بقلم الشيخ / محمد ناصر الدين الألباني
المصدر: مجلة التمدن الإسلامي (20 / 501 – 502) – (20 / 607 – 631 ، و 678 – 688 ، و 783 – 789).
قرأت في باب " الفتاوى " من مجلتكم الزاهرة (ص 354 مجلد 20) ما نصه : سئلنا عن السفر الذي يبيح الفطر في رمضان ؟!
وخلاصة الجواب : إن جمهور العلماء حددوه بالسفر الذي تقصر فيه الصلاة قياساً عليه ، وهو الذي تكون مسافته مدة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام -أي سير عشرين ساعة تقريباً- وتقدر هذه المسافة بواحد وثمانين كيلو متراً تقريباً . . . .
وعلى المسافر أن يبيت الصوم ليلة سفره ، وله أن يفطر منذ الفجر إذا أنشأ سفره قبله ، خلافاً لما يفعله كثير من المسافرين جهلاً منهم .
أقول : لا يهمني الآن البحث في السفر الذي يقصر فيه الصلاة ويحل فيه الإفطار ، وهل يحد بمسيرة أيام أو كيلو مترات ، أم هو مطلق في كل سفر طويل أو قصير لا يقيد بشيء من القيود المذكورة مادام يطلق عليه اسم السفر شرعاً ولغة ، كما هو مذهب كثير من العلماء المحققين ، لا أريد الآن البحث فيه ، فإن له مناسبة أخرى -إن شاء الله تعالى – ، وإنما توجهت النية إلى الكلام على ما جاء في آخر هذه الفتوى من قوله : " وله أن يفطر منذ الفجر إذا أنشأ . . . " .
فأقول :
لقد عظم علي هذا القول جداً ، لأمرين أحدهما أهم من الآخر:
الأول : أن السنة الصحيحة تجيز صراحة ما نسبه صاحب الإفتاء إلى فعل الجهال ، وفيه أحاديث كثيرة أجتزيء الآن بواحد منها لقوة سنده ووضوح دلالته ، ألا وهو حديث أنس -رضي الله عنه- .
قال محمد بن كعب -رضي الله عنه : " أتيت أنس بن مالك في رمضان ، وهو يريد السفر ، وقد رحلت دابته ، ولبس ثياب السفر ، وقد تقارب غروب الشمس ، فدعا بطعام ، فأكل منه ، ثم ركب ، فقلت له : سنة ؟ فقال : نعم ".
أخرجه الترمذي وحسنه ، والبيهقي والسياق له ، وإسنادهما صحيح على شرط الشيخين (2) ، وترجم البيهقي بـ " باب من قال : يفطر وإن خرج بعد طلوع الفجر " .
والحدث صريح في هذا ، بل هو يدل على أكثر من ذلك ، وهو جواز الإفطار قبل الخروج بعد التأهب ، ولذلك قال ابن العربي المالكي : " وأما حديث أنس فصحيح يقتضي جواز الفطر مع أهبة السفر ، حتى ذكر أن قوله : " من السنة " لابد من أن يرجع إلى التوقيف ، والخلاف فى ذلك معروف فى الأصول " .
قال الشوكاني في " نيل الأوطار " : " والحق أن قول الصحابي " من السنة " ينصرف إلى سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد صرح هذا الصحابي بأن الإفطار للمسافر قبل مجاوزة البيوت من السنة ".
الأمر الآخر : إنه قد قال بجواز ذلك جماعة من السلف والأئمة ، فمنهم الإمام أحمد كما في " مسائل أبي داود عنه " (ص 95) ، ومنهم الشعبي والحسن البصري كما في ( البداية ) لابن رشد (1 / 204) ، ومنهم عمرو بن شرحبيل -وهو تابعي مخضرم- رواه البيهقي بسند صحيح عنه ، ومذهب الحنابلة على هذا كما في كتب المذهب ، مثل " كشاف القناع " وغيره ، واستظهره الإمام الصنعاني .
فلعل كاتب الفتوى لم يستحضر حين الكتابة هذا الذي أوردناه من السنة ، وأقوال الأئمة ، ولذلك رأيت أنه لابد من أن أنبه إليه وأذكر به ، ( فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) ، والله سبحانه ولي المتقين . والحمد لله رب العالمين .
