شرع الله سبحانه وتعالى النكاح لعباده لمقاصد سامية وحكم بالغة, وجعل له أحكاما تخصه وشروطاً وموانع. ومن كمال تشريعه -سبحانه- أن شرع الصداق يُدفع من الرجل إلى المرأة. فكان بعد تمام العقد حقاً خالصاً للمرأة ليس للولي ولا للزوج فيه شيء. غير أنَّ مسألة في المهر متصورة الحدوث, متكررة الوقوع, وهي: هل يجوز للمرأة أن تهبه لزوجها؟ أو أن تبرئه من بعضه أو كله؟ وإذا وهبته له كله أو بعضه أو أبرأته منه كله أو بعضه, وحصل طلاق قبل الدخول فما الحكم؟ لقد أجاب الفقهاء على ذلك. حكم الحط من المهر: من المقرر في الشريعة أنَّ الصداق محض حق المرأة ولها أن تهب صداقها أو بعضه لمن شاءت ولا اعتراض لأبٍ ولا لزوجٍ في ذلك هذا إذا كانت بالغة عاقلة وبقي لها بعده غنى وإلا فلا(1) فإذا عفت المرأة عن صداقها الذي لها على زوجها أو عن بعضه أو وهبته له بعد قبضه وهي جائزة الأمر في مالها جاز ذلك وصحّ. قال ابن قدامة: ولا نعلم فيه خلافا لقول الله تعالى: "إلا أن يعفون" يعني الزَّوج ات. وقال تعالى: "فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا". قال الإمام أحمد -في رواية المروذي-: "ليس شيء قال الله تعالى: "فكلوه هنيئا مريئا" سماه غير المهر تهبه المرأة للزوج". وقال علقمة: لامرأته هيئي لي من الهنيء المريء, يعني: من صداقها"(2) شروط الحط من المهر: اشترط الفقهاء في كتبهم عدة شروط حتى يصح حط شيء من المهر, وهي كالتالي: 1- أن تكون الزَّوجة من أهل التبرع, عاقلة, بالغة, رشيدة, وغير محجور عليها لسفه؛ لأنَّ الحطَّ من المهر تصرف مالي, والتي تنقصها هذه الأوصاف لا يجوز لها إجراء أي تصرفات مالية. 2- لا يتوقف الحطُّ من المهر على قبول الزَّوج إذا كان المهر ديناً في الذمة كالنُّقود والمكيلات والموزونات غير المعينة لأنَّ الحط في هذه الحالة إبراء من واجب عليه أما إذا كان المهر عيناً كالدار المعينة فإنَّ الحطَّ يكون هبة, وفي هذه الحالة يشترط قبول الزَّوج في المجلس كي يصحَّ التملك. 3- ألا تكون الزَّوجة مريضة مرض الموت, وإلا كان لإنقاصها حكم التَّبرعات في حالة الموت فينفذ ثلثها فقط ويوقف الباقي على إجازة الورثة(3) ومن الجدير بالذكر َّ وليَّ الزَّوجة – أباً كان أو جداً- لا يجوز له الحطّ من المهر؛ لأنَّ المهر أصبح بالعقد خالص حقها, فلا يملك الأب ولا غيره إسقاط شئ من منه؛ لأنَّ الإسقاط تبرع, ولا يملك أحد التَّبرع من مال غيره(4) طرق الحط من المهر: وذلك من خلال مطلبين: المطلب الأول: الإبراء: يكون الإبراء إذا كان المهر دَيْناً في الذمة, كالنقود وسائر المكيلات والموزونات غير المعينة؛ لأن الديون تتعلق بالذمة لعدم تعيينها بالتعيين, ولا يشترط لصحة الإبراء قبول الزَّوج . بل يشترط ألا يرفض الزَّوج الإبراء لأن الإبراء عند الحنفية يتم بإرادة واحدة ويرتد بالرد؛ لأن من الناس من لا يتحمل منَّةً الإبراء من دين عليه. المطلب الثاني: الهبة(5): هبة المرأة لها وجهان: الفرع الأول: أن تكون