والظاهرة التي استرعت انتباهنا ونود التدخل فيها ومناقشتها هي" الظهور على بعض القنوات الفضائية العربية ذات الإنتشار الواسع ,لمشاهد دعائية تأتي في أثناء أوقات الدعاية التسويقية التجارية لهذه القنوات ,حيث نرى مشهداً مأساوياً ينتهي بالموت مع صور مفصلة للقبر والدفن ليأتي بعدها إعلان يختم الدعاية بقول" أقم صلاتك قبل مماتك ".
ونحن بمحاولتنا تمحيص هذا الأمر من كل جوانبه لاندّعي بأن هذه الظاهرة الجديدة خاطئة أو صحيحة فهي تحتمل الوجهين.. ولكن علينا أن نتمحّص كلا الوجهين بدقة قبل أن نشكّل موقفاً منها , حيث أن وجهات نظرنا كلها نسبية ونحن مؤمنون قناعةً بأن أثبت القوانين في هذا الكون هو "عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم " . وأن من الأشياء لمفيد رغم أن ظاهره غير محبّب للنفوس .,ولكن حداثة هذه الفكرة وحساسية الموضوع الديني إضافة للظرف العالمي العام, تعطينا الحق بأن نحاول تقليب أمرٍ بهذه الحساسية على كلّ أوجهه,و سنكون حريصين على عدم التطرف والتعصب في مناقشتنا متجنبين اللجوء إلى ما اعتدناه من الصاق التهم والأحكام على الآخرين وافتراض مؤامرة شيطانية يهودية ,لابل إننا نفترض أو على الأقل نأمل حسن النية المسبق لدى من قام بعمل هذه الدعاية ..
وبطبيعة الحال فإننا لن نجادل المقصد الظاهري للدعاية والذي يبدو ببساطة تذكيراً بالصلاة ووعظاً للناس بأن الموت قريب وأنه ينبغي تدارك الوقت قبل فوات الأوان , فكلنا مقتنعون بأن الموت أكبر واعظ للأنسان ,وهذه البديهية ليست استنباطاً منا فقد تعددت الآيات القرآنية والأحاديث التي تعظ الناس بالموت , ولعل كلمة عمر بن الخطاب "كفى بالموت واعظاً ياعمر " تغنينا عن المزيد من الكلام في هذا المجال , و سنحاول قدر الإمكان تجاوز هذا المقصد الظاهري البديهي والتركيز على الملحقات والحواشي وقراءة مابين السطور تاركين المجال مفتوحاً لمن يود أن يتناول الأبعاد الإيجابية لمثل هذا الحدث الجديد علينا ..
في البداية إننا نرى في هذه الدعاية كسراً لقدسية أهم أركان الدين ودعامته الأساسية وهي الصلاة وبخساً لقدرها بإنزالها لمكانٍ تجاور فيه منتجاتٍ سلعيةً تسويقيةً أخرى , فأنت ترى قبلها على سبيل المثال دعاية لببسي كولا وأخرى لحفائض الأطفال ,وبعدها وضمن نفس السياق تأتي دعاية لأحد العطور أو زيت محركات , وكأنك بداخل سوبر ماركت تُعرَضُ فيه البضائع على رفوفٍ تجد الصلاة (معاذ الله) في إحداها , وإننا نعتقد أن هذا التعويم لمفهوم سامي ذو قدسية مهما كانت دوافعه ومبرراته سيكون من نتائجه التقليل من قيمة وقدسية هذا المفهوم خصوصاً وأن الدين الإسلامي كان حريصا كل الحرص على مثل هذه الإعتبارات على خلاف باقي الأديان ، فلا يمكن لك على سبيل المثال أن ترمي بأوراقٍ مكتوب عليها آيات قرآنية في سلة مهملات مهما كانت هذه السلة نظيفةً , ولايجوز لك أن تلمس القرآن إن لم تكن طاهراً , فالأشياء والمفاهيم تكمنُ قيمُها بداخلها والتعامل معها يلزم أن يأخذ بالحسبان قيمها الرمزية فلو أتانا مثلاً من يدّعي النيّة الطيبة وعرض أن نُعلّقَ أو نكتب آيلتٍ قرآنيةً في الحمّامات العامة عسى أن يستفيد