خادم السنة
محمد ناصر الدين الألباني
دمشق
21 / رمضان / سنة 73 هـ
تعقيب المجلة:
سبق أن علق الأستاذ الشيخ ناصر الدين الألباني بكلمة على فتوى في هذه المجلة حول هذا الموضوع فبين أن من السنة أن يفطر الصائم في بيته قبل مبارحته ، و قد وردتنا من الأستاذ الشيخ عبد الله بن محمد الهرري – بواسطة الأستاذ الشيخ حمدي الجويجاني – كلمة ذكر فيها أن بعض القراء(3) عرض عليه تلك الكلمة فرآها مستندة إلى حديث ضعيف ، و أطلعنا الأستاذ الألباني على كلمة الأستاذ الهرري ، فأيد ما ذهب إليه من قبل بكلمة جديدة ، فننشر الكلمتين فيما يلي:
قال الأستاذ الهرري : (( في جامع الترمذي : باب فيمن أكل ثم خرج سفراً : حدثنا قتيبة حدثنا عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر عن محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان و هو يريد سفراً و قد رحلت راحلته و لبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل ، فقلت : سنّة ، قال : سنّة ، ثم ركب .
حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر حدثني زيد بن أسلم حدثني محمد بن المنكدر عن محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان فذكر نحوه .
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن و محمد بن جعفر هو ابن أبي كثير مدني ثقة و هو أخو إسماعيل بن جعفر .
و عبد الله بن جعفر هو ابن أبي نجيح والد علي بن المديني و كان يحيى بن معين يضعفه ، و قد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث و قال : للمسافر أن يفطر في بيته قبل أن يخرج و ليس له أن يقصر حتى يخرج من جدار المدينة أو القرية و هو قول إسحق .
فهذا التحسين من الترمذي مردود فقد ضعف هذا الحديث حافظان أحدهما من المتقدمين و الآخر من المتأخرين :
الأول هو الحافظ الناقد أبو حاتم الرازي ، قال ابنه الحافظ عبد الرحمن في (( العلل )) ( ص 240 ) ما نصه : (( سألت أبي عن حديث رواه عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن زيد بن أسلم عن محمد بن كعب أنه أتى أنس بن مالك في رمضان و هو يريد سفراً فوجده قد رحلت راحلته و لبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل فقلنا : سنّة ، قال : ليس بسنّة .
و رواه محمد بن عبد الرحمن بن مجبر عن ابن المنكدر عن محمد بن كعب أنه أتى أنس بن مالك فذكر الحديث ، قال : فقلت : سنّة ، قال : سنّة ، قال أبي حديث الدراوردي أصح )) أهـ .
فهذا هو كما هو ظاهر صريح في أن رواية الترمذي مرجوحة و أن الراجح رواية النفي .
و الثاني فهو الحافظ العراقي زين الدين عبد الرحيم شيخ الحافظ ابن حجر قال في شرحه على الترمذي ( يوجد في المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة نسخة خطية برقم 168 ) .
(( حديث أنس هذا انفرد بإخراجه الترمذي و حسنه لمتابعة محمد بن جعفر لعبد الله بن جعفر و إلا فعبد الله ضعيف كما حكى المصنف تضعيفه عن ابن معين فإنه قال فيه : ليس بشيء ، و قال فيه أبو حاتم الرازي : منكر الحديث جداً ، و قال في النسائي : متروك الحديث ، و قال الفلاّس : ضعيف الحديث ، و قال فيه الدارقطني : كثير المناكير ، و قال أبو حاتم : كان يهم في الأخبار فيأتي بـها مقلوبة و يخطئ في الآثار حتى كأنـها مقلوبة ، و قال ابن عدي : عامة أحاديثه لا يتابعه عليه أحد و هو مع ضعفه ممن يكتب حديثه ، قال صاحب الميزان : و هو متفق على ضعفه . أهـ .
قال : و إن الترمذي إنما حسن الحديث لكون عبد الله بن جعفر لم ينفرد به بل تابعه عليه محمد بن جعفر بن أبي كثير المدني و هو ثقة كما قال الترمذي .
إذا تقرر هذا فهنا أمر يجب التنبيه عليه فمحل الحجة من الحديث كون أنس قال فيه إنه سنة و حكم الصحابي على ( أمر )(4) بأنه سنة يكون حكمه حكم الحديث المرفوع على ما هو مقرر في علوم الحديث و الأصول و هذه اللفظة إنما رواها على الجزم عبد الله بن جعفر و هو متفق على ضعفه كما تقدم .