رشيدة: ولها صورتان: الصورة الأولى: أن تهبه لزوجها: وله احتمالان: الاحتمال الأول: أن يطلقها بعد الدخول أو الخلوة الصحيحة: ففي هذه الحال لا يرجع واحد منهما على الآخر بشيء؛ لأنها قبضت كل ما تستحقه وتصرفت فيه، وقد تأكد بعد الاستحقاق بالدخول فلا رجوع لواحد منهما على الآخر. الاحتمال الثاني: أن يطلقها قبل الدخول: وللمهر في هذه الحالة هيئتان: الهيئة الأولى: أن يكون مما لا يتعين بالتعيين: أن يكون المهر منقولاً لا يتعين بالتعيين وذلك كالنقود والمكيلات والموزونات, وله حالات عديدة, نذكر منها: الحالة الأولى: أن يكون كل المهر مقبوضاً لها وتهبه كله للزوج، فإنَّه يرجع عليها بنصف المهر. كما إذا كان مهرها ألف دينار وسلمها إياها وقبل الدخول طلقها، فإنه يرجع عليها بخمسمائة دينار لأنَّ الزَّوج يستحق نصف المهر بصريح القرآن, ولم يصل إليه عين ما يستحقه بالهبة لأن الدراهم والدنانير لا تتعين بالتعيين في العقود والفسوخ؛ لأنَّ الفسخ يَرد على عين ما ورد عليه العقد, ولهذا لو سمّي لها دراهم وأشار إليها كان له أن يحبسها ويرفع مثلها جنساً ونوعاً وقدراً وصفة. ولا يلزم رد عين ما أخذت بالطلاق قبل الدخول فكانت هبة هذا الألف كهبة ألف أخرى. الحالة الثانية: أن يكون المهر غير مقبوض لها, وتهبه كله للزوج, ثم طلقها قبل الدخول لم يرجع عليها بشيء استحساناً لحصول المقصود, وهو براءة ذمته, لأنَّ ما يستحقه الزَّوج بالطلاق قبل الدخول هو براءة ذمته من نصف المهر وقد وصل إليه ذلك, لكن لسبب آخر, وهو الإبراء, ولا يبالي باختلاف السبب عند حصول المقصود لأنَّه مقصود بنفسه. الحالة الثالثة: أن يكون أكثر من النصف مقبوضاً لها وتهب باقيه للزوج, فإنها ترُدُّ عليه ما زاد على النصف عنده كما لو قبضت ستمئة ووهبت أربعمئة فإنه يرجع بمئة. الحالة الرابعة: أن يكون نصف المهر مقبوضاً لها وتهب كل المهر أو نصفه للزوج. لم يرجع واحد منهما على صاحبه؛ لأنَّ مقصود الزَّوج بالطلاق قبل الدخول سلامة نصف المهر بغير عوض وقد حصل له, فلا يستوجب أخذ شيء منها. الحالة الخامسة: أن يكون أقل من نصف المهر مقبوضاً وتهب باقيه للزوج؛ فإنه لا يرجع منهما على الآخر. الهيئة الثانية: أن يكون المهر مما يتعين بالتعيين: كأن يكون عقاراً أو منقولاً كالبيت والشقة والسيارة والفرس وقطعة الأرض. ولها حالات كثيرة أبرزها: الحالة الأولى: أن يكون كل المهر مقبوضاً أو غير مقبوض لها وتهب كله أو أكثره أو نصفه للزوج: فلا يرجع عليها بشيء استحساناً؛ لأنَّه وصل إليه عين ما يستحقه بالطلاق قبل الدخول لتعينه في الفسخ كما تعين في العقد، ولهذا لم يكن لكل واحد منهما دفع شيء آخر مكانه, وهذا مذهب الأحناف(6).