ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بـســم الله الـــرحـمــن الرحيـــــم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عـن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله
عليــه وسلـم ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن
الضعيف ، وفــي كـل خير . احرص على ما ينفعك ، واستعن
بالله ولا تعجز . وإن أصابك شيء فلا تقل : لـو أني فعلت ،
كان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن
لو تفتح عمل الشيطان ) (1) .
هذا الحديث اشتمل على أصول عظيمة وكلمات جامعة .
فمنها: إثبات المحبة صفة لله، وأنها متعلقة بمحبوباته وبمن
قام بها ودل على أنها تتعلق بإرادته ومشيئته وأيضا تتفاضل
فمحبته للمؤمن القوي أعظم من محبته للمؤمن الضعيف .
ودل الحـديث عـلى أن الإيمان يشمل العقائد القلبية ، والأقوال
والأفعال ، كمـا هـو مذهب أهل السنة والجماعة ; فإن الإيمان
بضع وسبعون شعبة، أعلاها: قـول ( لا إله إلا الله ) وأدناها :
إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة منه . وهـذه الشعب
التــي ترجع إلـى الأعمال الباطنة والظاهرة كلها من الإيمان .
فمـن قــام بهــا حق القيام ، وكمل نفسه بالعلم النافع والعمل
الصالح، وكمل غيره بالتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر:
فهو المؤمن القوي الذي حاز أعلى مراتب الإيمان ، ومن
لم يصل إلى هذه المرتبة : فهو المؤمن الضعيف .
وهـذا من أدلة السلف على أن الإيمان يزيد وينقص ، وذلك
بحسب علوم الإيمان ومعارفه ، وبحسب أعماله .
وهذا الأصل قد دل عليه الكتاب والسنة في مواضع كثيرة .
ولما فاضل النبي صلى الله عليـــه وسلم بين المؤمنين قويهم
وضعيفهم خشي من توهم القدح في المفضول ، فقــال " وفي
كل خير " وفـي هذا الاحتراز فائدة نفيسة ، وهي أن على من
فاضل بين الأشخاص أو الأجناس أو الأعمال أن يذكــــر وجه
التفضيل، وجهة التفضيل. ويحترز بذكر الفضل المشترك بين
الفاضل والمفضول، لئلا يتطرق القدح إلى المفضول وكـــذلك
في الجانب الآخر إذا ذكرت مراتب الشر والأشرار ، وذكــــر
التفاوت بينهما . فينبغي بعــد ذلك أن يـذكر القدر المشترك
بينهما من أسباب الخير أو الشر . وهذا كثير في الكتاب
والسنة .
وفـي هـــذا الحـــديث : أن المؤمنين يتفاوتون فــي الخيرية ،
ومحبة الله والقيام بدينه وأنهم في ذلك درجات {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ
مِّمَّا عَمِلُوا } الأحقاف : 19
ويجمـعـهم ثــلاثة أقســـــام : السابقون إلى الخيرات ، وهــــم
الذيـــن قــامـــوا بالواجبات والمستحبات ، وتركوا المحرمات
والمكروهات ، وفضول المباحات ، وكملوا مـــا باشروه مــن
الأعمـال ، واتصفوا بجميع صفات الكمال . ثــــم المقتصدون
الذين اقتصروا على القيام بالواجبات وترك المحظورات ، ثم
الظالمون لأنفسهم ، الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا .
وقوله صلى الله عليه وسلم "احرص على ما ينفعك واستعن
بالله " كلام جامع نافع ، محتو على سعادة الدنيا والآخرة .
والأمور النافعة قسمان : أمور دينية ، وأمور دنيوية .
والعبد محتاج إلى الدنيوية كما أنه محتاج إلى الدينية . فمدار
سعادته وتوفيقه علـى الحرص والاجتهاد فـــي الأمور النافعة
منهما ، مـــع الاستعانة بالله تعالى ، فمتى حرص العبد علــى
الأمور النافعة واجتهد فيها وسلك أسبابها وطرقها، واستعان
بربه في حصولها وتكميلها: كان ذلك كماله وعنوان فلاحه .
