الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :
فإننا في هذه السطور تنشرح منا الصدور، لأننا أمام إمام همام، ومجاهد ببنانه وسنانه، قد قاتل أعداء الله وجاهد في الله حق جهاده بسلاحين حملهما بيده، أحدهم : السيف والرمح، وثانيهما القرطاس القلم، فكأن أحمد بن الحسين عناه بقوله :
الخيل والليل والبيداء تعرفني * والسيف والرمح والقرطاس والقلم
إنه شيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام بن تيمية الحراني .
وما يعنينا هنا هو أمر منافحته عن دين الله بقلمه ولسانه، ومناظرته ومقابلته للطوائف الضالة والمبتدعة، وقوة اطلاعه على مذاهب القوم، وقوة حجته، وتمكنه من الرد الرصين الذي يزهق معه الباطل.
ولقد قال فيه ابن الزملكاني إمام الشافعية في زمن ابن تيمية :
( كانت الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، ولا يُعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشرع أو غيرها إلا فاق فيه أهله ).
ولنأخذ نموذجاً واحداً من قوة حجته وسرعه بديهته، واستحضار جوابه ، حين يكون الموقف مستدعياً لذلك : جاء إنسان إلى الشيخ يوماً بخبز يابس فقال : يا سيدي قد جِبتُ هذا من صماط الخليل على اسمك فقال له : ( مالي به حاجة، أنا حاجتي إلى الدين الذي عليه الخليل، ومتابعة ملة الخليل الذي أمر الله أمه محمد بمتابعته، مالي حاجة بهذا الخبز، والخليل ما عمل هذا ! ولا أمر بهذا العدس ! ولا كان يطعم ويضيف غير اللحم، قال تعالى ( فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين )، وأما العدس فإنه شهـوة اليهود وقد سئـل عبد الله بن المبارك رضي الله عنه – فقيل له : جاء في الحديث أن العـدس قدَّسه سبعون نبي ، فقـال : ( لن ولا نصف نبي) ( ص 139) من الجامع لسيرة ابن تيمية
ومواضع العجب في هذا الموقف القوي الذكي ما يلي :
1- قوله : أنا حاجتي إلى الدين الذي عليه الخليل ! لقوله تعالى (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) ( ثم أو حينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا).
2- قوله : والخليل ما عمل هذا لقوله تعالى ( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين )
3- قوله : وأما العدس فإنه شهوة اليهود، لقوله تعالى : (فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسه….)
4- قوله : ولا كان يطعم ويضيف غير اللحم ، واستدلاله بقوله تعالى : (فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين)
5- إيراده لقول ابن المبارك ( لن، ولا نصف نبي) ليبين أن الحديث موضوع مكذوب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
فهذه خمس حجج قابلة للزيادة من موقف يسير عابر لابن تيمية مع هذا الرجل الجاهل ، فما بالك إذا استوفز واستعد للرد فسيكون – بلا شك – أكثر تمكناً وتنفيد.
وإن من البدع التي قام شيخ الإسلام بردِّها والاعتذار عما حصل من أهله ، ما يسمى ببدعة الاحتفال بليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي التي يعتقد الجهال أنه يشرع الاحتفال به ، وأنها توافق الليلة الثانية عشرة من ربيع الأول من كل سنة.
وقد صُغْتُ مقابلةً مع شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – فتصورت شيخ الإسلام جالساً على كرسي الإفتاء وهو بحرّان في الشام، وتحت كرسيه بعض الذين يحيون – بل يميتون – ليلة الثاني عشر من ربيع الأول، وتخيلت أنهم يسألونه أسئلة ويجيبهم عليه.
علماً أنني ذكرت كلام شيخ الإسلام بنصه وفصِّه، ولم أغير منه شيئاً إلا ما استدعى الاختصار فقط وهو يسير، وإنما أنزلت على تقريرات شيخ الإسلام أسئلةً رأيتها تطابق ما قرره – رحمه الله تعالى -.
فما أسئلة أهل المولد النبوي ، وما إجابات شيخ الإسلام المسددة الموفقة ؟! فإلى ذلك اللقاء الحافل أذهب بكم وأترككم هناك مع المقدم للّقاء والمنسق له.
يبتديء المقدم قائلاً : قد وردَتنا أسئلة كثيرة وشبهات من الذين يعتقدون سنية إحياء ليلة المولد النبوي ، فنترككم أعزائي القراء ومع ما يطرحون من إشكالات واستفسارات.
