تخطى إلى المحتوى

حسن التعامل مع نصوص المفسرين والأدب معهم 2024.

حسن التعامل مع نصوص المفسرين والأدب معهم
بقلم: د. مرهف عبد الجبار السقا
من قواعد البحث في الإعجاز العلمي:
حسن التعامل مع نصوص المفسرين والأدب معهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
يأخذ الحماس بعض الكاتبين في الإعجاز العلمي نحو التسرع في الحكم على كلام المفسرين واللغويين، فيقوم بتقييم كلامهم وقياس معانيهم، مع أن الكاتب قد لا يكون من أهل التخصص الشرعي أو على الأقل ليس له دراية في علم اللغة ولم يعانيها كما عاناها المتقدمون من أهل العلم، ثم يصدر حكمه عليهم بالخطأ والتضعيف والرد، فكثيراً ما نجد هذا التعبير في أبحاث الإعجاز العلمي: (وقد أخطأ المفسرون القدامى في كلامهم، أو: وكلامهم هذا بعيد)، أو ما يشبهه من التعبير كتجهيلهم من غير مبرر سوى أن الكاتب وجد معلومة لم توافقها آراء المفسرين واللغويين ويعتبرها هو مسلمة ثم يرمى بالقاضية على السابقين.
وإني هنا لا أدعي العصمة لغير الرسول صلى الله عليه وسلم، كما لا أدعو إلى التسليم لآراء المفسرين دون دراسة وتمحيص، ولكني أدعو إلى احترام التخصص العلمي، وأن يدخل الميدان أهله، وأدعو الباحثين إلى عدم المجازفة العلمية وخاصة عند التعامل مع آراء السلف الصالح رضي الله عنهم، مع أننا لو أنصفنا في التعامل مع نصوص المفسرين وآرائهم لوجدنا لكلامهم اعتبار بل ربما يكون الصواب ما يقولونه، ونجد رأي من عاب عليهم رأياً فاسداً علته من الفهم السقيم.
وكم يعجبني قول الدكتور عبد الحفيظ حداد في قواعد كتابة أبحاث الإعجاز العلمي إذ جعل من هذه القواعد: (تحاشي العبارات التي تحمل طابع التسفيه لأقوال العلماء السابقين من سلف هذه الأمة حتى ولو ظهرت لهم أخطاء، بل يتأدب في رد الخطأ مع الأخذ بعين الاعتبار أنه ربما ظهر وجه يجعل كلامهم الذي قالوه معتبراً، وكم عاب إنسان غيره وكان العيب عنده لقصور فهمه). [1]
ولذلك يجب على المشتغل في أبحاث الإعجاز والتفسير العلمي أن يحسن التعامل مع نصوص التفسير وآراء العلماء من حيث الفهم والسبك، وأن ينزلها منزلتها في الاعتبار، وأن لا يحملها ما لا تحتمل، أو يجعلها في موضع لا تدل عليه.
وأضرب مثلاً على ذلك بما فعله بعضهم عندما تناول قوله تعالى: ((خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِق)) [الطارق:6]، تحت عنوان "لماذا خرج القرآن عن المعهود ووصف المني بالماء الدافق بدلاً من المدفوق"، ثم يجيب عن ذلك بأن هذا التعبير (يعني أنه حي التكوين فاعل، تتسابق مكوناته في نشاط، وجرده من صفة البشرية بجعله مادة أولية يتخلق منها الإنسان، وهذا ما يطابق الحقيقة العلمية، لأن الخلية البشرية الأولى التي تحتوي على العدد الكامل من الفتائل الوراثية المستمدة من الأبوين هي البويضة الملقحة في المصطلح الطبي أو النطفة الأمشاج في مصطلح القرآن، ولكن تلك الحقيقة العلمية كانت خفية طيلة قرون عديدة بعد نزول القرآن مما جعل المفسرين في حيرة أمام وصف المني ذاته بالفاعل)، ثم نقل كلام المفسرين واللغويين في معنى "دافق"، وكلامهم كله يصب في أن دافق تأتي لغة بمعنى مدفوق، أي اسم مفعول، ورجح بعضهم أنها اسم فاعل، ثم يقول: (ها أنت ترى كم كانت حيرة المفسرين أمام هذا السر الدفين وهو الحركة الذاتية لعناصر حية في المني ومع ذلك بلغوه بترك تعبير اقرآن "ماء دافق" على ظاهره حتى كشفت الأيام تأويله).
فانظر كيف جعل الاختلاف اللغوي الصرفي الدلالي للعلماء حيرة، أي: شكاً في دلالة الآية، واعتبر حيرتهم هذه بسبب جهلهم بالسر الذي اكتشفته العلوم الحديثة وبيَّنه هو في بحثه، ونسي أن هؤلاء الأئمة لم يكونوا يجهلون أن خلق الإنسان كان من نطفة أمشاج قال ابن كثير: (قال ابن عباس في قوله: ((مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ)) يعني: ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، وحال إلى حال، ولون إلى لون. وهكذا قال عكرمة، ومجاهد، والحسن، والربيع بن أنس: الأمشاج: هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.)
وهو المصطلح عليه طبياً بالبيضة الملقحة، وما أظهره الكاتب من سر عظيم – كما يقول- نعم: كان سراً على الغربيين في أزمنة مديدة لكنه كان بداهة عند من وصفهم بالحيرة، وكان الأولى به أن يستثمر هذا الاختلاف في بيان الدلالة العلمية في كون الماء دافق أم مدفوق، فإن كان مدفوقاً فمن كان سبباً في اندفاقه، وما هي الآلية التي جعتله مدفوقاً، وإن كان دافقاً فكيف حصل هذا الاندفاق القوي الذي كان من أثره النطفة الأمشاج.
ولنقارن بين هذا الكلام السابق وما قالته إحدى الباحثات في تفسير هذه الآية مستثمرة الدلالة اللغوية بعدما ذكرت معنى دافق في المعاجم اللغوية وكتب التفسير، ثم تقول: (يخرج ماء الرجل متدفقاً كما تشير هذه الآية ومما يلفت النظر أن القرآن يسند التدفق للماء نفسه مما يشير إلى أن للماء قوة دفع ذاتية. وقد أثبت العلم في العصر الحديث أن المنويات التي يحتويها ماء الرجل لا بد أن تكون حيوية متدفقة متحركة وهذا شرط للإخصاب.
وقد أثبت العلم أيضاً أن ماء المرأة الذي يحمل البيضة يخرج متدفقاً إلى قناة الرحم (فالوب)، وأن البيضة لا بد أن تكون حيوية متدفقة متحركة حتى يتم الإخصاب. ومن المعلوم أن ماء الرجل يحوي بالإضافة إلى المنويات عناصر أخرى تشارك وتساعد في عملية الإخصاب مثال ذلك البروستاكلاندين التي تحدث تقلصات في الرحم مما يساعد في نقل المنويات إلى موقع الإخصاب.
وتعريف الحيوانات المنوية هي كائنات حية نشطة تسبح في السائل المنوي الذي يخرج من الرجل عند القذف وتحتوي الدفعة الواحدة حوالي 400 مليون حيوان منوي كما يتدفق السائل بشكل سريع ويحتوي الحيوان على ذيل طويل ورأس مصفح يساعد على السباحة السريع[2]
فانظر إلى البون الكبير بين من يستفيد من المعلومات الطبية ويستثمرها في خدمة الدلالات اللغوية وبين من يسيء فهمها واستخدامها ويتهم الأكابر مجازفة.
إني أعذر هذا الكاتب فيما ذهب إليه لأنه طبيب لا دراية له باللغة والبيان، ولكني لا أعذره في المجازفة في الحكم – وهو غير أهل لذلك – على نصوص الأئمة ووصفها بذلك الوصف ليعظم نتيجته، ويظهر بديع تفسيره الذي لم يأت بجديد، وإن هذه الطريقة الشائعة في بعض أبحاث الإعجاز العلمي تجعل لدى المتخصصين ردة فعل غير محمودة العاقبة، كما أنها تجعل أبحاث الإعجاز والتفسير العلمي عرضة للتشويه والاعتراض.
ــــــــــــــ
(1) كيف تكتب بحثاً في الإعجاز العلمي ، د عبد الحفيظ حداد مجلة الإعجاز العلمي ، صـ20 العدد 17.
(2) الضابط اللغوي في التفسير العلمي للقرآن الكريم، هدى هشام الزيدي صـ330، بحث مقدم لكلية التربية للبنات جامعة بغداد 2024.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.