هذا المقال نقلا عن جريدة المصريون الالكترونية بتاريخ 29 – 2 – 2024
كنت أسير فى إحدى شوارع الإسكندرية مع زوج شقيقتي الخدوم الشيخ رفعت حسن..فرأيت رجلا ً ساقه مقطوعة وهو يسير على عكازين ويحمل على رقبته وكتفيه عددا ً من الأواني البلاستيكية المنزلية مختلفة الأحجام.. يعرضها للبيع جيئة وذهابا ً فى الشارع .. فتعجبت لأمره أشد العجب .. فقال لي الشيخ رفعت : إن هذا الرجل يقطع شارع المنتزه الطويل جيئة وذهابا ً بالليل والنهار..والحر والبرد..وهو يستند على عكازية حاملا ً أكبر كمية من البلاستيك يعرضه على الناس.. وقال لي: لقد شدني كفاحه النبيل من أجل اللقمة الحلال فاشتريت منه أنا وزوجتي بعض ما نحتاجه من هذه الأواني .
فقلت له: إن هذا الكفاح العظيم من أجل الحلال يهزني بشده من الداخل فحرص هذا وأمثاله ألا تكون يده هي السفلى .. وأن يطعم أولاده اللقمة الحلال.. مهما كانت ظروفه .. تجعلني احتقر عزيمتي وهمتي وأنا السليم المعافى..ثم تفكرت فى كيفية تحايله على الكسب الحلال رغم إعاقته الشديدة .. إذ هداه عقله إلى ربط الأواني البلاستكية التى يبيعها فى عنقه وكتفيه.. حتى تتفرغ يداه لاستلام ثمن سلعته .. والتفرغ كذلك لضبط عكازية الخشبيتين ..
فقلت والله هذه هي النماذج المشرفة فى المجتمع المصري التى تستحق الإشادة والتقدير والتكريم..
وقلت لنفسي ما أحلى الحلال .. وما أحلى لحظات هذا الرجل حينما يعود إلى زوجته وأولاده آخر النهار .. وقد سعد بانتصاره على نفسه وإعاقته والشيطان الذي يدعوه للحرام أو التسول من الناس .. وما أسعده بالجنيهات القليلة التى يعود بها إلى بيته فى نهاية هذا المشوار الطويل الذي يقطعه فى اليوم الواحد مرات كثيرة .. وتذكرت حينها قول النبي (صلى الله عليه وسلم) " ما أكل أحد طعاما ً قط خيرا ً من عمل يده .. وإن نبي الله داود كان لا يأكل إلا من عمل يده "
فقلت حقا والله.. وتذكرت أن بعض أشقائنا وأحبائنا كانوا يساعدوننا فى فترة المحنة .. ولكننا لم نكن نشعر بطعم هذا المال فضلا ً عن شعورنا بأن أيدينا كانت هي السفلى .. واليد العليا خير من اليد السفلى كما قال الرسول " صلي الله عليه وسلم " واليد العليا هي المعطية .. والسفلي هي الآخذة
فلما خرجنا وبدأنا العمل والتكسب من جديد شعرنا بطعم آخر لكل قرش نكتسبه من عمل أيدينا.. صحيح أننا نشعر بالامتنان والشكر والعرفان لكل من ساعدنا فى فترة محنتنا .. ولكن ما أجمل وأطيب وأحلى اللقمة التى تأكلها من عرق جبينك.. ومن تعب يدك .. ومن جهدك الخاص .. وكلما تعبت في لقمة العيش كلما سعدت بها ..
لقد تدبرت هذا الحديث الشريف طويلا ً .. " ما أكل أحد طعاما ً قط خيرا من عمل يده .. " سبحان الله .. لقد تأملت طويلا ً في كلمة قط التي تفيد الاستثناء … وقلت صدقت يا رسول الله ..
