إذا كان جوهر صدق الأعمال هو إخلاص النية، فإن أعلى مراتب الدين هو الإحسان. وليس ثمة مسيرة طويلة بين الإخلاص والإحسان؛ فالمؤمن القادر على إخلاص نيته لله الواحد وتجديدها مع كل عمل يقوم به هو إنسان قادر على الوصول إلى مرتبة الإحسان التي ليس لها جزاءً إلا جنة رب العالمين.
والطريق إلى الإحسان يبدأ بالرغبة الصميمة في الامتثال لأوامر لله وتجنب نواهيه واستشعار حب الله ورسوله في القلب، كأن يكون كل عمل وكل حركة وكل سكون في سبيل الله؛ وهو ما يجلب حب الله ورضاه؛ وهو القائل سبحانه في كتابه الحكيم: "وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ".
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإحسان ركن واحد ولكن له مرتبتين؛ فحجر الزاوية فيه هو "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، أما المرتبين أو الدرجتين فهما:
الدرجة الأولى:أن نعبد الله عبادة من يرى الله رأي العين، أي عبادة نستحضر فيها قربه ونستشعر وقوفنا الفعلي بين يديه وهو ما يوجب الخشية والتعظيم.
الدرجة الثانية: أن نعبده تعالى مع استشعار مراقبته لنا، ومن ثم إحسان كافة أعمالنا من باب الرهبة والتعظيم.
وعلى الرغم من عظم الدرجتين فإن المرتبة الأولي هي الأكثر كمالاً وبهاءً وقربًا من الله.
وإذا اقتربنا على نحو أكبر من مفهوم الإحسان؛ فنجد أن هناك ثلاثة معاني أساسية تندرج تحت هذا المفهوم وهي
1- أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
2- الإحسان إلى الناس وسائر الخلق أجمعين.
3- إحسان العمل وإتقانه وتجويده.
والإحسان الإلهي لا ينقطع ولا يتوقف فكل ميسر لما خلق له، والأرض والسماء والبر والبحر لآيات للمؤمنين ممن يعملون بصائرهم ويتأملون بديع صنع الله وتدبيره؛ فنعم الله لا تعد ولا تحصى وإحسانه أكبر مما يمكن حصره في خلق أو تدبير؛ فالقلب ينبض دون تدخل منا وحركة التنفس من شهيق وزفير دائبة حتى في أثناء النوم، وتعاقب الليل والنهار آية كبرى وإعجاز عظيم …. إلى غير ذلك من المنح والهبات التي سخرها الله لعباده. ومع كل تلك العطايا، أمرنا الله عز وجل بأن نسلك سبيل الإحسان في جميع مناحي الحياة لنحظى بثواب هذا الخلق العظيم الذي يرتضيه الله للمؤمنين؛ وهو ما قال عنه في محكم آياته: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ".
ولكن كيف يبلغ المسلم مرتبة الإحسان؟
يمكن للمسلم بلوغ ذلك بالإحسان إلى الله تعالى عن طريق المبادرة بالعمل الصالح وإتباع أوامره وتجنب نواهيه، والإحسان إلى خلقه من إنسان وحيوان ونبات. وإيتاء كل صاحب حق حقه بالعدل، فالحفاظ على بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء والتصدق عليهم والإحسان إلى النفس بتهذيبها وتدريبها على الخلق الحسن والنأي بها عما حرم الله، وتفقد القلب ومحاسبة النفس، والمداومة على قيام الليل والاستغفار،جميع ذلك من أوجه الإحسان عظيمة الأثر؛ التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، ولْيحد أحدكم شَفْرته، فلْيُرِح ذبيحته).
جزاء الإحسان
ليست العقيدة الإسلامية إلا بناء أخلاقيًا أراد الله به ضبط سلوك الأمة الإسلامية لتصبح أمة وسطًا يتحلى معتنقيها بأخلاق أهل الجنة، ومن ثم فإن التجارة مع الله هي التجارة الرابحة، فالإحسان بكل صوره لا جزاء له إلا الجنة، "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان"؛ لما لا وقد قال عز وجل في سورة يونس: " لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ". والجنة هي الإحسان الإلهي الأعظم الذي يطمح المؤمن في الوصول إليه. وهي ثواب المحسنين، الذين أحسنوا العمل في دنياهم أملاً في محبة الله وعظيم جنته، ونصره وتأييده ولطفه وفرجه، فسبحانه القائل: "إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون".