أما بعد، فيا عباد الله:
ها هي ذي رحمة الله عز وجل تهمي إلينا من سمائه، وها هو ذا فضل الله سبحانه وتعالى يقبل إلينا بكرمه وصفحه وجوده، فلنحافظ على هذه النعمة التي يرسلها الله عز وجل إلينا، ولنحصن هذه الرحمة التي يكرمنا بها الله سبحانه وتعالى بالشكر، والشكر ليس كما قد يخطر بالبال أنه كلمة ترددها الألسن كما تعلمون، بل الشكر الحقيقي الذي أمرنا الله عز وجل به والذي به تدوم النعم هو أن نسخر النعم التي يكرمنا الله عز وجل بها لما يحقق مرضاته، لما قد أمَرَنا الله سبحانه وتعالى به، الشيء الذي يحصن الرحمة الإلهية التي تقبل إلينا إنما هو أن نتراحم، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: ((من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَم)).
والله عز وجل غني عنا، لا يتأتى للعبد أن يرحم مولاه وخالقه، بل العبد هو الذي ينتظر دائماً رحمة الله سبحانه وتعالى وإحسانه، ولكن المراد بالرحمة التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو تراحم الناس بعضهم مع بعض، ومن ثَمَّ قال: ((مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم)). أي الأمة التي لا يشيع فيما بينها التراحم بدلاً من الظلم والتباغض والتكاره تتقلص عنها رحمات الله سبحانه وتعالى، فإذا أردتم دوام هذه النعمة، فحصنوها بشكر الله عز وجل، حصنوها بالتراحم.
والخطوة الأولى:-، التي لا بد منها في الطريق إلى التراحم، إنما هي الابتعاد عن الظلم/ لا يمكن للأمة أن تتراحم والظلم منتشر فيما بينها، ولقد حذرنا كتاب الله سبحانه وتعالى من الظلم أيما تحذير، وحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من التظالم أيما تحذير، وأنبأتنا شريعة الله عز وجل أنهما حقان: حقٌّ لله عز وجل على العباد، وحقٌّ للعباد على العباد، فأما حق الله عز وجل فمآله الرحمة ومبني على المسامحة، وأما حق العباد فمبني على المشاححة، لا تسامُح في حق العباد قط، ومن ثَمَّ فإن واجباً يتعلق بنا جميعاً على كل المستويات، وهو أن نتذكر ضرورة التراحم عندما نستقبل رحمة الله عز وجل الوافدة إلينا، أن نتذكر ضرورة الابتعاد عن الظلم عندما نجد رسائل الحب التي تفد إلينا من الله سبحانه وتعالى.
أَأُحدثكم عن خطورة الظلم والتظالم يا عباد الله؟! وما أظن أن فيكم من لم يسمع تهديدات كتاب الله وتهديدات المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)).
وإن أردتم المزيد فحسبكم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكن هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا قد بلَّغْت، ألا لا تعودوا بعدي ضُلاَّلاً (وفي رواية كفّاراً) يضرب بعضكم رقاب بعض)).
حسبكم من هذا ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اقتطع حق امرئ بيمينه)) (امرئ، لم يقل من اقتطع حق مسلم)((من اقتطع حق امرئ بيمينه أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)). قال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيباً من أراك)).
ولعلكم جميعاً تعرفون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار ولا متاع. قال: ((إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُؤخَذُ لهم من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذت من سيئاتهم وطرحت عليه ثم طُرِح به في النار)).
هذه الأحاديث بعض مما ذكره المصطفى صلى الله عليه وسلم محذراً المسلمين على اختلاف درجاتهم من الظلم، من أكل مال الآخرين دون حق، من الإساءة إلى الآخرين دون حق، من اقتطاع شبر من أرض لمالكه دون حق، وإن أردنا ألا تنقطع عنا رحمات الله سبحانه وتعالى فلنتذكر هذا الذي أمرنا به الله ومن ثم أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ينبغي لقادة الأمة أن يقفوا أمام هذا الذي يحذرنا منه الله ويحذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وينبغي لشتى فئات الأمة، نجارها، قادتها، عمالها، زراعها، ينبغي أن يتبنوا هذه الحقيقة، ينبغي أن يبتعد كل منا عن الظلم، الظلم ظلمات كما يقول المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وليس بيننا وبين أن تستمر رحمات الله سبحانه وتعالى مقبلة إلينا تهمي من السماء وتنفجر من الأرض، ليس بيننا وبين أن تعود الأنهار ممرعة ممتلئة إلا شيء واحد هو أن نتراحم. وكما قلت لكم التراحم لا يكون بكلمة يرددها أحدنا على سبيل المجاملة، المجاملة لا مكان لها في ميزان الله سبحانه وتعالى، وإنما يكون التراحم بألا نظلم، أول خطوة من الخطوات إلى غاية التراحم أن نبتعد عن الظلم، خطاب يخاكب الله عز وجل به أولي الأمر، يخاطب الله سبحانه وتعالى شتى طبقات المجتمع أن يبتعدوا عن الظلم، ومن ثم ينبغي أن يشيع بينهم التراحم، فمن رحم رحمه الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: ((مَنْ لا يَرْحَم لا يُرْحَم)). وإنَّما يُفَسَّر هذا الكلام الرباني الذي يخاطبنا به قائلاً: {وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 25/20].
إنما يُفَسَّر بهذا المعنى. يبتلي الله عز وجل الناس بعضهم ببعض، فإن شاع فيما بينهم التراحم، استعمل القوي فيهم قوته في الرحمة، في العناية بالضعيف، في السهر على حقوقه، رحمهم الله جميعاً، وإن استعمل القوي أو المتنفذ قوته أو نفوذه في الظلم، في أخذ الحق فإن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يقطع رفده عنهم، لا بد أن يقطع الله سبحانه وتعالى بركة الأرض والسماء عنهم.
نحن اليوم نستقبل رحمة الله سبحانه وتعالى، والقرار وضعه الله عز وجل بأيدينا، فإما أن تستمر هذه الرحمة وإما أن تنقطع، الأمر وضعه الله بأيدينا، إن تبنا إلى الله على كل المستويات، أقول: على كل المستويات، إن تبنا إلى الله عز وجل، فابتعدنا عن الظلم، ابتعدنا عن استلاب حقوق الآخرين، وشاع التراحم في مكان ذلك فيما بيننا امتدت هذه الرحمة الربانية، وتزايدت ثم تزايدت دون انقطاع، أما إن ركبنا رؤوسنا وسرنا على النهج الذي نعرفه وتعرفون، وأهملنا حقوق بعضنا لبعض، وشاع الظلم أشكالاً وألواناً فيما بيننا، فانتظروا انقطاع هذه النعمة.
بارك الله فيكم
وجزاكم الله خير
بارك الله فيكم
وجزاكم الله خير
وجزاكم الله خير