فقد قال الله تعالى في كتابه الحكيم: "وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" [العصر : 1 – 3]
قال الإمام الطبري في التفسير : "وقوله:( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ) يقول: وأوصى بعضهم بعضا بلزوم العمل بما أنزل الله في كتابه، من أمره، واجتناب ما نهى عنه فيه… وقوله:( وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) يقول: وأوصى بعضهم بعضا بالصبر على العمل بطاعة الله"
وقال الإمام السعدي في تفسيره:
"عمم الله الخسار لكل إنسان، إلا من اتصف بأربع صفات:
الإيمان بما أمر الله بالإيمان به، ولا يكون الإيمان بدون العلم، فهو فرع عنه لا يتم إلا به.
والعمل الصالح، وهذا شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده ، الواجبة والمستحبة.
والتواصي بالحق، الذي هو الإيمان والعمل الصالح، أي: يوصي بعضهم بعضًا بذلك، ويحثه عليه، ويرغبه فيه.
والتواصي بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة.
فبالأمرين الأولين، يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسار، وفاز بالربح العظيم." اهـ.
وروى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الدِّينُ النَّصِيحَةُ » قُلْنَا لِمَنْ قَالَ « لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ».
قال النووي رحمه الله في شرحه على مسلم – (2 / 37) : "هذا حديث عظيم الشأن وعليه مدار الاسلام"
ثم ذكر رحمه الله تعالى عن العلماء – في شرحه على مسلم (2 / 38- 39) – مختصر قولهم في معنى النصيحة في الحديث، قال:
قالوا أما النصيحة لله تعالى فمعناها:
منصرف إلى الايمان به ونفى الشريك عنه وترك الالحاد في صفاته ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها وتنزيهه سبحانه وتعالى من جميع النقائص والقيام بطاعته واجتناب معصيته والحب فيه والبغض فيه وموالاة من أطاعه ومعادة من عصاه وجهاد من كفر به والاعتراف بنعمته وشكره عليها والاخلاص في جميع الامور والدعاء إلى جميع الاوصاف المذكورة والحث عليها والتلطف في جميع الناس او من أمكن منهم عليها قال الخطابى رحمه الله وحقيقة هذه الاضافة راجعة إلى العبد في نصحه نفسه فالله تعالى غني عن نصح الناصح.
وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى:
فالإيمان بأن كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق ولا يقدر على مثله أحد من الخلق ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها واقامة حروفه في التلاوة والذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاعنين والتصديق بما فيه والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله والاعتبار بمواعظه والتفكر في عجائبه والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه ونشر علومه والدعاء إليه والى ما ذكرناه من نصيحته.
وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه و سلم:
فتصديقه على الرسالة والايمان بجميع ما جاء به وطاعته فى امره ونهيه ونصرته حيا وميتا ومعاداة عن عاداه وموالاة من والاه واعظام حقه وتوقيره واحياء طريقته وسنته وبث دعوته ونشر شريعته ونفى التهمة عنها واستثارة علومها والتفقه في معانيها والدعاء اليها والتلطف في تعلمها وتعليمها واعظامها واجلالها والتأدب عند قراءتها والامساك عن الكلام فيها بغير علم واجلال أهلها لانتسابها اليها والتخلق باخلاقه والتأدب بآدابه ومحبة أهل بيته وأصحابه ومجانبة من ابتدع فى سنته أوتعرض لأحد من أصحابه ونحو ذلك.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين:
فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف واعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين وترك الخروج عليهم وتألف قلوب الناس لطاعتهم قال الخطابى رحمه الله ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم والجهاد معهم وأداء الصدقات اليهم وترك الخروج بالسيف عليهم اذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم وأن يدعى لهم بالصلاح وهذا كله على ان المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسملين من اصحاب الولايات وهذا هو المشهور وحكاه ايضا الخطابى ثم قال وقد يتأول ذلك على الائمة الذين هم علماء الدين وأن من نصيحتهم قبول ما رووه وتقليدهم في الاحكام واحسان الظن بهم.
وأما نصيحة عامة المسلمين:
وهم من عدا ولاة الامر فارشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم وكف الأذى عنهم فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم ويعينهم عليه بالقول والفعل وستر عوراتهم وسد خلاتهم ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق واخلاص والشفقة عليهم وتوقير كبيرهم ورحمة صغيرهم وتخولهم بالموعظة الحسنة وترك غشهم وحسدهم وأن يحب لهم ما يجب لنفسه من الخير ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة وتنشيط هممهم إلى الطاعات وقد كان في السلف رضى الله عنهم من تبلغ به النصيحة إلى الاضرار بدنياه والله اعلم. اهـ.
وفي نضرة النعيم أن من فوائد النصيحة والتواصي:
(1) النّصيحة لبّ الدّين وجوهر الإيمان.
(2) دليل حبّ الخير للآخرين، وبغض الشّرّ لهم.
(3) تكثير الأصحاب؛ إذ إنّه يؤمن منه الجانب، وتقليل الحسّاد؛ إذ إنّه لا يحبّ لغيره الشّرّ والفساد.
(4) صلاح المجتمع؛ إذ تشاع فيه الفضيلة، وتستر فيه الرّذيلة.
(5) إحلال الرّحمة والوداد مكان القسوة والشّقاق.
(6) الاشتغال بالنّفس لاستكمال الفضائل من تمام النّصح.
(7) بيان خطأ المخطىء في المسألة والمسائل- وإن كرهه- من النّصيحة الواجبة لا من الغيبة المحرّمة.
(8) من قام بها على وجهها يستحقّ الإكرام لا اللّوم والتّقريع.
(9) في التّواصي بالحقّ وبالصّبر ونحوهما ما يكفل حياة مستقرّة للمجتمع الإسلاميّ.
(10) في الأخذ بوصيّة اللّه- عزّ وجلّ- ووصيّة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم صلاح حال الفرد والمجتمع معا.
(11) للوصيّة الصّادقة تأثير بالغ في النّفس وهي دافع قويّ لتنفيذ الموصى به.
(12) الوصيّة وسيلة من وسائل التّقوى والتّذكّر والتّعقّل
تقبل مروري
o0o كتكوتة o0o