كنت أقرأ في ترجمة ( كانت ) الفيلسوف الألماني الأشهر ، أنه كان لجاره ديك ، قد وضعه على السطح قبالة مكتبه ، فكلما عمد إلى شغله صاح الديك فأزعجه عن عمله ، وقطع عليه فكره . فلما ضاع به بعث خادمه ليشتريه ويذبحه ويطعمه من لحمه ، ودعا إلى ذلك صديقاً له ، وقعدا ينتظران الغداء ، ويحدثه عن هذا الديك ، وما كان يلقى منه من إزعاج ، وما وجد بعده من لذة وراحة ، ففكر في أمان ، و اشتغل في هدوء ، فلم يقلقه صوته ، ولم يزعجه صياحه …
… ودخل الخادم بالطعام وقال معتذراً ، أن الجار أبى أن يبيع ديكه ، فاشترى غيره من السوق ، فانتبه (كانت) فإذا الديك لا يزال يصيح !
* * *
فكرت في هذا الفيلسوف العظيم فرأيته قد شقي بهذا الديك لأنه كان يصيح ، وسعد به وهو لا يزال يصيح ، ما بتدل الواقع ، ما تبدل إلا نفسه ، فنفسه هي التي اشقته لا الديك ، ونفسه هي التي أسعدته ، وقلت : ما دامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا ؟ وما دامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنا، إذ نمشي إليها من غير طريقها ، ونلجها من غير بابها ؟ إننا نريد أن نذبح ( الديك ) لنستريح من صوته ، ولو ذبحناه لوجدنا في مكانه مائة ديك ، لآن الأرض مملوءة بالديكة ، فلماذا لا نرفع الديكة من رؤوسنا إذا لم يمكن أن نرفعها من الأرض ؟ لماذا لا نسد آذاننا عنها إذا لم نقدر أن نسد أفواهها عنا ؟ لماذا لا نجعل أهواءنا وفق ما في الوجود إذا لم نستطع أن نجعل كل ما في الوجود وفق أهوائنا ؟
أنا م في داري فلا توقظني عربات الشارع وهي تزلزل بسيرها الأرض ، ولا أصوات الباعة وهي ترعد في الجو ، ولا أبواق السيارات وهي تسمع الموتى ، وتوقظني همسة في جو الدار ضعيفة ، وخطوة على ثراها خفيفة ، فإن نمت في الفندق لم يوقظني شيء وراء باب غرفتي ، فإن كان نومي في القطار لم يزعجني عن منامي حديث جيراني إلى جنبي ، ولا صوت القطار وهو يهتز بي فكيف احتملت هنا ما لم أكن أحتمله هناك ؟ وآلمني هناك ما لم يؤلمني هنا ؟
ذلك لأن الحس كالنور ، إن أطلقته أضاء لك ما حولك فرأيت ما تحب وما تكره ، وإن حجبته حجب الأشياء عنك ، فأنت لا تسمع أصوات الشارع مع أنها أشد وأقوى ، وتسمع همس الدار وهو أضعف وأخفت ، لأنك وجهت إلى هذا حسّك ، وأدخلته نفسك فسمعته على خفوته كما ترى في الضياء صغائر الأشياء ، وأغفلت ذلك وأخرجته من نفسك ، فلم تسمعه على شدته ، وخفي عنك كما تختفي في الظلام عظائم الموجودات . فلماذا لا تصرف حسك عن كل مكروه ؟ إنه ليس كل ألم يدخل قلبك ، ولكن ما أدخلته أنت برضاك ، وقبلته باختيارك ، كما يدخل الملك العدوّ قلعته بثغرة يتركها في سورها . فلماذا لا نقوي نفوسنا حتى نتخذ منها سوراً دون الآلام ؟
إني أسمعكم تتهامسون ، تقولون : " فلسفة وأوهام " . نعم ، إنها فلسفة ، ولكن ليست كل فلسفة هذياناً . وإنها أوهام ، ولكن الحياة كلها أوهام تزيد ونتقص ، ونسعد بها ونشقى ، أو شيء كالأوهام :
يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد ، فيشكو هذا ويتذمر فكأنه حمل حملين ، ويضحك هذا ويعني فكأنه ما حمل شيئاً ، يمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد ، فيتشاءم هذا ويخاف ، ويتصور الموت ، فيكون مع المرض على نفسه ، فلا ينجو منه ، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة فتسرع إليه ويسرع إليها . ويملك ذلك أمره ويحكم فكره ، فإذا لم تنجه من الموت حيلته ، لم يقتله قبل الموت وهمه .
وهذا بسمارك رجل الدم والحديد ، وعبقري الحرب والسلم ، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقة واحدة ، وكان لا يفتأ يوقد الدخينة من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خلَّ فكره ، وساء تدبيره . وكان يوماً في حرب فنظر فلم يجد معه إلا دخينة واحدة ، لم نصل إلى غيرها ، فأخرها إلى اللحظة التي يشتد عليه فيها الضيق ويعظم الهم ، وبعي أسبوعاً كاملاً من غير دخان ، صابراً عنه أملا بهذه الدخينة فلما رأى ذلك ترك التدخين ، وانصرف عنه ، لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة …
وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري ، أصيب في أواخر عمره بتوهم أن في أمعائه8 ثعبانا ، فراجع الأطباء ، وسأل الحكماء فكانوا يدارون الضحك حياء منه ، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود ، ولكن لا تقطنها الثعابين . فلا يصدق .
حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب ، بصير بالنفسيات ، قد سمع بقصته فسقاه مسهلا أدخله المستراح وكان وضع له ثعباناً فلما رآه أشرق وجهه ، ونشط جسمه ، وأحسّ بالعافية ، ونزل يقفز قفزاً ، وكان قد صعد متحاملا على نفسه يلهث إعياء ، ويئن ويتوجع . ولم يمرض بعد ذلك أبداً .
ما شفي الشيخ لأن ثعباناً كان في بطنه ونزل ، بل لأن ثعباناً كان في رأسه وطار ، لأنه أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمة ، وإن في النفس الإنسانية لقوى إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب .
تنام هذه القوى فيوقظها الخوف أو الفرح ، ألم يتفق لواحد منكم أن أصبح مريضاً ، خامل الجسد ، واهي العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب ، فرأى حيّةً تقبل عليه ، ولم يجد من يدفعها عنه ، فوثب من الفراش وثباً ، كأنه لم يكن المريض الواهن الجسم ، أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب ، قد هدّه الجوع والتعب ، لا يبتغي إلا كرسياً يطرح نفسه عليه ، فوجد برقية من حبيب له أنه قادم الساعة من سفره أو كتابا مستعجلا من الوزير يدعوه إليه ليرقي درجته ، فأحسّ الخفة والشبع ، وعدا عدواً إلى المحطة ، أو إلى مقر الوزير؟
هذه القوى هي منبع السعادة . تتفجر منها كما يتفجر الماء من الصخر نقياً عذباً ، فتتركونه وتستسقون من الغدران الآسنة ، والسواقي العكرة .
يا أيها القراء : إنكم أغنياء ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها ، فترمونها زهداً فيها ، واحتقاراً لها .
يصاب أحدكم بصداع أو مغص ، أو بوجع الضرس ، فيرى الدنيا سوداء مظلمة ، فلماذا لم يرها لما كان صحيحاً بيضاء مشرقة ؟ ويحمى عن الطعام ويمنع منه ، فيشتهي لقمة الخبز منه ومضغة اللحم ، ويحسد من يأكلها ، فلماذا لم يعرف لها لذتها قبل المرض ؟
لماذا لا تعرفون النعم إلا عند فقدها ؟
لماذا يبكي الشيخ على شبابه ، ولا يضحك الشاب لصباه ؟
لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنا ، ولا نبصرها إلا غارقة في ظلام الماضي ، أو متشحة بضباب المستقبل ؟
كل يبكي ماضيه ، ويحن إليه ، فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضياً ؟
أيها السادة والسيدات :
إنا نحسب الغنى بالمال وحده ، وما المال وحده ؟ ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يؤتى بأطياب الطعام فلا يستطيع أن يأكل منها شيئاً ، لما نظر من شباكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود ، يدفع اللقمة ، في فمه ويتناول الثانية بيده ، ويأخذ الثالثة بعينه ، فتمنى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانياً ؟
فلماذا لا تقدرون ثمن الصحة ؟ أما للصحة ثمن ؟
من يرضى منكم أن ينزل عن بصره ويأخذ مائة ألف دولار ؟ من يبيع قطعة من أنفه بأموال الشربتلي ؟ ( الشربتلي أحد أثرياء مدينة جدة المعروفين )
أما تعرفون قصة الرجل الذي ضل في الصحراء ، وكاد يهلك جوعاً وعطشاً ، لما رأى غدير ماء وإلى جنبه كيس من الجلد ، فشرب من الغدير ، وفتح الكيس يأمل أن يجد فيه تمراً أو خبزاً يابساً ، فلما رأى ما فيه ، ارتد يأساً ، وسقط إعياء . لقد رآه مملوءاً بالذهب !