واختلاف طريق عودته لا يضر ما دام عين الحق قد رجع إليه(7). هذا ما ذهب إليه أبو حنيفة والصاحبان. ولكن ذهب زُفَر إلى أنه يرجع عليها بنصف المهر(8). وقال الثلاثة(9)إن الذي يستحقه الزَّوج بالطلاق قبل القبض عاد إليه من جهتها بسبب لا يوجب الضمان لأنَّه يستحق نصف المهر فقد عاد إليه بالهبة. والهبة لا توجب الضمان فلا يكون له حق الرجوع عليها بالنصف كالنصف الآخر(10). أما المالكية: فقد ذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى إلى أن الزَّوج لا يعود على المرأة بشيء من المهر إذا وهبته إياه ثم طلقها قبل البناء وذلك سواء قبضت المهر أو لم تقبضه وطلقها قبل البناء, وذلك سواء قبضت المهر أو لم تقبضه وطلقها قبل البناء رجعت عليه بنصف النصف الباقي(11) وللشافعية في هذه المسألة قولان: أحدهما: أن لا يرجع عليها بشيء لأنَّه قد تعجل ما كان يستحقه بالطلاق قبل محله فلا يستحقه عند محله, وهو موافق لقول الحنفية. الثاني: يرجع عليها بنصف مثله إذا كان له مثل أو بنصف قيمته إذا لم يكن له مثل. والقول الثاني هو الأصح عند الشافعية, ويستوي في هذا الحكم ما إذا قبضت الصداق أو لم تقبضه(12). أما مذهب الحنابلة: فقد حكى ابن قدامة رحمه الله قولان فيها فقال: إذا أصدق امرأته عينا فوهبتها له ثم طلقها قبل الدخول بها فعن أحمد فيه روايتان: إحداهما: يرجع عليها بنصف قيمتها وهو اختيار أبي بكر وأحد قولي الشافعي لأنَّها عادت إلى الزَّوج بعقد مستأنف فلا تمنع استحقاقها بالطلاق كما لو عادت إليه بالبيع أو وهبتها لأجنبي ثم وهبتها له. والرواية الثانية: لا يرجع عليها وهو قول مالك و المزني وأحد قولي الشافعي وهو قول أبي حنيفة إلا أن تزيد العين أو تنقص ثم تهبها له لأنَّ الصداق عاد إليه ولو لم تهبه لم ترجع بشيء وعقد الهبة لا يقتضي ضماناً ولأنَّ نصف الصداق تعجل له بالهبة فإن كان الصداق دينا فأبرأته منه فإن قلنا لا يرجع فههنا أولى وإن قلنا يرجع ثم يخرج ههنا وجهان: أحدهما: لا يرجع لأنَّ الإبراء إسقاط حق وليس بتمليك الأعيان ولهذا لا يفتقر إلى قبول ولو شهد شاهدان على رجل بدين فأبرأه مستحقه ثم رجع الشاهدان لم يغرما شيئا ولو كان قبضه منه ثم وهبه له ثم رجع الشاهدان غرماً. والثاني: يرجع لأنَّه عاد إليه بغير الطلاق فهو كالعين والإبراء بمنزلة الهبة ولهذا يصح بلفظها وإن قبضت الدين منه ثم وهبته له ثم طلقها فهو كهبة تعين لأنَّه تعين بقبضه وقال أبو حنيفة: يرجع ههنا لأنَّ الصداق قد استوفته كله ثم تصرفت فيه فوجب الرجوع عليها كما لو وهبته أجنبيا ويحتمل أن لا يرجع لأنَّه عاد إليه ما أصدقها فأشبه ما لو كان عينا فقبضتها ثم وهبتها أو وهبته العين أو أبرأته من الدين ثم فسخت النكاح بفعل من جهتها كإسلامها أو ردتها أو إرضاعها لمن ينفسخ نكاحها برضاعه ففي الرجوع بجميع الصداق عليها روايتان كما في الرجوع بالنصف سواء (13). الحالة الثانية: أن يكون المهر مقبوضاً, وتهب أقل من نصفه للزوج: فإنها ترد عليه ما زاد عن نصفها, ليكتمل له النصف وهو حقه. الحالة الثالثة: أن يكون كل المهر غير مقبوض لها وتهب أقل من نصفه للزوج: فإنه يرد لها ما زاد عن نصفه؛ ليكتمل نصفها, وهو حقها. الصورة الثانية: أن تهبه لأجنبي وتسلطه على قبضه من الزَّوج, فيسلمه