إنني أمر كل يوم علي ميدان شعبي شهير في الإسكندرية اسمه – ميدان الساعة – يقف فيه مئات الباعة الجائلين .. وكل قد حجز مكانه في الميدان منذ الصباح حتي أصبح علما ً عليه بعد مرور سنوات وسنوات عليه .. فهذا يبيع الفاكهة .. وهذا يبيع البيض .. وهذا تخصص في الملابس الداخلية للأطفال .. أو الرجال .. وآخر يعرض الجبن القديم بل والمش الصعيدي أيضا ً .. وآخرين يعرضون أنواعا ً من الخبز البلدي والفينو وغيرها من أنواع الخبز الغير مدعم ..
وفي مرة من المرات هطلت أمطار شديدة عدة أيام متواصلة فقلت في نفسي : أظن أن هؤلاء الباعة سيختفون تماما ً من ميدان الساعة حيث كنت حديث عهد بالحرية وكذلك الإسكندرية ..
ولكني فوجئت أن جميع الباعة في أماكنهم المعهودة ولم يتحرك أحد منهم .. ولكنهم أبدعوا طرقا ً ووسائل لا تخطر علي بال بحيث لا تفسد بضاعتهم من المطر ولا يتركون أماكنهم التي تجلب لهم اللقمة الحلال .. حتي باعة الخبز والملابس .. وكل الأشياء الأخرى التي تفسد من هذه الأمطار الغزيرة لم يتحركوا من أماكنهم .. واستمر كفاحهم في هذا الجو القارس البرودة الملبد بالأمطار الشديدة .. فأعجبني كفاحهم وهمتهم وعزيمتهم ..
والأغرب من ذلك .. إنني رأيت معهم شابا ً مبتور القدمين يتحرك علي عجلة المعوقين المعروفة ويبيع الخبز الجاف بهمة ونشاط .. فقلت في نفسي كيف يصمد هذا المعوق أمام هذا الجو الفظيع ويظل ساهرا ً أمام عربته الصغيرة حتي بعد منتصف الليل .. فذهبت إليه واشتريت منه .. ثم قلت له : هذا ثمن الخبز .. أما الجنيهات الأخرى فهي لإعجابي بعزيمتك وهمتك .. فتبسم لي ولم يتكلم .. فقلت في نفسي لو أن الشباب الذين يبحثون عن الوظائف الحكومية تمتع بربع هذه العزيمة لأصلح نفسه ووطنه .. ولكن مشكلته كلها تكمن في ضعف عزيمته وقديما ً قالوا : ذو همة يحي أمة ..وقد ذكرني هذا الرجل بجار لنا قديم كان يسكن في مدينتنا ديروط .. ويعمل في مصنع للزيوت والصابون في بني قرة بمحافظة أسيوط وكان بينهما قرابة 45 كم تقريبا ً .. وكان هذا الرجل كفيفا ً .. وكنت أعجب لهذا الرجل إذ كان يخرج وحده من البيت إلي محطة القطار ليركبه في موعده المحدد .. ويعرف محطة بني قرة فينزل وحده .. ثم يذهب وحده إلي المصنع .. ثم يعود ثانية كل يوم .. ولا يغيب عن عمله أو يتأخر عنه أبدا ً ..
وكنا نعجب في شبابنا لما يفعله هذا الرجل .. كيف يسير هذه المسافات وحده .. وكيف يركب القطار وينزل منه وحده .. وكان لا يكتفي بذلك بل يذهب بالليل ليسهر مع أصدقائه .. ويقضي وحده معظم طلبات البيت ..
ولو أن جميع الإخوة الذين خرجوا من المعتقلات تمتعوا ببعض همة هذا الشاب في العمل الدنيوي الحلال والعمل للدين والدعوة إلي الله ونشر الخير .. لكان حالنا أفضل مما نحن عليه الآن ..ومنذ فترة وأنا أسير في أزحم ميادين الإسكندرية وهو- ميدان الساعة – الذي يعج بالسيارات من كل اتجاه رأيت شابا ً كفيفا ً يسير وحده ودون مساعدة من أحد .. ولا يعتمد في سيره إلا علي عصا طويلة رفيعة يمدها أمامه يتحسس بها الطريق .. فذهبت إليه وسلمت عليه وقلت له أين تريد الذهاب ؟ فقال : أريد أن أركب ميكروباص سيدي بشر ؟ فأمسكت بيده حتي أجلسته علي المقعد .. وقلت له قبل أن انصرف : أنا أحيي كفاحك في الحياة ومعجب برجولتك وهمتك .. فشكرني وانصرفت ..