و أما طريق محمد بن جعفر فلم يسق الترمذي لفظها و إنما قال فذكر نحوه ، و هذا لا يقتضي أنه بلفظه كما هو مقرر في علوم الحديث ، ثم فتشنا عن لفظ رواية محمد بن جعفر بن أبي كثير فوجدناه لم يجزم بـهذه اللفظة كما جزم بـها عبد الله بن جعفر ، رواه كذلك إسماعيل بن إسحق القاضي في كتاب (( الصيام )) .
قال : حدثنا عيسى بن مينا قال : حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير عن زيد بن أسلم عن ابن المنكدر عن محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان و هو يريد سفراً فأكل فقلت : سنّة ؟ ، فلا أحسبه إلا قال : نعم .
فهذا لفظ رواية محمد بن جعفر و قد شك بعض رواته في هذه اللفظة و هو عمدة الاحتجاج و لكن قد رواها الدارقطني في سننه عن أبي بكر النيسابوري عن إسماعيل بن إسحق بن سهل عن ابن أبي مريم عن محمد بن جعفر فذكره ، و لم يشك في هذه اللفظة بل قال : فقلت : سنّة ، قال : نعم .
قال ابن العربي : حديث أنس صحيح لم يقل به إلا أحمد بن حنبل .
قلت : اختلف فيه على سعيد بن أبي مريم فقال إسماعيل بن إسحق عنه ما تقدم و خالف يحيى بن أيوب العلاف فجعل القصة في الإفطار يوم الشك لا إرادة السفر .
كذلك رواه الطبراني في المعجم الأوسط قال : حدثنا يحيى بن أيوب العلاف قال : حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير عن زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر عن محمد بن كعب قال : دخلت على أنس بن مالك عند العصر يوم يشكون و أنا أريد أن أسلم عليه فدعا بطعام فأكل فقلت : هذا الذي صنعت سنّة ؟ قال : نعم .
و قد تابع سعيد بن أبي مريم على روايته على هذا الوجه خالد بن نزار ، رواه الطبراني أيضاً في الأوسط ، قال : حدثنا المقدام هو ابن داود نا خالد بن نزار حدثنا محمد بن جعفر فالحديث إذاً اضطرب ليس بصحيح .
ثم فتشنا هل نجد أحداً تابع عبد الله بن جعفر و محمد بن جعفر على رواية هذا الحديث عن زيد بن أسلم ليقوى به أحد الروايتين ، فوجدنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي و هو أحد رجال الصحيح قد رواه عن زيد بن أسلم عكس رواية عبد الله بن جعفر رواه كذلك أيضاً إسماعيل القاضي قال : نا علي بن المديني و إبراهيم بن حمزة عن الدراوردي عن زيد بن أسلم بإسناده و قال فيه فقلت له : سنة ؟ فقال : لا ، ثم ركب . و هذه الطريق أقوى من طريق عبد الله بن جعفر فوجدنا الطريقين صحيحين أحدهما فيه الشك في اللفظة و الأخرى عكسها و في الطبراني حمل الحديث على معنى غير الفطر للسفر فتبين ضعف رواية إثبات كونـها سنة ، و الله أعلم .
و هذه المسألة قد اختلف العلماء فيها على أقوال :
أحدها : و هو قول أكثر أهل العلم أن من أصبح صائماً ثم سافر فليس له أن يفطر ذلك اليوم البتة لا قبل الشروع في السفر و لا بعده و هو قول إبراهيم النخعي و الزهري و يحيى بن سعيد الأنصاري و الأوزاعي و أبي حنيفة و أصحابه و مالك و الشافعي و أبي ثور .
و الثاني : أنه له الفطر إذا خرج و برز عن البيوت و هو قول أحمد بن حنبل ، و روى عن عبد الله بن عمر و الشعبي و احتج بعضهم على جواز الفطر بالحديث الصحيح في خروجه صلى الله عليه و سلم في رمضان إلى مكة و أنه صام حتى بلغ الكديد ثم أفطر . و في رواية حتى بلغ كراع الغميم .
فتوهم من استدل بـهذا أن الكديد و الكراع بقرب المدينة و أن النبي صلى الله عليه و سلم أصبح بالمدينة صائماً ثم بلغهما في بقية يومه فأفطر فالاستدلال بـهذا الحديث على ذلك باطل .