س1: البدع التي يقع فيها الناس، ما سبب انتشارها وظهوره؟
أصل الضلال في أهل الأرض ؛ إنما نشأ من هذين : إما اتخاذ دين لم يشرعه الله ، أو تحريم ما لم يحرمه الله… فالأصل في العبادات : أن لا يشرع منها إلا ما شرع الله ، والأصل في العادات : أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله، وهذه المواسم المحدثة ؛ إنما نهى عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرب به(ص 369 )
س2: كيف تمنعوننا من إحياء ليلة المولد ، وقد اعتدنا عليها في بلادنا وأفتى بها كثير من علمائنا وشارك فيها معظم عبادنا ، فما ردّكم؟
المخصص هو الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع نصاً واستنباط ، وأما عادة بعض البلاد أو أكثره ، وقول كثير من العلماء أو العباد أو أكثرهم ونحو ذلك ؛ فليس مما يصلح أن يكون معارضاً لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى يعارض به .( ص 271 )
س3: نحن نسمع من مشايخنا أن ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ) ومادام أن ليلة المولد قد أجمع الناس عليها فهي إذاً أمر حسن ، فما ردَّكم؟
ج: من اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليه ، بناء على أن الأمة أقرَّتها ولم تنكره ؛ فهو مخطئ في هذا الاعتقاد ؛ فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة . ولا يجوز دعوى إجماع بلد أو بلدان من بلدان المسلمين فكيف بعمل طوائف منهم ؟ !…
والإحتجاج بمثل هذه الحجج ، والجواب عنها معلوم أنه ليس طريقة أهل العلم ، لكن كثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس . ( ص 271 + 272 )
س4: نعم ! نحن نقرأ أن ليلة المولد بدعة لم تفعل في عهد الصحابة رضي الله عنهم ، لكنها بدعة حسنة ؛ وليست قبيحة ، فحينئذ لا ينهى عنها ؟
ج: هَبْ أن البدع تنقسم إلى حسن وقبيح ! فهذا القدر لا يمنع أن يكون هذا الحديث(كل بدعة ضلالة) دالاً على قبح الجميع ، لكن أكثر ما يقال : إنه أذا أثبت أن هذا حسن يكون مستثنى من العموم ، وإلا فما الأصل أن كل بدعة ضلالة؟ ! ( ص 274 )
س5: هل يمكن أن تعطينا قاعدة منضبطة نقيس عليها هذه الأمر الذي تفتي بأنه بدعة وضلالة ؟
جـ – كل أمر يكون المقتضي لفعلــه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً لوكان مصلحـة ، ولم يفعل : أنه ليس بمصلحة .( ص 279)
س6: لو سلَّمنا يا إمام أن المولد النبوي بدعة، فما الضرر الحاصل من جراء ذلك؟
جـ – الشرائع أغذية القلوب ، فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم بيق فيها فضل للسنن ، فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث.. وفعل هذه البدع تناقض الاعتقادات الواجبة ، وتُنازع الرسلَ ما جاءوا به عن الله ، وأنها تورث نفاق ، ولوكان نفاقاً ضعيف.. فمن تدبر هذا " علم يقيناً ما في حشو البدع من السموم المضعفة للإيمان . ولهذا قيل : إن البدع مشتقة من الكفر ( ص 281 و 289 )
س7: يا أيها الإمام : ولماذا نلام على فعلها وقد فعلها قوم كرام ، وهم في الفضل والمكانة بالمقام الأرفع ؟!
