسوا على ما فاتكم" إي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم "ولا تفرحوا بما آتاكم" أي من الدنيا، قال ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: من العافية والخصب. وروى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا. والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز، قال الله تعالى: "والله لا يحب كل مختال فخور" أي متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس. وقراءة العامة "آتاكم" بمد الألف أي أعطاكم من الدنيا. واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو "أتاكم" بقصر الألف واختاره أبو عبيد. أي جاءكم، وهو معادل لـ "فاتكم" ولهذا لم يقل أفاتكم. قال جعفر بن محمد الصادق: يا ابن آدم ما لك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت. وقيل لبرزجمهر: أيها الحكيم! مالك لا تحزن على ما فات، ولا تفرح بما هو آت؟ قال: لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة. وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى: الدنيا مبيد ومفيد، فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد آذن بالرحيل. وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار، وكلاهما شرك خفي. والفخور بمنزلة المصراة تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن، فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدع فهو الفخور.
قوله تعالى: "الذين يبخلون" أي لا يحب المختالين "الذين يبخلون" فـ "الذين" في موضع خفض نعتا للمختال. وقيل: رفع بابتداء أي الذين يبخلون فالله غني عنهم. قيل: أراد رؤساء اليهود الذين يبخلون ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي في كتبهم، لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلهم، قال السدي والكلبي. وقال سعيد بن جبير: "الذين يبخلون" يعني بالعلم "ويأمرون الناس بالبخل" أي بألا يعلموا الناس شيئا. زيد بن اسلم: إنه البخل بأداء حق الله عز وجل. وقيل: إنه البخل بالصدقة والحقوق، قال عامر بن عبدالله الأشعري. وقال طاوس: إنه البخل بما في يديه. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وفرق أصحاب الخواطر بين البخل والسخاء بفرقين: أحدهما أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك. والسخي الذي يلتذ بالإعطاء. الثاني: أن البخيل الذي يعطي عند السؤال، والسخي الذي يعطي بغير سؤال. "ومن يتول" أي عن الإيمان "فإن الله هو الغني الحميد" غني عنه. ويجوز أن يكون لما حث على الصدقة أعلمهم أن الذين يبخلون بها ويأمرون الناس بالبخل بها فإن الله غني عنهم. وقراءة العامة "بالبخل" بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحميد وابن محيصن وحمزة والكسائي "بالبخل" بفتحتين وهي لغة الأنصار. وقرأ أبو العالية وابن السميقع "بالبخل" بفتح الباء وإسكان الخاء. وعن نصر بن عاصم "البخل" بضمتين وكلها لغات مشهورة. وقد تقدم الفرق بين البخل والشح في آخر "آل عمران".
وقرأ نافع وابن عامر "فإن الله الغني الحميد" بغير "هو". والباقون "هو الغني" على أن يكون فصلا. ويجوز أن يكون مبتدأ و"الغني" خبره والجملة خبر إن. ومن حذفها فالأحسن أن يكون فصلا، لأن حذف الفصل أسهل من حذف المبتدأ.
تفسير الطبري
القول في تأويل قوله تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}
يعني تعالى ذكره: ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في أموالكم ولا في أنفسكم، إلا في كتاب قد كتب ذلك فيه من قبل أن نخلق نفوسكم {لكيلا تأسوا} يقول: لكيلا تحزنوا {على ما فاتكم} من الدنيا، فلم تدركوه منها {ولا تفرحوا بما آتاكم} منها.
ومعنى قوله: {بما آتاكم} إذا مدت الألف منها: بالذي أعطاكم منها ربكم وملككم وخولكم؛ وإذا قصرت الألف، فمعناها: بالذي جاءكم منها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26070- حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس {لكيلا تأسوا على ما فاتكم} من الدنيا {ولا تفرحوا بما آتاكم} منها.
26071- حدثنا عن الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا إسحاق بن منصور، عن قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس {لكيلا تأسوا على ما فاتكم} قال: الصبر عند المصيبة، والشكر عند النعمة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سماك البكري، عن عكرمة، عن ابن عباس {لكيلا تأسوا على ما فاتكم} قال: ليس أحد إلا يحزن ويفرح، ولكن من أصابته مصيبة فجعلها صبرا، ومن أصابه خير فجعله شكرا.