و الثالث : إن له الفطر إذا وضع رجله في الرحل و به قال داود و حكاه ابن عبد البر عن إسحق و هو مخالف لما حكاه الترمذي عنه من أن له الفطر في بيته قبل أن يخرج إلا أن يحمل على أنه وضع رجله في الرحل و هو في بيته ثم أكل قبل أن يخرج و حديث أنس مخالف له في أنه دعا بطعامه فأكل ثم ركب و الله أعلم
و الرابع : أن له الفطر في بيته يوم يريد أن يخرج و هو قول أنس و الحسن البصري فيما روى عنه و قد حكاه المصنف عن ابن راهويه كما تقدم .
قال ابن عبد البر : (( و اتفقوا في الذي يريد السفر في رمضان أنه لا يجوز له أن يبيت الفطر لأن المسافر لا يكون مسافراً بالنية إنما يكون مسافراً بالنهوض في سفره )) . انتهى كلام العراقي .
و أخرج البخاري عن ابن عباس : خرج النبي صلى الله عليه و سلم في رمضان من المدينة و معه عشرة آلاف من المسلمين يصوم و يصومون حتى بلغ الكديد ، فأفطر و أفطروا .
قال الحافظ ابن حجر : لو نوى الصوم و هو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل له أن يفطر في ذلك النهار ؟ ، منعه الجمهور ، قال أحمد و إسحق بالجواز و اختاره المزني محتجاً بـهذا الحديث فقيل له ، قال كذلك ظناً منه أنه صلى الله عليه و سلم أفطر في اليوم الذي خرج فيه من المدينة . أهـ
و ليس كذلك فإن بين المدينة و الكديد عدة أيام ، و كذلك لا حجة للمخالف في حديث أبي بصرة الغفاري الذي رواه أحمد و أبو داود من طريق عبيد بن جبير قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة بالفسطاط في رمضان فدفع ثم قرب غداءه ثم قال : اقترب فقلت ألست ترى البيوت ؟ ، فقال : أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأكل . لأمرين :
الأول : أنه لا يكفي على المعتمد في صحة الحديث سكوت أبي داود على ما يرويه في سننه بل لابد من النظر فيه و ذلك من وظيفة الحافظ لما تقرر في علوم الحديث من اشتراط الحفظ في إدراك الصحيح و السقيم من الحديث كما صرح به الحاكم في معرفة علوم الحديث ، و أما دعوى هذا المخالف لأهلية ذلك لنفسه فليست إلا دعوى فارغة .
الثاني : لو صح لم يكن فيه حجة لأنه ليس فيه أنه خرج بعد الصبح فركب ثم أكل ، فيحتمل أنه خرج من بيته قبل الفجر و ركب السفينة فجاز له الأكل كما هو مذهب الجمهور أن من خرج قبل الفجر جاز له الأكل في نفس ذلك النهار بخلاف من خرج بعد الفجر فإنه ليس له أن يفطر في ذلك النهار إلا فيما بعده ، و يقرب ما وجهنا به حديثه هذا قول الراوي ثم قرب غداءه و الغداء في اللغة ما يؤكل أول النهار بخلاف ما تعورف اليوم في اللغة العامية من إطلاق الغداء على ما يؤكل وسط النهار قبيل الظهر أو بعده ، فإن هذا عرف حادث ففي (( القاموس )) : الغداء طعام الغدوة و تغدى أكل أول النهار ، و فيه : الغدوة : البكرة أو ما بين صلاة الفجر و طلوع الشمس . و الله أعلم )) .
رد الشيخ الألباني:
يقول محمد ناصر الدين : مستعيناً بالله وحده رب العالمين :
ينحصر كلام الشيخ في أربعة أمور :
الأول : تضعيف حديث أنس .
الثاني : فقه الحديث و من قال به .
الثالث : تضعيف حديث أبي بصرة الغفاري .
الرابع : عدم دلالته عنده على ما دل عليه حديث أنس .
و سأتكلم فيما يأتي على هذه الأمور واحدة بعد أخرى على الترتيب المذكور، سائلاً المولى سبحانه و تعالى أن يلهمني الصواب في ذلك كله ، و أن يوفق المخلصين إلى تقبله ، و العمل بما فيه من الفقه ، إنه سميع مجيب .