ومتى فاته واحــد مــن هـــذه الأمـور الثلاثة : فاته من الخير
بحسبها . فمن لـم يكن حريصا على الأمور النافعة ، بل كان
كسلانا ، لــم يدرك شيئا . فالكسل هو أصل الخيبة والفشل .
فالكسلان لا يدرك خيـرا ، ولا ينال مكرمة ، ولا يحظى بدين
ولا دنيا ومتى كان حريصا، ولكن على غير الأمور النافعة :
إمــــا على أمور ضارة ، أو مفوتة للكمال كان ثمرة حرصه
الخيبة ، وفوات الخير ، وحصول الشر والضرر ، فكــم من
حريص على سلوك طرق وأحوال غير نافعة لم يستفد من
حرصه إلا التعب والعناء والشقاء .
ثـم إذا سلك العبد الطرق النافعة ، وحــرص عليهــا ، واجتهد
فيها : لم تتم له إلا بصدق اللجأ إلى الله ; والاستعانة به على
إدراكها وتكميلها وأن لا يتكل على نفسه وحوله وقوته ، بــل
يكـــون اعتماده التام بباطنه وظاهره على ربه . فبذلك تهون
عليـه المصاعب ، وتتيسر لـــه الأحوال ، وتتــم لـــه النتائج
والثمرات الطيبة في أمر الدين وأمر الدنيا ، لكنه فـي هـــذه
الأحوال محتاج – بل مضطر غاية الاضطرار – إلـــى معرفة
الأمور التي ينبغي الحرص عليها ، والجد في طلبها .
فالأمور النافعة في الدين ترجع إلى أمرين : علم نافع ،
وعمل صالح .
أما العلم النافع : فهو العلم المزكي للقلوب والأرواح ، المثمر
لسعادة الدارين وهـو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
من حديث وتفسير وفقه، وما يعين على ذلك من علوم العربية
بحسب حالة الوقت والموضع الذي فيه الإنسان ، وتعيين ذلك
يختلف باختلاف الأحوال. والحالة التقريبية : أن يجتهد طالب
العلم في حفظ مختصر من مختصرات الفن الذي يشتغل فيه .
فـإن تعذر أو تعسر عليه حفظه لفظا ، فليكرره كثيرا ، متدبرا
لمعانيه، حتى ترسخ معانيه في قلبه . ثم تكون باقي كتب هذا
الفن كالتفسير والتوضيح والتفريع لذلك الأصل الـــذي عرفه
وأدركه ، فإن الإنسان إذا حفظ الأصول وصار لـه ملكة تامة
في معرفتها هانت عليه كتب الفن كلها: صغارها وكبارها .
ومن ضيع الأصول حرم الوصول .
فمن حرص على هـــذا الذي ذكرناه ، واستعان بالله : أعانه
الله ، وبارك في علمه ، وطريقه الذي سلكه .
ومن سلك في طلب العلم غير هذه الطريقة النافعة: فاتت عليه
الأوقات ، ولم يدرك إلا العناء ، كمــا هو معروف بالتجربة .
والواقع يشهد به ، فـــإن يسر الله لــــه معلما يحسن طريقة
التعليم، ومسالك التفهيم: تم له السبب الموصل إلى العلم .
وأمـا الأمر الثاني – وهو العمل الصالح – : فهــــو
الـذي جمع الإخلاص لله ، والمتابعة للرسول صلـــى الله عليه
وسلـم ، وهو التقرب إلى الله : باعتقاد ما يجب لله من صفات
الكمال ، ومــا يستحقه عـلى عباده مــــن العبودية ، وتنزيهه
عما لا يليق بجلاله ، وتصديقه وتصديق رسوله فــي كل خبر
أخبرا بــه عما مضى ، وعمــــا يستقبل عن الرسل ، والكتب
والملائكة، وأحـوال الآخرة، والجنة والنار، والثواب والعقاب
وغير ذلك . ثم يسعى في أداء ما فرضه الله على عباده : من
حقوق الله ، وحقوق خلقه ويكمل ذلك بالنوافل والتطوعات ،
خصوصا المؤكدة في أوقاتها، مستعينا بالله على فعلها وعلى
تحقيقها وتكميلها وفعلها على وجه الإخلاص الذي لا يشوبه
غرض من الأغراض النفسية . وكـــذلك يتقرب إلى الله بترك
المحرمات وخصوصا التي تدعو إليها النفوس وتميل إليها .