منها بعض الناس في أوقات دخولهم لها لقلنا له جميعنا (لا) حرصاً على قدسية الكتاب رغم ماقد يبدو بالفكرة من جماليّة ظاهرة وحسن نِيّة . ولكن قد يعترض معترضٌ بأن الدعايات التلفزيونية ليست بمقام الحمّامات العامة….. ونحن نقول له: نعم هذا ما نقتنع به, ولكن الأمر يتعلق أيضاً بالصلاة عماد الدين وليست بأمرٍ منفعيٍّ يحتمل التشويه ولو بنعومة , كما أنني أسأل هذا المعترض أن يجيبني بصراحةٍ عمّا يرد في خواطر الناس حين يرون شخصيةً مشهورةً سياسيةً كانت أم فنّيةً تقوم بعمل إعلاناتٍ دعائيةً ؟ ألا يقال بأنه قد" قلّل من قيمته" وأن الحاجة المادية لابد أن تكون هي التي دعته للقبول بذلك ؟ فهل نقبل للصلاة أن تكون بطلة فيلم دعائي يترفع المشاهير من الفنانين عن أن يكونوا أبطالاً له ؟! فكّرو بالأمر قليلاً يا إخواني!!وعلى مستوى أقل قدسية ولكنه ضمن نفس السياق نجد أن الشركات الكبرى التي تقدم بضائع عالية النفاسة تترفع أن تعرض منتجاتها وسط أسواق المساحات الكبرى (السوبر ماركت) رغم ماقد يحقق لها ذلك من أرباح ,وذلك حفاظاً على القيمة الرمزية للإسم وتحضرني هنا رواية سمعتها منذ زمن ولا أدري إن كانت نادرةً أم واقعةً حقيقيةً وهي أن أحد الأثرياءِ في بلدٍ خليجيٍ كانت لديه مسألةٌ مع شركة السيارات الفخمة رولز رويس , وحين لم يُحَلّ هذا الخلاف على شكلٍ يرضي هذا الثري , أمر أحد سائقيه بالنزول بالسيارة إلى الشارع والعمل عليها كسيارة أجرة , إلاّ أن الشركة جنّ جنونها وتدخلت بسرعة لتدارك الموقف ولو بخسارةٍ حرصاً على أن لا يتم تعويم اسم هذا المنتج , أفليس حريّاً بنا أن نتعامل مع مفهوم الصلاة بهذه الدقةوالنعومة وهي أقدس من كل ما يمكن تصوّره من سلعٍ ؟؟أو ألم يكن بالممكن أن تُقَدّم هذه الدعوة للصلاة في مساحةٍ زمنيةٍ مستقلةٍ بعيدةً عن هذا الجو الإعلامي الرخيص حتى ولو على نفس القناة الإعلامية ؟؟
النقطة الثانية التي نراها تلفت الأنتباه أيضاً , تتعلق بالخطأ في الأسلوب الدعويّ, فمن أهم قوانين الدعوة أن تتوجّه إلى الناس لتدعوهم في الأوقات التي تكون فيها قابليتهم للإستقبال عاليةً , وإلا فإن دعوتك لن تلقى القبول المناسب ,لا بل على العكس قد تعطي آثاراً عكسيةً بالإرتداد عما تدعوهم إليه ! فهل يذهب أصحاب الدعوة في بلاد الكفار إلى الحانات أو النوادي الليلية مثلاً ليقوموا بنشر دعوتهم ؟ مطلقاً ..لأن هذا سوف ينفّر الناس مما تدعو إليه , ودعايتنا التي نحن بصددها تفاجئ الناس في ساعات المساء حين انتهوا من كل أعمالهم وحتى من كل صلواتهم وجلسوا باسترخاءٍ أمام التلفاز, فلن يكونوا بأعلى فترات استقبالٍ لهم, وسيكون أثر هذه الدعاية مثل أثر التنبيهات التي نراها على مغلفات وعلب السكائر والتي تدعوك للحذرمن أن التدخين يضرّ بصحتك ,وذلك بعد أن تكون قد أخرجت سيكارتك من علبتها وتحضّرت لإشعالها فلن تكون بهذه اللحظة مصغياً لهذه التنبيهات , وستنقلب علىهذه الإرشادات بشكلٍ دفاعيٍّ بتحويلها إلى وسيلة سخريةٍ وتندّرٍ وتفقد قيمتها كوسيلة وعظٍ وإرشاد,خصوصاً إن علمنا أن هذه الدعاية مقدمةٌ لجمهورٍ عريضٍ يتباين تبايناً شاسعاً في درجة احترامه للمقدسات .