1- تأكيد صحة حديث أنس
أما حديث أنس ، فقد تأملت كلام الشيخ عليه ، فلم أجد فيه إلا ما زادني بصيرة في صحته ، و يقيناً بضعف كلامه ، و وهاء ما تشبث به في تضعيفه ، فإنه لم يأت على ما يدل عليه بما يصلح أن يعتبر شبهة في صحته ، فضلاً عن أن يكون حجة على ضعفه ، إذا ما عرض ذلك على قواعد علم الحديث و أصوله ، و شهادات العلماء بثبوته ، و إليك التفصيل :
لقد تجرأ الشيخ – على خلاف ما علمناه منه في بعض رسائله – فجزم بخطأ الترمذي في تحسينه للحديث ، و لم يبال البتة بتصحيح الإمام ابن العربي إياه و غيره ممن سنذكره ، و تشبث في ذلك بأمور يمكن أن نلخصها في أربعة :
الأول : ترجيح أبي حاتم لرواية الدراوردي بلفظ : (( ليس بسنة )) ، على الرواية الأخرى : (( قال : نعم سنّة )) ، و سنعبر عنها بـ (( رواية الإثبات )) .
الثاني : تضعيف الحافظ العراقي للرواية الأخرى .
الثالث : عدم جزم بعض الرواة بـها .
الرابع : الاختلاف في متنه على سعيد بن أبي مريم ، فذكر بعضهم عنه : أن الفطر إنما كان من أجل السفر ، و بعضهم أنه كان من أجل يوم الشك .
الجواب عن الأمر الأول :
إذا تبين ذلك فنقول في الإجابة عن الأمر الأول :
أولاً : إن فهم قول أبي حاتم : (( إن حديث الدراوردي أصح من حديث ابن مجبر )) على أنه يدل أن رواية الترمذي مرجوحة ضعيفة ، و أن الراجح رواية النفي يدل – مع الأسف – على الجهل البالغ بأساليب المحدثين في الترجيح ، و سوء فهم لمقاصدهم من ذلك ، إذ أن ترجيح أبي حاتم إنما هو محصور بين روايتين ليس منهما رواية الترمذي ! ثم هو ترجيح صحيح ، لأن الدراوردي ثقة على ضعف يسير في حفظه كما يأتي ، بخلاف المخالف له : ابن مجبر فإنه ضعيف اتفاقاً ، و قد قال فيه أبو حاتم نفسه : (( ليس بالقوي )) و قال صاحبه أبو زرعه : (( واهي الحديث ))(5) و لكن أي عالم بل أي عاقل عنده قليل من الفهم بالأسلوب العربي يفهم من ذلك ترجيح رواية الدراوردي هذه على رواية الترمذي و هي لم يرد لها ذكر في كلام أبي حاتم لا تصريحاً و لا تلويحاً ، بل لعله لم يقف عليها أصلاً ، ثم هي أقوى و أرجح من رواية الدراوردي كما سأبينه في الوجه الآتي بعد هذا ، فسقط بذلك قول الشيخ عقب كلام أبي حاتم : (( هو صريح في أن رواية الترمذي مرجوحة ، و أن الراجح رواية النفي )) ! .
ثانياً : إن قول الدراوردي في روايته (( ليس بسنّة )) ، منكر أو على الأقل شاذ لسببين :
1- مخالفته لمن هو أوثق منه ، ألا و هو محمد بن جعفر بن أبي كثير و هو ثقة كما قال الترمذي و نقله عنه الشيخ نفسه ، و لا خلاف فيه عند الأئمة النقاد ، بل احتج به الشيخان و جميع أصحاب السنن و غيرهم ، فروايته هي الراجحة عند التعارض على رواية الدراوردي لأنه مختلف فيه ، و قد وصفه أبو زرعة و غيره بأنه (( سيئ الحفظ )) فلا جرم أن البخاري لم يحتج به بينما احتجا جميعاً بمخالفه ، فثبت أن روايته هي أحق بالترجيح من رواية الدراوردي ، و لا يشك في هذا منصف شم رائحة مصطلح الحديث .
2- أن رواية الدراوردي لا متابع لها و لا شاهد خلافاً لرواية محمد بن جعفر ، فإن لها متابعاً و شاهداً:
أما المتابع فهو عبد الله بن جعفر عند الترمذي ، و هو و إن كان ضعيفاً فإنه يكتب حديثه كما قال ابن عدي ، فهو لا بأس به في المتابعات و الشواهد .