جـ – إذا فعلها قوم ذوو فضل ؛ فقد تركها قوم في زمان هؤلاء معتقدين لكراهته ، وأنكرها قوم كذلك . وهؤلاء التاركون والمنكرون إن لم يكونوا أفضل ممن فعله ، فليسوا دونهم في الفضل . ولو فرضوا دونهم في الفضل ، فتكون حينئذٍ قد تنازع فيها أولو الأمر؛ فترد إذاً إلى الله والرسول . وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها لا مع من رخص فيه ، ثم عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين مع هؤلاء التاركين المنكِرين .( ص 291 )
س8: لكن يا أيها الشيخ المبجل الموصوف بشيخ الإسلام : ألا ترى ما في إحياء هذه الليلة من المصالح والمنافع ، ومنها كثرة الصلاة والسلام على رسول الله، وكثرة الصدقات على الفقراء ، واجتماع كثير من المسلمين ، ولقاء بعضهم ببعض ، وغيرها من المصالح والمنافع ؟
جـ – أما مافيها من المنفعة : فيعارضه ما فيها من مفاسد البدعة الراجحة ، منها – مع ما تقدم – من المفسدة الاعتقادية والحالية -: أن القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن ، حتى تجد كثيراً من العامة يحافظ عليها ما لا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس.( ص291 )
س9: إذاً هل نفهم من خلال كلامكم السابق كلِّه أن الذي يحيي هذه الليلة مأزور غير مأجور؟
جـ – تعظيم المولد واتخاذه موسم ، قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم ؛ لحسن قصده ، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم..والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع ( ص 297 و 294 )
س10: إذاً لماذا تنكرون علينا هذا الإنكار، ولنا في عملنا بعض الأجر يا إمام؟
ج – أكثر هؤلاء الذين تجدونهم حرصاء على أمثال هذه البدع ؛ مع مالهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يُرجى لهم به المثوبة : تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أُمروا بالنشاط فيه ، وإنما هم بمنزلة من يُحلّي المصحف ولا يقرأ فيه ، أو يقرأ فيه ولا يتبعه…
ويَحسن من بعض الناس ما يُستقبح من المؤمن المسدَّد ، ولهذا (( قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء : إنه أنفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك ، فقال : دَعْهُ ؛ فهذا أفضل ما أُنفق فيه الذهب )) أو كما قال، مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة…وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه مفسدة كره لأجله ، فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا وإلا اعتاضوا هذا الفساد الذي لا صلاح فيه .(ص297و296)
س11: هل يمكن أن توضح لنا – رحمك الله – كلامك الأخير: أهو موافقة لنا أم ماذا ؟
جـ – التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر، وجنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثير ، فأما مراتب المعروف والمنكر ومراتب الدليل ؛ بحيث تقدم عن التزاحم أعرف المعروفَين فتدعو إليه ، وتنكر أنكر المنكَرَين ، وترجح أقوى الدليلين ؛ فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين…. وهؤلاء خير ممن لا يعمل عملاً صالحاً مشروعاً ولا غير مشروع ، أو من يكون عمله من جنس المحرم ، كالكفر والكذب والخيانه والجهل.
س12: إذاً هل نحن أفضل أم الذين يعتقدون بدعية المولد النبوي؟
جـ – من تعبّد ببعض هذه العبادات المشتملة على نوع من الكراهة ، كالوصال في الصيام.. أو قصد إحياء ليالٍ لا خصوص له.. ؛ قد يكون حاله خيراً من حال البطّال الذي ليس فيه حرص على عبادة الله وطاعته ، بل كثير من هؤلاء الذين ينكرون هذه الأشياء ، زاهدون في جنس عبادة الله.. لكن لا يمكنهم ذلك في المشروع ، فيصرفون قوّتهم إلى هذه الأشياء ، فهم بأحوالهم منكرون للمشروع وغير المشروع ، وبأقوالهم لا يمكنهم إلا إنكار غير المشروع .
ومع هذا فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر، ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له ظاهراً في الأمر بذلك المعروف ، والنهي عن ذلك المنكر، ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين . ( ص 299 )
س13: لكن نرى من إخواننا الذين ينكرون علينا هذا الأمر نوعاً من الشدة والغلظة في الإنكار ، فما وصيتكم لنا ولهم؟
جـ – هذا قد ابتلى به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة ، فعليك هنا بأدبين : أحدهم : أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطناً وظاهراً في خاصتك وخاصة من يطيعك ، واعرف المعروف وأنكر المنكر
الثاني : أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان ، فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه ، فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ماهو أنكر منه ، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضرّ من فعل ذلك المكروه ، ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير؛ فعوِّض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان . إذ النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء ، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلا إلى مثله أو إلى خير منه . فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون قد أتوا مكروه؛ فالتاركون أيضاً للسنن مذمومون.. وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن.. ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة.. فتفطن لحقيقه الدين ، وانظر ما اشـتملت عليه الأفعـــال من المصـالح الشرعيـــة والمفاسـد ؛ بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر ، حتى تقدم أهمها عند المزاحمة ؛ فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل ( ص 296 – 298 ).