26072- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله عز وجل: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} قال: لا تأسوا على ما فاتكم من الدنيا، ولا تفرحوا بما أتاكم منها.
واختلفت القراء في قراءة قوله: {لما آتاكم} فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والكوفة {بما آتاكم} بمذ الألف. وقرأه بعض قراء البصرة "بما أتاكم" بقصر الألف؛ وكأن من قرأ ذلك بقصر الألف اختار قراءته كذلك، إذ كان الذي قبله على ما فاتكم، ولم يكن على ما أفاتكم، فيرد الفعل إلى الله، فألحق قوله: وبما أتاكم "به، ولم يرده إلى أنه خبر عن الله.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان صحيح معناهما، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وإن كنت أختار مد الألف لكثرة قارئي ذلك كذلك، وليس للذي اعتل به منه معتلو قارئيه بقصر الألف كبير معنى، لأن ما جعل من ذلك خبرا عن الله، وما صرف منه إلى الخبر عن غيره، فغير خارج جميعه عند سامعيه من أهل العلم أنه من فعل الله تعالى، فالفائت من الدنيا من فاته منها شيء، والمدرك منها ما أدرك عن تقدم الله عز وجل وقضائه، وقد بين ذلك حل ثناؤه لمن عقل عنه بقوله: {ما أصاب من مصيبه في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} فأخبر أن الفائت منها بإفاتته إياهم فاتهم، والمدرك منها بإعطائه إياهم أدركوا، وأن ذلك محفوظ لهم في كتاب من قبل أن يخلقهم.
.قوله: {والله لا يحب كل مختال فخور} يقول: والله لا يحب كل متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس.
تفسير ابن كثير
يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم ) أي في الآفاق وفي نفوسكم ( إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) أي من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة وقال بعضهم من قبل أن نبرأها عائد على النفوس وقيل عائد على المصيبة والأحسن عوده على الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها
كما قال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن منصور بن عبد الرحمن قال كنت جالسا مع الحسن فقال رجل سله عن قوله تعالى ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) وسألته عنها فقال سبحان الله ومن يشك في هذا كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة وقال قتادة ما أصاب من مصيبة في الأرض قال هي السنون يعني الجدب ( ولا في أنفسكم ) يقول الأوجاع والأمراض وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولانكبة قدم ولاخلجان عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر وهذه الآيةالعظيمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق قبحهم الله قال الإمام أحمد < 2/169 > حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا حيوة وابن لهيعة قالا أخبرنا أبو هانئ الخولاني أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ورواه مسلم < 2653 > من حديث عبد الله بن وهب وحيوة بن شريح ونافع بن زيد ثلاثتهم عن أبي هانئ به وزاد ابن وهب وكان عرشه على الماء ورواه الترمذي < 2156 > وقال حسن صحيح وقوله تعالى ( إن ذلك على الله يسير ) أي أن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله عز وجل لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون وقوله تعالى ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولاتفرحوا بما آتاكم ) أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها وتقديرها للكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم وما أخطئكم لم يكن ليصيبكم فلا تأسوا على ما فاتكم لأنه لو قدر شيء لكان ( ولا تفرحوا بما آتاكم ) أي جاءكم وتفسير آتاكم أي أعطاكم وكلاهما متلازم أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم فلا تتخذوا نعم الله أشرا وبطرا تفتخرون بها على الناس ولهذا قال تعالى ( والله لا يحب كل مختال فخور ) أي مختال في نفسه متكبر فخور أي على غيره وقال عكرمة ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا ثم قال تعالى ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ) أي يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه ( ومن يتول ) أي عن أمر الله وطاعته ( فإن الله هو الغني الحميد ) كما قال موسى عليه السلام ( إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد )
فعلا مشكووووووووووووووووووووووووورة
بارك الله فيك أختك " اسورة من ذهب "
وزادك الله علما وتقوى
ينقل لركنه المناسب ~