وذاك الذي لقي مثل ليلة القدر ، فزعموا ، أنه سأل ربه أن يحول كل ما مسته يده ذهباً ، ومس الحجر فصار ذهباً ، فكاد يجن من فرحته لاستجابة دعوته ، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا ، وعمد إلى طعامه ليأكل فمس الطعام فصار ذهباً وبقي جائعاً ، وأقبلت بنته تواسيه ، فعانقها فصارت ذهباً … فقعد يبكي يسأل ربه أن يعيد إليه بنته وسفرته وأن يبعد عنه الذهب .
وروتشلد الذي دخل خزانة ماله الهائلة فانصفق عليه بابها فمات غريقاً في بحر من الذهب .
يا سادة : لماذا تطلبون الذهب وأنتم تملكون ذهباً كثيراً ؟ أليس البصر من ذهب ، والصحة من ذهب ، والوقت من ذهب ؟ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا ؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة ؟
كلفتني المجلة بهذا الفصل من شهر ، فما زلت أماطل به ، والوقت يمر ، أيامه ساعات ، وساعاته دقائق ، لا أشعر بها ولا أنتفع منها ، فكأنها صناديق ضخمة خالية ، حتى إذا دنا الموعد ولم يبق إلا يوم واحد ، أقبلت على الوقت أنتفع به ، فكانت الدقيقة ساعة ، والساعة يوماً ، فكأنها العلب الصغيرة المترعة جوهراً وتبراً ، واستفدت من كل لحظة حتى لقد كتبت أكثره في محطة ( باب اللوق ) – في مصر وقد كنت مقيماً فيها سنة 1947 – وأنا أنتظر الترام في زحمة الناس وتدافع الركاب ، فكانت لحظة أبرك عليَّ من تلك الأيام كلها ، وأسفت على أمثالها ، فلو أني فكرت كلما وقفت أنتظر الترام في زحمة الناس وتدافع الركاب ، فكانت لحظة أبرك عليَّ من تلك الأيام كلها ، وأسفت على أمثالها ، فلو أني فكرت كلما وقفت أنتظر الترام بشيء أكتبه ، وأنا أقف كل يوم أكثر من ساعة متفرّقة أجزاؤها ، لربحت شيئاً كثيراً ، ولقد كان الصديق الجليل الأستاذ الشيخ بهجة البيطار يتردد من سنوات بين دمشق وبيروت ، يعلم في كلية المقاصد وثانوية البنات ، فكان يتسلى في القطار بالنظر في كتاب ( قواعد التحديث ) للإمام القاسمي ، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب ، والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائماً ، حتى أنه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمر من يتلو عليها شيئاً من العلم فألف ( الحاشية ) . والسرخسي أملى وهو محبوس في الجب ، كتابه المبسوط ، أجلّ كتب الفقه في الدنيا ، وأنا أعجب ممن يشكو ضيق الوقت ، وهل يضيّق الوقت إلا الغفلة أو الفوضى : أنظروا كم يقرأ الطالب ليلة الامتحان ، تروا أنه لو قرأ مثله – لا أقول كل ليلة ، بل كل أسبوع مرة لكان علاّمة الدنيا ، بل أنظروا إلى هؤلاء الذين ألفوا مئات الكتب كابن الجوزي والطبري والسيوطي والجاحظ – بل خذوا كتاباً واحداً كنهاية الأرب ، أو لسان العرب ، وانظروا ، هل يستطيع واحد منكم أن يصبر على راءته كله ونسخه مرة واحدة بخطه ، فضلا عن تأليف مثله من عنده ؟
والذهن البشري ، أليس ثروة ؟ أماله ثمن ؟ فلماذا نشقى بالجنون ولا نسعد بالعقل ؟ لماذا لا نمكن للذهن أن يعمل ولو عمل لجاء بالمدهشات ؟ لا أذكر الفلاسفة والمخترعين . ولكن أذكركم بشيء قريب منكم ، سهل عليكم هو الحفظ ، إنكم تسمعون قصة البخاري لما امتحنوه بمائة حديث خلطوا متونها وأسنادها ، فأعاد المائة بخطئها وصوابها . والشافعي لما كتب مجلس مالك بريقه على كفه وأعاده من حفظه . والمعري لما سمع أرمنيين يحاسبان بلغتهما ، فلما استشهداه أعاد كلامهما وهو لا يفهمه . والأصمعي وحماد الراوية وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار . وأحمد وابن معين وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار . والمئات من أمثال هؤلاء … فتعجبون ، ولو فكرتم في أنفسكم لرأيتم أنكم قادرون على مثل هذا ولكنكم لا تفعلون .
أنظروا كم يحفظ كل منكم م أسماء الناس والبلدان ، والصحف والمجلات والأغاني والنكات ، والمطاعم والمشارب ، وكم قصة يروي من قصص الناس والتاريخ ، وكم يشغل من ذهنه ما يمر به كل يوم من المقروءات والمرئيات والمسموعات فلو وضع مكان هذا الباطل علماً خالصاً ، لكان مثل هؤلاء الذين ذكرت .
أعرف نادلا كان في ( فهوة فاروق ) في الشام من عشرين سنة اسمه ( حلمي ) يدور على رواد القهوة وهم مئات يسألهم ماذا يطلبون: قهوة أو شاياً أو هاضوما (كازوزة ) أو ليموناً ، والقهوة حلوة ومرة ، والشاي أحمر وأخضر والكازوزة أنواع ثم يقوم وسط القهوة ويردد هذه الطلبات جهراً في نفس واحد ، ثم يجيء بها فما يخرم مما طلب أحد حرفاً !
فيا سادة ، إن الصحة والوقت العقل ، كل ذلك مال ، وكل ذلك من أسباب السعادة لمن شاء أن يسعد .
* * *
وملاك الأمر كله ورأسه الإيمان ، الإيمان يشبع الجائع ، ويدفيء المقرور ، ويغني الفقير ، ويسلي المحزون ، ويقوي الضعيف ، ويسخي الشحيح . ويجعل للإنسان من وحشته أنساً ، ومن خيبته نجحاً …
…وأن تنظر إلى من هو دونك ، فأنك مهما قل مرتبك ، وساءت حالك ، أحسن من آلاف البشر ممن لا يقل عنك فهماً وعلماً ، وحسباً ونسباً ، وأنت أحسن عيشة من عبد الملك بن مروان ، وهارون الرشيد ، وقد كانا ملكي الأرض . فقد كانت لعبد الملك ضرس منخورة تؤلمه حتى ما ينام منها الليل ، فلم يكن يجد طبيباً يحشوها ويلبسها الذهب ، وأنت لا تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب . وكانت الرشيد يسهر على الشموع ، ويركب الدواب والمحامل وأنت تسهر على الكهرباء ، وتركب السيارة . وكانا يرحلان من دمشق إلى مكة في شهر وأنت ترحل في أيام أو ساعات .
فيا أيها القراء
إنكم سعداء ولكن لا تدرون . سعداء إن عرفتم قدر النعم التي تستمتعون بها ، سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها ، سعداء إن سددتم آذانكم عن صوت الديك ولم تطلبوا المستحيل فتحاولوا سد فمه عنكم ، سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم .
سعداء إن كانت أفكاركم دائماً معا الله . فشكرتم كل نعمة ، وصبرتم على كل بليّة فكنتم رابحين في الحالين ، ناجحين في الحياتين والسلام عليكم ورحمة الله .
___________
منقول أتمنى عجبكم الموضوع لأنه بصراحة عجبني وااايد