س14: هل معنى ما تقدم من تحذيـركم من المولد ، ألا نمدح الرسـول صلى الله عليه وسلم ولا نتـذكـر سيرته ، ولا نجتمع على ذلك في أي ليلة من ليالي السنة؟
جـ – الاجتماع لصلاة تطوع ، أو استماع قرآن ، أو ذكر الله ونحو ذلك : إذا كان يُفعل ذلك أحياناً فهذا أحسن… فأما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرر الأسابيع والشهور والأعوام ، غير الاجتماعات المشروعة ؛ فإن ذلك يضاهي الاجتماعات للصلوات الخمس وللجمعة والعيدين والحج ، وذلك هو المبتدع المحدث . ففرق بين ما يتخذ سنة وعادة ؛ فإن ذلك يضاهي المشروع..
عن الكوسج أنه قال لأبي عبد الله [الإمام أحمد]: يكره أن يجتمع القوم يدعون الله ، ويرفعون أيديهم ؟ قال : ما أكره للإخوان إذا لم يجتمعوا على عمد ، إلا أن يكثروا)) وإنما معنى أن لا يكثروا : أن لا يتخذوها عادة حتى يكثروا.. فقيَّد أحمد الاجتماع على الدعاء بما إذا لم يُتخذ عادة..
فإذا أحدث اجتماع زائد على هذه الاجتماعات معتاد : كان ذلك مضاهاة لما شرعه الله وسنّه.. وقد ذكرتُ فيما تقدم- : أنه يكره اعتياد عبادة في وقت إذا لم تجىء بها السنة ، فكيف اعتياد مكان معين في وقت معين؟! ( ص 303و 304و 306 و 377 ).
مقدم ومنسق اللقاء :
نشكر للإمام شيخ الإسلام ابن تيمية تفضله بهذ التبيين والتقعيد لهذه المسألة ، والتي لم يدع بعدها شكاً لمرتاب يدّعي سُنِّيَّته ، وإنما يخرج القارىء – بإذن الله – بأن إحياء ليلة المولد النبوي بدعة في الدين وضلالة يجب تركها وإنكارها والإنكار على من فعل.
فجزى الله شيخ الإسلام عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ، ورفع الله منزلته في عليين ، وحشرنا في زمرته غير مغيرين ولا مبدلين ولا مبتدعين في الدين ؛ بل متبعين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد
* ملحوظة مهمة : جميع ما نقلته عن شيخ الإسلام إنما هو موجود بنصه في كتاب الحافل العظيم : ((اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)) ط: الكتب العلمية ووضعت بعد كل نقل رقم الصفحة.
__________________
منقووووووول
وللمزيد من الفائدة سأنقل لكم كلام أحد علمائنا المعاصرين في هذه المسألة
فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد :
فلا يخفى ما ورد في الكتاب والسنة مــن الأمـــر باتباع ما شرعه الله ورسوله، والنهي عن الابتداع في الدين، قال – تعالى – ( قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ))[آل عمران : 31]، وقال – تعالـى – : ((اتَّـبـِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)) [الأعراف : 3]،، وقــال – تعالى – ( وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ))[ الأنعـام : 153]، وقال – صلى الله عليه وسلم – : إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هـدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وقال – صلى الله عليه وسلم – : من أحدث في أمرنا هـــــذا ما ليس منه فهو رد(1)، وفي رواية لمسلم : من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد..
وإن مـــــن جملة ما أحدثه الناس من البدع المنكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي في شهر ربيع الأول ؛ وهم في هذا الاحتفال على أنواع :
فمنهم من يجـعـلـه مجرد اجتماع تقرأ فيه قصة المولد ، أو تقدم فيه خطب وقصائد في هذه المناسبة .
ومنهم من يصنع الطعام والحلوى وغير ذلك ويقدمه لمن حضر.
ومنهم من يقيمه في المساجد ، ومنهم من يقيمه في البيوت .
ومـنـهــم من لا يقتصر على ما ذكر، فيجعل هذا الاجتماع مشتملاً على محرمات ومنكرات من اخـتلاط الرجال بالنساء والرقص والغناء ، أو أعمال شركية كالاستغاثة بالرسول – صلى الله عـلـيــه وسلم – ونـدائـــه والاستنصار به على الأعداء وغير ذلك ، وهو بجميع أنواعه واختلاف أشكاله واختلاف مـقـاصد فاعليه لا شك ولا ريب أنه بدعة محرمة محدثة بعد القرون المفضلة بأزمان طويلة ؛ فأول من أحدثه الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ملك إربل في آخر القرن السادس أو أول الـقـــــرن السابع الهجري ، كما ذكره المؤرخون كابن كثير وابن خلكان وغيرهما .
وقال أبو شامة : وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين ، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره.