فيتقرب إلى ربه بتركها لله كما يتقرب إليه بفعل المأمورات،
فمتى وفق العبد بسلوك هذا الطريق في العمل ، واستعان
الله على ذلك أفلح ونجح . وكان كماله بحسب ما قام به
من هذه الأمور ، ونقصه بحسب ما فاته منها .
وأما الأمور النافعة في الدنيا: فالعبد لا بد له من طلب الرزق.
فينبغــي أن يسلك أنفع الأسباب الدنيوية اللائقة بحاله . وذلك
يختلف باختلاف النـاس ، ويقصد بكسبه وسعيه القيام بواجب
نفسه ، وواجب من يعوله ومن يقوم بمؤنته ، وينوي الكفاف
والاستغناء بطلبه عن الخلق . وكـــــذلك ينوي بسعيه وكسبه
تحصيل مـا تقوم به العبوديات المالية : من الزكاة والصدقة ،
والنفقات الخيرية الخاصة والعامة ممــا يتوقف عــلى المال ،
ويقصـد المكاسب الطيبة، متجنبا للمكاسب الخبيثة المحرمة.
فمتى كان طلب العبد وسعيه في الدنيا لهذه المقاصد الجليلة،
وسلك أنفع طريق يراه مناسبا لحاله كانت حركاته وسعيه
قربة يتقرب إلى الله بها .
ومــن تمــام ذلك : أن لا يتكـل العبد على حوله وقوته وذكائه
ومعرفته، وحذقه بمعرفة الأسباب وإدارتها، بـل يستعين بربه
متوكلا عليه ، راجيا منـه أن ييسره لأيسر الأمور وأنجحها ،
وأقربها تحصيلا لمراده ، ويسأل ربه أن يبارك له فـي رزقه:
فأول بركة الرزق : أن يكـــون مؤسسا عــلى التقـوى والنية
الصالحة . ومــن بركــة الرزق : أن يوفق العبد لوضعه فــي
مواضعه الواجبة والمستحبة . ومــــن بركـــة الــــرزق : أن
لا ينسى العبد الفضل في المعاملة كما قال تعالى { وَلاَ تَنسَوُاْ
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } بالتيسير على الموسرين وإنظار المعسرين ،
والمحاباة عند البيع والشراء ، بما تيسر من قليل أو كثير ،
فبذلك ينال العبد خيرا كثيرا .
فإن قيل : أي المكاسب أولى وأفضل ؟
قيـل : قد اختلف أهل العلم في ذلك ، فمنهم من فضل الزراعة
والحراثة ، ومنهم من فضل البيع والشراء ، ومنهم من فضل
القيام بالصناعات والحرف ونحوها. وكل منهم أدلى بحجته ،
ولكن هذا الحديث هو الفاصل للنزاع، وهو أنه صلى الله عليه
وسلـم قال " احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله " والنافع
مـن ذلك معلوم أنـه يختــلف باختلاف الأحوال والأشخاص ،
فمنهم من تكون الحراثة والزراعة أفضل في حقه ، ومنهــم
مــن يكون البيع والشراء والقيام بالصناعة التي يحسنها
أفضل في حقه ، فالأفضل من ذلك وغيره الأنفع .
فصلوات الله وسلامه على من أعطي جوامع الكلم ونوافعها.
