فإن الناس يتفاوتون في سماع المواعظ والتأثر بها على مذاهب، ومدار ذلك كله على حضور القلب ويقظته .. على طهارة القلب وصفائه ونقائه ..
فالقلب هو المَلِك، والجوارح هي جنوده، وكما أن صلاح الجنود من صلاح الملِك، فإن صلاح الجوراح واستقامتها على طاعة ربها من صلاح القلب.
وفي الحديث، قال صلى الله عليه وسلم " إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب "
قال ابن تيميه ـ رحمه الله ـ " فإذا كان فيه ـ أي القلب ـ معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب..
فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث: قول وعمل لازم له متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد.. وإذا قام القلب بالقلب التصديق به والمحبة له لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة، والأعمال الظاهرة، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه، ودليله ومعلومه، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضاً تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر.. " ا.هـ
وحقيقة قلوب الناس في التعامل مع الموعظة والتأثر بها على ثلاث مذاهب هم كالتالي:
فمنهم من يتأثر بالموعظة، فيعزم بلا تردد على المضي إلى الأمام والسعي في الجد والاجتهاد من غير التفات.. وهذا القلب ممتلئ بعبادة الله وطاعة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يوجد في قلبه حب إلا حبهم .
ومنهم من يتأثر بالموعظة أحياناً، فطبيعة نفوسهم في الأصل أنها تميل إلى الغفلة، فهذا القلب كالسنبلة تخر مرة، وتستقيم مرة.. وصاحب هذا القلب ميت بين الأحياء ، وإن الغالب على قلبهم الذنوب والمعاصي والركون إلى الدنيا وملذاتها.. فأقعدتهم وحبستهم !!
ومنهم من لا يتأثر بالموعظة إلا بمقدار سماعه لها فقط ، فقلبه كمثل الحجر الأملس الذي لا يثبت عليه الماء ، وكذلك الموعظة فإنها لا تثبت في قلبه ، فما يلبث أن يقوم من مجلس الذكر ويزول أثر الموعظة عنه سريعاً ، ولا يثبت في قلبه شيئا منها ..
أعلم ـ رحمك الله ـ أن الركن الأساسي في مدار التأثر بالموعظة من عدمها ، هو بمقدار صلاح ونقاء وتقوى القلب ، فكلما كان القلب ممتلئ بعبادة الله تعالى وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم كلما كانت الموعظة تأثر به ..
وكلما كان القلب فارغ من عبادة الله وحده ، كلما كان أثر الموعظة قليل إلى أن يصل التأثر بها بمقدار سماعه لها ، فيصبح القلب كمثل الماء الذي لو دحرجته على الحجر الأملس .. فهل يثبت الماء أم لا . !!
فإن قيل : يا أبا تيميه ، أنا أسمع المواعظ حال اليقظه ، فإذا انفصلت عن مجلس الوعظ عادت القسوة والغفلة ووقعت في المعصية ، فما هو السبب ؟
الجواب : فالناس يتفاوتون بهذا الأمر ، وذلك لأن صفة القلب وحالته عند سماع الموعظة لا تكون كصفته وحالته بعدها ، وذلك يعود في الأصل إلى قوة الواعظ وفنون وعظه ..
فالموعظة إن خرجت من قلب صادق دخلت إلى القلب ، فتشربت من صدق القلب الأول ، فأدى ذلك تأثر القلب الثاني .. وإن خرجت من قلب منافق كذاب ، فإن أرادت أن تدخل إلى القلب الثاني ، فإن كان القلب الثاني طاهر ونقي ، لم يقبل دخول القلب وأثره عليه ، كي لا يفسده .. وإن كان القلب الثاني فاسد مظلم أسود ، دخلت عليه وزادته سواداً إلى سواده .. فالموعظة كالسياط، كلما كان ضرب السياط على الجسم قوي وشديد كلما بقى أثر السياط من الحمرة على الموضع وكان به من الآلام من قبل قوة السواط، وهكذا مع الموعظة، فكلما كانت الموعظة قوية وصادقه ونابعة من قلب نقي تقي .. كلما كان لها الأثر الإيجابي على صلاح القلب المستقبلُ ، والعكس صحيح ..
والأمر الآخر، إنه عند سماع الموعظة في مجلس الذكر، فإن المستمع بطبيعة حاله ومقامه ، متخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا وجواذبها ـ والناس يتفاوتون في ذلك ـ فينصت بحضور قلبه، فإن عاد إلى الشواغل اجتذبته أمراضه وشهواته وشبهاته إلى الظلام ، وكيف يبقى الإنسان على نفس الحالة التي كان عليها عند سماع الموعظة، بينما تجتذبه الشواغل بعدها والشهوات وهو لازم لها متلبس بها ؟!
وحيث { أن الله يحول بين المرء وقلبه } وأنه لن ينجو يوم القيامة أحد { إلا من أتى الله بقلب سليم } وأن الويل وكل الويل { للقاسية قلوبهم من ذكر الله } وأن الوعد بالجنة لـ{ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب }.
فالمؤمن ـ الذكي ـ يتحسس قلبه ويخلوا بمفرده، ليعرف مكمن دائه، وسبب مرض قلبه فيشرع في العلاج ويستعين بالأطباء الروحانيين ـ العلماء وأهل التقوى ـ قبل أن يطغى عليه الران فيهلك ، فيخسر دنياه وأخرته من أجل مضغه في جسده ..
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبالله التوفيق ..
قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : "الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب" – حديث صحيح ..
إن آفاق هذه الحديث ليس روحية فقط، حيث كانوا يعتقدون أنه بصلاح القلب (أي الروح والنفس) يصلح الإنسان ويستقيم، وهذا صحيح، بالإضافة لما اكتشفه علماء الطب بأن هذا الحديث أيضاً ذو بعدٍ علميٍ دقيق، حيث أن القلب (كعضو في جسم الإنسان) إن صلح حاله ولم يصب بأمراض، صلح باقي الجسد ..
فسبحان الله، كل يوم يكتشف العلم ما يرينا قدرة الله وفصاحة رسولنا الكريم ..
بوركتً أخي الفاضل على المقال الطيب ..