و أما الشاهد ، فهو حديث ابن المجبر الذي نقله الشيخ عن ابن أبي حاتم ، و لا يضر ضعفه لأنه في الشواهد كما لا يخفى ، و لا أظن أن الشيخ يخالف في ذلك لأنه ذكر نحو هذا في رسالته (( التعقب الحثيث )) ( ص 5 ) .
فسقط بـهذا التحقيق تعلق الشيخ بكلام أبي حاتم ، و تبين أن الصواب رواية الإثبات ، و أن رواية الدراوردي في النفي خطأ لا يعول عليه .
الجواب عن الأمر الثاني :
و أما الأمر الثاني و هو تضعيف العراقي لرواية الإثبات ، فالجواب من وجهين:
أولاً : معارضته بتصحيح من صحح الحديث و هم جماعة ، فقولهم أرجح عند التعارض من قول من خالفهم و هو فرد ، فمن صححه : الترمذي ، و ابن العربي ، و الضياء المقدسي – كما سيأتي – و ابن القيم في (( زاد المعاد )) ، و أبو المحاسن المقدسي في (( مختصر أحاديث الأحكام )) ( ق 61/ 1 ) و يمكن أن يضم إليهم الإمام أحمد و إسحق بن راهويه فإنـهما أخذا بالحديث و عملا به باعتراف العراقي نفسه و ذلك دليل – إن شاء الله تعالى – على أن الحديث ثابت عندهما و هو المطلوب .
ثانياً : أن قواعد علم الحديث تدل على خطأ التضعيف المذكور ، و أرجو ألا يستغل الأستاذ الشيخ أو أحد من المتعصبين له أو من غيرهم فيبادروا إلى الإنكار علينا بسبب هذا التصريح ، لأن الحق فوق الأشخاص ، و التحقيق العلمي لا يعرف النفاق!
على أن الشيخ قد سبقني إلى مثل هذه التخطئة فهو قد جزم بتخطئة الترمذي كما رأيت ، فكذلك أجزم بتخطئة العراقي و الشيخ معاً ، مع فارق جوهري بيني و بينه ، فإنه يخطئ الترمذي تقليداً للعراقي ، و هذا ترجيح بدون مرجح كما لا يخفى ، و لو عكس أحد عليه الأمر فقلد الترمذي و خطأ العراقي لم يجد سبيلاً إلى تخطئته إلا مجرد الدعوى ! أو اتباع الهوى ! و أما نحن فإنما نخطئ اتباعاً للقواعد العلمية التي وضعها العلماء ميزاناً لمعرفة الخطأ من الصواب ، و شتان بين هذا و ذاك!
أخطاء العراقي حول الحديث :
إن الباحث المدقق في كلام الحافظ العراقي الذي نقله الشيخ ليجد فيه كثيراً من الأخطاء التي لابد من الكشف عنها دفاعاً عن الحديث لا الأشخاص!
الأولى : إنه يقر الترمذي على تحسين الحديث لمتابعة محمد بن جعفر ، ثم يقول في رواية الإثبات : (( إنما رواها على الجزم عبد الله بن جعفر و هو متفق على ضعفه )) ، مع أنه ذكر بعد ذلك بقليل أن الدارقطني رواها على الجزم من طريق محمد بن جعفر الثقة ، فكيف يصح إذن قوله المذكور المتضمن خصر هذه الرواية بعد الله الضعيف ؟! و كذلك قوله في رواية محمد هذا : (( لم يجزم بـهذه اللفظة كما جزم بـها عبد الله بن جعفر )) ! لا شك في أن هذا القول و ذاك خطأ مخالف للواقع .
ثانياً : قوله أن رواية محمد بن جعفر على الشك ، مع أن هذه الرواية عنه لا تثبت ، و لو ثبتت لم تخالف الرواية الثابتة عنه كما سيأتي بيانه في الجواب المشار إليه .
ثالثاً : إعلاله الحديث بالاختلاف على سعيد بن أبي مريم برواية العلاف عنه مع أنـها رواية شاذة مخالفة لرواية الثقات عن سعيد كما سيأتي تحقيقه في الجواب عن الأمر الثالث .
رابعاً : ذكر رواية الدراوردي ثم قال : (( إنـها أقوى من طريق عبد الله بن جعفر )) و هذا صحيح ، و لكنه يوهم أن عبد الله لم يتابع على روايته ، مع أنه قد ذكر هو أن محمد بن جعفر قد تابعه على لفظه عند الدارقطني كما سبق ! فرواية محمد و عبد الله أصح من رواية الدراوردي كما سبق بيانه .