الزَّوج للأجنبي, ويطلقها الزَّوج قبل الدخول: ففيه الأحكام السَّابق ذكرها في هبته للزَّوج لو وهبه الأجنبي للزَّوج؛ لأنَّ الزَّوج سلّم المهر إلى من ملّكته الزَّوجة المهر بالهبة, ولأنَّه تبين أنَّها لا تستحقُ إلا النصف. قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: لا يجوز لها أن تهب لأجنبي إلا بثلث مالها, فإن كان ثلث مالها يحمل المهر الموهوب جاز ذلك وإلا فلا. وإن وهبت المرأة مهرها لأجنبي وثلث مالها يحمل ذلك ودفع الزَّوج المهر لأجنبي ثمَّ طلقها قبل البناء, فقال مالك: يرجع الزَّوج بنصف المهر على الزَّوجة ولا يعود على الأجنبي بشيء (14) الفرع الثاني: أن تكون غير رشيدة, ولها صورتان لها حكم واحد: 1- أن تهبه بنفسها للزوج أو غيره فلا يجوز لها ذلك لأنَّ تصرفات الصَّغير وإن كان مميزاً إن كانت ضارة له ضررا محضا تقع باطلة، مثل الهبة, فإن فيها إخراج الشيء عن الملك بلا عوض أصلاً. وأي ضرر أشد من ذلك. 2- أن يهبه والدها أو غيره من أوليائها للزوج أو غيره فلا يجوز أيضاً؛ لأنَّ تصرفات الولي مقيدة بالمصلحة ولا مصلحة هنا (15). مسائل متممة: 1- هل للمرأة أن ترجع في هبتها: يجب في هذه المسألة تحري وجود الرضا الكامل من الزَّوجة بالحطّ. فقد كان الصحابة ومن بعدهم يتحرون ذلك خشية أن يكون الزَّوج قد مارس ضد الزَّوجة أي نوع من الإكراه لحملها على الحطّ من مهرها أو كامله. وكان الصحابة يجيزون رجوع المرأة عن الحط. وكتب عمر إلى بعض قضاته: أن النساء يعطين رهبة ورغبة, فأيما امرأة أعطت ثم أرادت الرجوع فلها ذلك. وكان الأوزاعي رحمه الله تعالى لا يجيزها هبة المهر إلا بعد أن تعقب منه. وكذلك جرت العادة بعدم إنقاص مهور النساء بعد تقررها لأنَّ ذلك مما تعير به الزَّوجة وأسرتها وفيه ضرر ظاهر ولا مبرر له. وإذا حصلت الزيادة أو الحطّ من المهر في مرض الموت اتبعت أحكام التبرعات في مرض الموت من حيث النفاذ. ومقدار ما يكون فيه النفاذ هو الثلث وما دون, بدون توقف على إجازة من أحد(16). الخاتمة من خلال الدراسة السابقة يتبين ما يلي: 1- أن الصداق محض حق المرأة وليس لأحد أن يتصرف فيه إلا بإذنها, طالما كانت رشيدة عاقلة غير محجور عليها. 2- أن المرأة لها أن تضع من مهرها, وهو فرع عن السابق. 3- أن المرأة إذا قبضت المهر ووهبته للزوج فلها نصف المهر, بخلاف ما إذا لم تقبضه فليس عليها شيء استحساناً. 4- إذا كان المهر يتعين كعقار أو حيوان مقبوضاً أو غير مقبوض لها وتهب كله أو أكثره أو نصفه للزوج فلا يرجع عليها بشيء استحساناً. 5- أن يكون المهر مقبوضاً, وتهب أقل من نصفه للزوج فإنها ترد عليه ما زاد عن نصفها, ليكتمل له النصف وهو حقه. 6- إذا وهبت المرأة مهرها لأجنبي ثم طلقها قبل البناء يرجع الزَّوج بنصف المهر على الزَّوجة ولا يعود على الأجنبي بشيء. هذا ما تيسر جمعه, وما كان من صواب فمنه الله وحده وما كان من خطأ أو سهو أو زلل فالله ورسوله منه برآء.
شكرا على المرور الطيب ……….