قـال الـحـافــظ ابن كثير في البداية (2) في ترجمة أبي سعيد كوكبوري : وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً هائلاً… إلى أن قال : قال السبط : حكى بعض من حضر سـمـــــــاط المظفر في بعض الموالد أنه كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي ، وعـشــرة آلاف دجاجة ، ومائة ألف زبدية ، وثلاثين ألف صحن حلوى… إلى أن قال : ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم ا. هـ.
وقال ابن خلـكـــــان في وفيات الأعيان (3) : فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة ، وقعد في كل قبة جوق من الأغاني ، وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي ، ولم يـتـركــــوا طبقة من تلك الطبقات (طبقات القباب) حتى رتبوا فيها جوقاً.
وتبطل معايش الناس في تلك المدة ، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم… إلى أن قال : فإذا كان قبل يوم المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً كثيراً زائداً عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي ، حتى يأتي بها إلى الميدان… إلى أن قال : فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة. ا. هـ.
فهــذا مبدأ حدوث الاحتفال بمناسبة ذكرى المولد ، حدث متأخراً ومقترناً باللهو والسرف وإضاعة الأموال والأوقات ، وراء بدعة ما أنزل الله بها من سلطان .
والـــذي يليق بالمسلم إنما هو إحياء السنن وإماتة البدع ، وأن لا يقدم على عمل حتى يعلم حكم الله فيه .
هذا ؛ وقد يتعلق من يرى إحياء هذه البدعة بشبه أوهى من بيت العنكبوت ، ويمكن حصر هذه الشبه فيما يلي :
1– دعواهم أن في ذلك تعظيماً للنبي – صلى الله عليه وسلم – .
والجواب عن ذ لك أن نقول : إنما تعظيمه – صلى الله عليه وسلم – بطاعته وامتثال أمره واجـتـنــاب نهـيـــــه ومحبته – صلى الله عليه وسلم -، وليس تعظيمه بالبدع والخرافات والمعاصي ، والاحتفال بذكـــــــرى المولد من هذا القبيل المذموم ، لأنه معصية . وأشد الناس تعظيماً للنبي – صلى الله عليه وسلم – هم الصحابة – رضي الله عنهم -، كما قال عروة بن مسعود لقريش : يا قوم! والله لـقــــــد وفدت على كسرى وقيصر والملوك ، فما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محـمــد محمداً – صلى الله عليه وسلم -، والله ما يمدون النظر إليه تعظيماً له ، ومع هذا التعظيم مـا جعلوا يوم مولده عيداً واحتفالاً ، ولو كان ذلك مشروعاً ما تركوه .
2- الاحتجاج بأن هذا عمل كثير من الناس في كثير من البلدان.
والجــواب عن ذلك أن نقول : الحجة بما ثبت عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – . والثابت عــن الـرسـول – صلى الله عليه وسلم – النهي عن البدع عموماً ، وهذا منها . وعمل الناس إذا خالف الدلـيـــل فـلـيــس بحجة ، وإن كثروا ( وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ))[الأنعام : 116]، مع أنه لا يزال – بحمد الله – في كل عصر من ينكر هذه البدعة ويبين بطلانها ، فـلا حجة بعمل من استمر على إحيائها بعد ما تبين له الحق . فممن أنكر الاحتفال بـهـــــذه المناسبة شيخ الإسلام ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم "، والإمام الشاطبي في "الاعتصام"، وابن الحاج في "المدخل"، والشيخ تاج الدين علي بن عمر اللخمي ألف في إنكاره كتاباً مستقلاً، والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه "صيانة الإنسان"، والسيد محـمـــــد رشيد رضا ألف فيه رسالة مستقلة، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ألف فيه رسالة مستقـلـة، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وغير هؤلاء ممن لا يزالون يكتبون في إنكار هذه البدعــــة كــل سـنــة في صفحات الجرائد والمجلات ، في الوقت الذي تقام فيه هذه البدعة .
3- يقولون : إن في إقامة المولد إحياء لذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – .
والجواب عن ذلك أن نقول : إحياء ذكر النبي – صلى الله عليه وسلـم – يكــون بما شرعه الله من ذكره في الأذان والإقامة والخطب والصلوات وفي التشهد والصلاة عليه وقراءة سنته واتباع ما جاء به ، وهذا شيء مستمر يتكرر في اليوم والليلة دائماً ، لا في السنة مرة.
4- قد يقولون : الاحتفال بذكرى المولد النبوي أحدثه ملك عادل عالم ، قصد به التقرب إلى الله !
والجواب عن ذلك أن نقول : البدعة لا تقبل من أي أحد كان ، وحسن القصد لا يسوغ العمل السيء ، وكونه عالماً وعادلاً لا يقتضي عصمته .
5- قولهم : إن إقامة المولد من قبيل البدعة الحسنة ؛ لأنه ينبئ عن الشكر لله على وجود النبي الكريم !
ويجاب عن ذلك بأن يقال : ليس في البدع شيء حسن ، فقد قال – صلى الله عليه وسلم -: مــن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ، ويقال أيضاً : لماذا تأخر القيام بهذا الشكر – على زعمكم – إلى آخر القرن السادس، فلم يقم به أفضل القرون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ، وهم أشد محبة للنبي – صلى الله عليه وسلم – وأحرص على فعل الخير والقيام بالشكر ، فهل كان من أحدث بدعة المولد أهدى منهم وأعظم شكراً لله – عز وجل- ؟ حاشا وكلا.
6- قد يقولون : إن الاحتفال بذكرى مولده – صلى الله عليه وسلم – ينبئ عن محبته – صلى الله عليه وسلم – فهو مظهر من مظاهرها وإظهار محبته – صلى الله عليه وسلم – مشروع
والجواب أن نقول : لا شك أن محبته – صلى الله عليه وسلم – واجبة على كل مسلم أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين – بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه -، ولكن ليس معنى ذلك أن نبتدع في ذلك شيئاً لم يشرعه لنا ، بل محبته تقتضي طاعته واتباعه ، فإن ذلك من أعظم مظاهر محبته ، كما قيل :
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فمحبته – صلى الله عليه وسلم – تقتضي إحياء سنته والعض عليها بالنواجذ ومجانبة ما خالفها من الأقوال والأفعال ، ولا شك أن كل ما خالف سنته فهو بدعة مذمومة ومعصية ظاهرة ، ومن ذلك الاحتفال بذكرى مولده وغيره من البدع . وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين ؛ فإن الدين مبني على أصلين : الإخلاص، والمتابعة، قال – تعالى – ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [البقرة : 112]، فإسلام الوجه هو الإخلاص لله ، والإحسان هو المتابعة للرسول وإصابة السنة .
وخلاصة القول : أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي بأنواعه واختلاف أشكاله بدعة منكرة يجب على المسلمين منعها ومنع غيرها من البدع ، والاشتغال بإحياء السنن والتمسك بها ، ولا يغتر بمن يروج هذه البدعة ويدافع عنها ، فإن هذا الصنف يكون اهتمامهم بإحياء البدع أكثر من اهتمامهم بإحياء السنن ، بل ربما لا يهتمون بالسنن أصلاً ، ومن كان هذا شأنه فلا يجوز تقليده والاقتداء به ، وإن كان هذا الصنف هم أكثر الناس ، وإنما يقتدي بمن سار على نهج السنة من السلف الصالح وأتباعهم وإن كانوا قليلاً ، فالحق لا يعرف بالرجال ، وإنما يعرف الرجال بالحق.
قال – صلى الله عليه وسلم – : فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة(4)، فبين لنا – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث الشريف بمن نقتدي عند الاختلاف ، كما بين أن كل ما خالف السنة من الأقوال والأفعال فهو بدعة وكل بدعة ضلالة.
وإذا عرضنا الاحتفال بالمولد النبوي لم نجد له أصلاً في سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولا في سنة خلفائه الراشدين ، إذاً فهو من محدثات الأمور ومن البدع المضلة ، وهذا الأصل الذي تضمنه هذا الحديث قد دل عليه قوله تعالى: ((فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً))[النساء:59].
والرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه الكريم، والـــرد إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – هو الرجوع إلى سنته بعد وفاته ، فالكتاب والسنة هـمــــا المرجع عند التنازع ، فأين في الكتاب والسنة ما يدل على مشروعية الاحتفال بالمولد الـنـبــوي ؟ فالواجب على من يفعل ذلك أو يستحسنه أن يتوب إلى الله – تعالى – منه ومن غيره من البدع ؛ فهذا هو شأن المؤمن الذي ينشد الحق ، وأما من عاند وكابر بعد قيام الحجة فإنما حسابه عند ربه.
هذا ؛ ونسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يرزقنا التمسك بكتابه وسنة رسوله إلى يوم نلقاه ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
=======
الهوامش :
(1) رواه البخاري، ح/2697، ومسلم، ح /1718.
(2) البداية والنهاية، (13 /137)..
(3) وفيات الأعيان، (3/ 274).
(4) أحمد، ح /16692، والترمذي، ح /2676