ولعل أغرب الحالات التي قابلتها في حياتي هي حالة أخ معتقل .. رأيته في معتقل أبو زعبل الجديد اسمه / حمدي أبو معاوية .. وهو من منطقة العمرانية- إمبابة بالقاهرة .. وكان مبتور القدمين والساقين .. ولما رأيته ذهلت من وجوده بين المعتقلين فسألته عن المدة التي مكثها في الاعتقال ؟ فقال : تسع سنوات فقلت له : تسع سنوات كاملة في أسوأ سجن وأنت بهذه الحالة ؟ فقال : الله أعانني وصبرني ..
فسألت الإخوة عن كيفية حياته في السجن فقالوا هو من أنشطنا ..وأكثرنا همة وقياما ً لليل .. وصياما ً للنهار .. وذكرا ً لله .. فقلت كيف يدخل دورة المياه وهي من النوع البلدي في كل السجون ؟ قالوا : كان لا يحتاج لمساعدة أحد وكان يزحف علي الأرض حتي يصل إلي الدورة ويضع خشبتين صغيرتين علي المقعدين .. ثم يقضي حاجته بصعوبة بالغة .. ولم يحصل علي الكرسي المتحرك إلا قبل المبادرة بقليل .. فقام بتجويفه من الوسط ليقضي من خلاله حاجته ..
وقد عجب كثير من المسؤولين عندما رأوه بهذه الحالة ولم نترك سجن أبي زعبل إلا بعد حصولنا علي وعد بالإفراج عنه .. وقد كان والحمد لله .. وهو الآن يعيش حياته كسائر الناس ..
كل ذلك وغيره جعلني أتدبر الحكمة من عمل سيدنا داود عليه السلام بيده .. رغم أنه كان ملكا ً علي بني إسرائيل .. وهي أعظم أمة مسلمة وقتها .. فلا حاجة له إلي العمل والتعب والكسب .. ولكن للعمل آثار اجتماعية وتربوية ونفسية وإيمانية علي العبد المسلم تفوق ما يتصوره البعض من أنه مجرد وسيلة لكسب العيش ..
وأكثر سبب في فساد شباب اليوم وانصرافهم عن الدين بل عن جادة الحياة إنما يكمن في انتشار البطالة .. وقديما ً قال المربون " المعسكر الذي تسوده البطالة يكثر فيه الشغب " ..
وقد أمسك رسول الله " صلي الله عليه وسلم " بيد رجل خشنه يعمل ويتكسب بها فقال " هذه يد يحبها الله ورسوله " ولو رآها بعض الناس اليوم لسخروا من جفافها وخشونتها ..
وقد تفكرت كثيرا ً فى الحكمة فيما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما حينما قال : " كان آدم عليه السلام حراثا .. ونوح نجارا ً .. وإدريس خياطا ..ً وإبراهيم ولوط زراعيين .. وصالح تاجرا ً .. وداود زراد .. وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله عليهم رعاة "..
لقد كان الله قادرا ً على أن يغنيهم من فضله.. فلا يحتاجون للعمل وخاصة أنها كلها أعمال مرهقة ومجهدة .. وقد تشغلهم عن نوافل العبادات أو تبليغ دعوتهم إلى الناس..
ولكنى قلت لنفسي لعلها تربية يريد الله منها أن يربى أنبياءه من خلال هذه الأعمال .. فرعى الغنم يولد الصبر والحلم والأناة .. مما يؤهل صاحبه لقيادة البشر .. والزراعة تعلم الإنسان فهم سنة التدرج في الحياة .. حيث يبدأ مع النبات كبذرة صغيرة ثم يتدرج معها في مراحلها المختلفة حتي يري ثمرتها وقد أينعت وحان قطافها .. والتجارة تعلم حسن التعامل مع الناس والبشاشة في وجوههم والرفق معهم .. وهكذا .
إن التربية علي الكسب الحلال والعمل الجاد تحتاجه الأمة كلها بدء ً من أولادنا وحتي من هم جاوزوا الستين لأن العمل لا يرتبط فقط بالحاجة المادية كما يتصور البعض .. ولكن العمل يحي النفوس ويطهرها وينقيها من آفات الكبر والكسل والركون والدعة والاكتئاب وعدم الثقة بالنفس والاعتماد علي الآخرين ..
وقد كنت أعمل في أعمال مختلفة منذ أن كان عمري 12 عاما ً .. وكذلك معظم أشقائي .. وقد أكسبني العمل تحملا ً للمشقة وجدية في الحياة .. ولم أترك العمل إلا بعد أن اتجهت إلي العمل الخيري .. ثم انضويت بعد ذلك تحت لواء الحركة الإسلامية ..
وقد فكرت كيف أدرب أولادي اليوم علي العمل في الأجازات والجدية في الحياة .. وعدم تضييع الأوقات فيما لا يفيد دون أن أنتظر من ذلك عائدا ً ماديا ً أو نحو ذلك .. ولكني خفت أن يعملوا عند أحد من أرباب الصنعة فتفسد أخلاقهم .. أو يتعلموا ما يناقض الأخلاق والدين .. وخفت أن أتركهم هكذا دون عمل فيأخذوا الحياة باستخفاف ورعونة .. وهكذا يحتار أمثالي في تربية أولادهم علي هذه المعاني الهامة في هذه الحياة التي أضحت كالغابة المسبعة .
وقد أعجبني ما نقله حجة الإسلام أبو حامد الغزالي " رحمه الله " عن لقمان الحكيم وهو يوصي ابنه قائلا ً :- يا بني استعن بالكسب الحلال فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال : رقة في دينه .. وضعف في عقله .. وذهاب مروءته .. وأعظم من هذه الخصال استخفاف الناس به .
وتحضرني في هذا المقام قصة طريفة .. حيث خرج شقيق زوجتي الشيخ طه أبو العباس بعد أن قضي في المعتقل ثمانية عشر عاما ً .. ثمانية منهم كاعتقال .. وعشر كحكم عسكري عليه .. وقد جهزت له والدته شقة لزواجه .. ووفرت بعض الأموال التي تكفيه للزواج .. وهو من أسرة طيبة .. كما أنه حاصل علي تمهيدي ماجستير كلية دار العلوم .. وعلي معهد القراءات بالأزهر .. وفي ليسانس حقوق القاهرة هذا العام .. ولكنه لا يجد عملا ً له منذ خروجه .. وكلما تقدم لفتاه لخطبتها سألت عن عمله ؟ فنحتار جميعا ً ماذا نقول لها .. فيقال لها : سيقيم مشروعا قريبا ً .. ولكن ما هو المشروع وأين و…… و…… و…….. الله أعلم .. فتتعقد الأمور ويتعذر الزواج .
فالعمل بذاته له قيمته في الحياة يعرفها الناس بفطرتهم السليمة بعيدا ً عن تعقيدات المنظرين والمحللين .ً
إن الإنسان يسير إلي الله بقلبه لا ببدنه .. ويسير في الحياة وفي الدين أيضا ً بهمته وعزيمته .. فلولا همة أبي بكر الصديق " رضي الله عنه " لأرتد العرب جميعا ً .. ولولا همة عمر بن الخطاب " رضي الله عنه " ما ساد نصف الكرة الأرضية بالعدل والصدق .. وهو لا يملك أي أداة من أدوات الاتصال الحديثة .. ولولا همة خالد بن الوليد ما كانت اليرموك .. ولولا همة عمرو بن العاص ما عرف المصريون الإسلام .. ولولا همة عمر بن عبد العزيز ما أصبح خامس الخلفاء الراشدين .. ولولا همة الإمام أحمد بن حنبل ما نال لقب إمام أهل السنة والجماعة .
وأعظم الناس من صلح قلبه وقويت عزيمته وهمته .. وأسوأ الناس من فسد قلبه وقويت عزيمته .
وقديما ً قال العبقري الفذ عمر بن الخطاب : " اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز التقي " .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
منقول من ( http://forum.amrkhaled.net/showthread.php?t=186527 )
شكرا لك