ثـــم إنـــه صلى الله عليه وسلم حض على الرضى بقضاء الله
وقدره ، بعــد بذل الجهد ، واستفراغ الوسع في الحرص على
النافع . فـإذا أصاب العبد ما يكرهه ، فلا ينسب ذلك إلــى ترك
بعض الأسباب التي يظن نفعها لو فعلها، بل يسكن إلى قضاء
الله وقدره ليزداد إيمانه ، ويسكن قلبه وتستريح نفسه ; فــإن
"لو" في هذه الحال تفتح عمل الشيطان بنقص إيمانه بالقدر،
واعتراضه عليه، وفتح أبواب الهم والحزن المضعف للقلب .
وهذه الحال التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم هــي
أعظم الطرق لراحة القلب ، وأدعى لحصول القناعة والحياة
الطيبة ، وهــو الحرص على الأمور النافعة ، والاجتهاد فـي
تحصيلها، والاستعانة بالله عليها، وشكر الله على ما يسره
منها ، والرضى عنه بما فات ، ولم يحصل منها .
واعلم أن استعمال " لو " يختلف باختلاف ما قصد بها ، فإن
استعملت فـي هذه الحال التي لا يمكن استدراك الفائت فيهـا ،
فإنها تفتح على العبد عمل الشيطان ، كــما تقـــدم ، وكـــذلك
لــو استعملت فـــي تمني الشر والمعاصي فإنهــــا مذمومة ،
وصاحبها آثم ولو لم يباشر المعصية، فإنه تمنى حصولها .
وأما إذا استعملت في تمني الخير، أو في بيان العلم النافع،
فإنها محمودة ؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد .
وهذا الأصل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأمر
بالحرص على الأمـــور النافعة ، ومــن لازمه اجتناب الأمور
الضارة مع الاستعانة بالله يشمل استعماله والأمــر بـــه فــي
الأمور الجزئية المختصة بالعبد ومتعلقاته ، ويشمل الأمـــور
الكلية المتعلقة بعموم الأمة . فعليهم جميعا أن يحرصوا على
الأمـور النافعة ، وهـــي المصالح الكلية والاستعداد لأعدائهم
بكل مستطاع مما يناسب الوقت من القوة المعنوية والمادية،
ويبذلوا غاية مقدورهم في ذلك، مستعينين بالله على تحقيقه
وتكميله ، ودفع جميع ما يضاد ذلك . وشرح هذه الجملة
يطول وتفاصيلها معروفة .
وقــد جمــع النبــي صلــى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين
الإيمان بالقضاء والقدر ، والعمل بالأسباب النافعة ، وهـــذان
الأصلان دل عليهما الكتاب والسنة في مواضع كثيرة، ولا يتم
الدين إلا بهما، بل لا تتم الأمور المقصودة كلها إلا بهما، لأن
قوله "احرص على ما ينفعك" أمر بكل سبب ديني ودنيوي،
بل أمر بالجد والاجتهاد فيه والحرص عليه ، نية وهمة ،
فعلا وتدبيرا .
وقوله "واستعن بالله" إيمان بالقضاء والقدر ، وأمر بالتوكل
على الله الذي هو الاعتماد التام على حوله وقوته تعالى فــي
جلب المصالح ودفع المضار ، مع الثقة التامة بالله في نجاح
ذلك . فالمتبع للرسول صلى الله عليه وسلم يتعين عليه أن
يتوكل على الله في أمر دينه ودنياه ، وأن يقوم بكل سبب
نافع بحسب قدرته وعلمه ومعرفته والله المستعان .
كتـــــاب : بهجة قــلـــوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح
جوامع الأخبار ( ص24 ) للشيخ عبد الرحمن السعدي
….
(1) أخرجه مسلم في صحيحه ( ك القدر ، ب الأمر بالقوة وترك العجز
والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله ، ص 1445 / ح 2664 )
من حديث أبي هريرة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أسال الله أن لايرد لك دعوة،
ولايحرمك من فضلة ويحفظ أسرتك
وأحبتك، ويسعدك ،ويفرج همك
وييسرأمرك ويغفرلك ولوالديك
وذريتك وأن يبلغك أسمى مراتب الدنيا
وأعلى منازل الجنة
انتقاء موفق