أ.د. ناصر بن سليمان العمر 9/5/1427
كثيرة تلك الدعوات المأجورات، وهي في الغالب واضحة تتميز بالوفود من دول الغرب أو الشرق، أو تكون مبنية على أسس غربية أو شرقية، اغتر بها أوافتتن بعض منتسبي الإسلام وبنيه، وبعضها ربما اتكأ على أهواء متبعة وشبه محلية ليس للشرق أو الغرب فيها كبير يد، بيد أن هذه كذلك ظاهرة.
ويبقى بعد ذلك نوع من الدعوات المأجورة ربما وللأسف سقط في حبالها فضلاء، وتلك الدعوات ربما كانت دعوات للخير في مجملها، إلاّ أن صاحبها ما قام بها رغبة في ثواب الله وحده، بل جعل لله شركاً فيها؛ قام بها لأجل الأجر، وليس بالضرورة أن يكون الأجر مالاً إلاّ أن أصحابها لم يمحضوا قصد وجه الله فيها.
ومن أبرز علامات أولئك الدعاة المأجورين موافقة المستأجر، فإن كان المستأجر هوى العامة، ألفيت دعواتهم تنسجم مع الموج! ووجدت أن الدعوة إلى ترك السباحة عكس التيار البشري الضعيف تلاك على ألسنتهم ولو على حساب السباحة عكس تيار الوحي القوي الصافي الذي تسبح فيه الكائنات جميعاً غير ذلك البشر الضعيف ومن معه من الشياطين، ولكن باسم الشرع والدين!
وأما إذا كان المستأجر هوى النفس وحب الشهرة والذكر، فإنك تلقى أولئك المأجورين على أحوال، فتارة يروجون لما ينال استحسان الجموع، أو ما يطلبه المستمعون، باسم التيسير وترك الشذوذ وعدم مفارقة الجماعة(1)! وتارة أخرى يركبون كل غريبة، ويأتون بكل عجيبة، ويحدثون الضوضاء العظيمة، لتلتفت إليهم الأنظار، ويعللون بأن الحق أحق بالإعلان وإن خالف ما عليه الناس وما ألفته الأعراف والمجتمعات، وحينها تسمع آيات ذم الكثرة، ووتراهم يرددون الأثر: يأتي النبي وليس معه أحد! في تناقض واطراب منهجي لايخفى على أهل النظر والعقلاء وإن خفي على الداعية المأجور بتسويل النفس وتزيين الموحين إلى بعضهم زخرف القول غروراً.
ولأن الدعوة المأجورة لا يرجى منها كثير خير جاءت النصوص الكثيرة في التنبيه على أهمية تمحيض قصد الدعوة، ومن جملة ما يدل على ذلك النصوص في نبذ أخذ الأجر على الدعوة، ففي مثل قوله تعالى: (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) تذكير بديدن الأنبياء وطريقتهم، فالأنبياء جميعهم يعلنون تلك الحقيقة صريحة، فمنهم من يقول: (لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً) [هود: من الآية29]، ومنهم من يقول: (لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) [الأنعام: من الآية90]، ويقول الله تعالى عن محمد – صلى الله عليه وسلم –: (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) [يوسف: من الآية104]، وفي سورة يس يقول الرجل لقومه: (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [يس:21]، والأجر ليس هو المال فقط -وإن وجد من يدعو لأجل المال- بيد أن أولئك الذين يطلبون بدعوتهم منافع دنيوية يعملون لأجلها عدد أكبر.
أما الأنبياء فلا، لايطلبون أجراً أياً ما كان الأجر على دعوتهم إلاّ أجر الآخرة، ولهذا لما احتاج الناس ليوسف وهو في السجن فجاءه الساقي سائلاً ما طلب أجراً شأن الأنبياء ذوي النفوس العالية صلى الله عليهم وسلم، وكان بإمكانه أن يقول: أخرجوني أخبركم!
وفي نحو هذه الآيات رسالة إلى الدعاة وإلى العلماء وإلى طلاب العلم حاصلها: إياكم أن تطلبوا على دعوة الناس وواجب البلاغ أجراً؛ أي منفعة دنيوية، فالجاه أجر، وحب والتصدير والتسويد أجر، كما أن المال والأعراض أجور.
أذكر بهذا لأن الشيطان ربما سول لبعض الناس سلامة جانبهم، وربما حسن لهم نياتهم إذا لم يتشوفوا لأجر مادي وإن تعلقوا بغيره وعملوا لأجله! وقد قال– صلى الله عليه وسلم – كم ثبت في حديث كعب بن مالك الأنصاري: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه"(2)، وهذا حديث عظيم، قرن فيه بين حب الشرف لدينه، وبين حب المال، فالعمل لهذا كالعمل لهذا، ولهذا تجد بعض من استغنى ممن زين له سوء عمله، لا يطلب مالاً بل ربما قد يدفع المال، ولكنه يريد أجراً من وجه آخر، يريد أن لا تنـزل منزلته عند الناس، وهذا ربما أحدث خللاً كبيراً في واقع الدعوة، بعض الناس يقوم بمشروع دعوي مهم جداً ربما كانت تلائمه إدارته، فينمو المشروع ويظل من ابتدأه رئيساً له بحكم نشأته، فيمر الزمان ويكبر المشروع بمساعدة آخرين وتكون من المصلحة أن يتنحى وأن يأتي من هو أقدر على إدارته وأولى به وفقاً لما تقتضيه مصلحة الدعوة، لكنه يتمسك بمشروعه لماذا؟ هو لايطلب مالاً، ولكنه حب الرياسة وحب الجاه وحب السيادة، أجارنا الله وإياكم.
إن الحظوظ النفسية آفة عظيمة تعرض للمرء فتحرفه عن قصده وهو لا يشعر، ومع عظمها قل أن يسلم منها أحد نسأل الله السلامة والعافية، فلنتفقد أنفسنا، ولنراجع أعمالنا، ولنصدق في المحاسبة، وإلاّ فإن الله لاتخفى عليه خافية، يثيب المخلص ويجزل له، وأما الآخر فهجرته إلى ما هاجر إليه.
________________
(*) مستلة من كتاب الشيخ آيات للسائلين، وهو الآن في طور التصحيح والإعداد للطباعة.
(1) وهؤلاء لايعرفون معنى الجماعة ولايعلمون أن الكثرة غالب ما تجيء في القرآن مذمومة، ورحم الله ابن المبارك حيث يقول: أبو حمزة السكري جماعة!
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 3/456، 3/460، والترمذي في سننه 4/588 (2376) وقال حسن صحيح، ورواه الدرامي في سننه 2/394 (2730)، وابن حبان في صحيحه 8/24 (3228)، وغيرهم.
____
م ن ق و ل من موقع الشيخ ( المسلم )
إن الحظوظ النفسية آفة عظيمة تعرض للمرء فتحرفه عن قصده وهو لا يشعر، ومع عظمها قل أن يسلم منها أحد نسأل الله السلامة والعافية، فلنتفقد أنفسنا، ولنراجع أعمالنا، ولنصدق في المحاسبة، وإلاّ فإن الله لاتخفى عليه خافية، يثيب المخلص ويجزل له، وأما الآخر فهجرته إلى ما هاجر إليه
اللهم امين يا غاليتى
وفقك الله الى ما يحب ويرضى
جزاك الله خيرا على تعقيبك ..
و أسأل الله لك الجنة .. و أن يجمعني بك هناك ، اخوانا متحابين على سرر متقابلين ..