النقطة الثالثة التي أثارت تساؤلاتنا تخص التقنية الفنية للدعاية وطريقة إخراجها ودراسة الأثر النفسي اللاواعي الذي يمكن أن تتركه خلفها , فنحن نعلم أن الدعاية علمٌ متكاملٌ يعتمد بشكل أساسي على ما توصّلت إليه دراسات علم النفس والطرق الحديثة للتخاطب, بأسلوبٍ يترك أثره مباشرة في اللاوعي ويتجاوز الخطاب الواعي التقليدي والحواجز الدفاعية والأطر والأنماط والقوالب الجاهزة للدماغ الأيسر , وتعتمد على ربط المعاني ببعضها على شكل صور تتلاصق بجانب بعضها البعض لتترك علاقة شرطية بين هذه الصور , وإننا نجد أن الدعاية التي نتكلم عنها أصرت إصراراً غريباً على ربط مفهومي الصلاة والموت ببعضهما , فنحن إذا تجاوزنا المقصد الظاهري المباشر لهذه الدعاية وهو الوعظ باستعمال فكرة الموت , سنجد أن ماسيتبقى في ذهن المتلقي المشاهد بعد انتهاء رؤيته للدعاية وانشغال ذهنه بعد ذلك بصورٍ ذات مضمونٍ مختلفٍ تقدمها له نفس القناة التلفزيونية, تكون المعادلة الأولى فيها هي موت = صلاة إلا أن هذه المعادلة تحتمل أيضاً عكسها وهو النقيض تماماً أي صلاة = موت , وإننا لنتساءل ألم يجد صانعو هذه الدعاية من مفهومٍ حيويٍّ آخريرمز للسعادة والحياة لإضافته إلى الصلاة, وكلنا يعلم أن المفهوم الديني للصلاة هو مفهوم راحة (أرِحنا بها يا بلال ) وكذلك مفهوم محبةٍ وتواصلٍ مع الآخرين , أي مفهوم حياة وليس فقط مفهوم موت . وهذه النقطة بالذات كانت موضع دراساتٍ وجدلٍ كثير في أوربا بعد انتشار مرض الأيدز حيث لزمت التوعية إلى ضرورة استعمال الموانع البلاستيكية أثناء الأعمال الجنسية الإباحية ( وقانا الله منها وإياكم) حيث أن الدعايات التي اعتمدت فقط على إخافة الناس من مرض الإيدز أثبتت عدم فاعليتها , وسرعان ما تمّ استبدالها بدعاياتٍ أخرى تربط هذه الموانع باللذة والسرور والحب , وقد أثبتت هذه الأخيرة أنها أسرع في إيصال غرضها من الدعايات المباشرة المعتمدة فقط على لغة التخويف والإنذار , وهذه القاعدة معروفة تماماً لدى منتجي الدعايات الإعلانية ومنتشرة بكثرة حتى في بلادنا حيث نجد أن بعض الدعايات غريبةَ المحتوى وتتكلم عن مواضيعَ تبدو للوهلة الأولى بعيدةً عن المضمون المباشر للمادة التي تود تسويقها ولكن دراستها تحليلياً تبين أنها تعطي رسالة خفية تفي بالغرض تماماً بوصولها للاّوعي .
النقطة الرابعة التي نود ذكرها والتركيز عليها تتعلق بالمصداقية ,فنحن نعلم أن من يدعو إلى شيءٍ عليه اتباعه والإلتزام به وإلاّ نفّر الآخرين منه وأصبح كالطبيب الذي ينصح مرضاه بالإبتعاد عن التدخين وسيكارته في يديه , فلو تغاضينا عن النقاط التي ذكرناها سابقاً , كان من الممكن لنا أن نقبل مثل هذه الدعاية من قنوات عرف عنها الرصانة والجد والحرص على نشر تعاليم الدين وأخلاقياته , أما أن تتقدم قنوات لا تتورّع عن عرضِِِ كل مفاسد الحياة بتقديم نصائح ومواعظ دينية لنا فإن هذا سيصبح مثل المطرب حسن الصوت الذي يطلب الأذان في المسجد لأن صوته جميل !! ويا حبذا لو كانت القناة موضع التساؤل قد عرضت الجهة التي كانت وراء هذه الدعاية حكومية كانت أم خاصة لكنا وجدنا تبريراتٍ لمثل هذه الدعاية .
وأخيراً.. يبدو أن هذه القنوات قد استعملت هذا البعد الديني لتلميع صورتها وكسب زبائن جدد لها باستمرار .. وهذا من حقهم .. ولكن المطلوب الدقة والحذر في استعمال أساليب التسويق كي تكون أكثر نجاحاً .
ولاحول ولاقوة إلا بالله