هذه الأخطاء هي دعائم قول الحافظ العراقي بـ (( ضعف رواية إثبات كونـها سنة )) ، فإذ قد انـهارت هذه الدعائم ، فقد انـهار قوله القائم عليها ، و سقط بالتالي تشبث الشيخ به و رجع منه بخفي حنين !
و في الجوابين التاليين زيادة بيان لما أجملناه هنا .
الجواب عن الأمر الثالث :
و أما الجواب عن الأمر الثالث ، و هو عدم جزم بعض الرواة برواية الإثبات فهو أنه لا يجوز التمسك بـها في إعلال الروايات الأخرى الجازمة بالإثبات بل إن هذه تعل رواية ذلك البعض ، و ذلك لوجوه :
الأول : أن من لم يجزم معناه أنه لا علم عنده بالأمر و أنه لم يحفظه ، بخلاف الذي جزم فإنه يدل على أنه قد علمه و حفظه ، فكيف يصح ترجيح رواية من لم يحفظ على رواية من حفظ ؟! و هل هذا إلا خلاف ما هو مسلم به عند جميع العلماء : أن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، و من علم حجة على من لم يعلم ، و خلاف للقاعدة المقررة عندهم و هي التي تقول : (( المثبت مقدم على النافي )) ، فكيف و هذا الذي لم يجزم ينف ، بل إنه أثبت ، و لكن بدون جزم ، فهذه الرواية في الحقيقة مؤيدة لرواية الإثبات و مقوية لها ، فكيف يصح أن تجعل معلة لها ؟!
ثانياً : أن رواية من لم يجزم بالإثبات لا تصح أصلاً ، فلا يجوز أن يحتج بـها فضلاً عن أن يعارض بـها ما رواه الثقات الأثبات عن محمد بن جعفر من الجزم بالإثبات ، ذلك لأن هذه الرواية تفرد بـها عن محمد هذا عيسى بن مينا و هو ضعيف ، قال الذهبي في (( المغني )) : (( حجة في القراءات ، لا في الحديث ، سئل عنه أحمد بن صالح ؟ فضحك و قال : يكتبون عن كل أحد ))(6).
ثالثاً : أن عيسى هذا قد ورد الحديث عنه بالإثبات كما رواه الثقات ، أخرجه عنه الضياء المقدسي في (( الأحاديث المختارة )) ( ق 124/ 2 ) من طريق إبراهيم بن الحسين ثنا عيسى بن مينا به بلفظ : (( فقلت له سنّة ؟ قال : نعم )) ، فجزم بالإثبات و لم يشك ، و قال المقدسي عقبها : (( رواه الترمذي عن محمد بن إسماعيل عن سعيد بن أبي مريم عن محمد بن جعفر و قال : حديث حسن )) ، و أقره .
و ابن الحسين هذا هو ابن ديزل و هو ثقة مأمون كما قال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي(7) .
فهذا دليل واضح على أن رواية عيسى مثل رواية غيره في الجزم بالإثبات ، و الظاهر أن إسماعيل القاضي نفسه هو الذي لم يضبط الرواية عن عيسى جيداً ، و إن كان أشار في الوقت ذاته إلى أنـها هي الراجحة عنده بقوله : (( .. أحسبه )) و ذلك من دقته في الرواية ، رحمه الله تعالى .
رابعاً : أنه قد خالف في ذلك جماعة من الثقات كلهم جزموا في روايتهم عن محمد بن جعفر أن أنساً قال : (( نعم )) بدون أي شك ، و هؤلاء الثقات هم :
الأول : عثمان بن سعيد الدارمي و هو ثقة ثبت حافظ إمام(8) ، و لفظ حديثه … عن محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان و هو يريد السفر ، و قد رحلت دابته و لبس ثياب السفر ، و قد تقارب غروب الشمس ، فدعا بطعام فأكل منه ، ثم ركب ، فقلت له سنة ؟ قال : نعم .
أخرجه البيهقي في سننه الكبرى ( 4/ 247 ) .
الثاني : إسماعيل بن إسحق بن سهل ، و هو صدوق كما قال ابن أبي حاتم ( 1/1/158 ) ، و لفظه مثل لفظ حديث الدارمي تماماً .
أخرجه الدارقطني ( ص 241 ) ، و قد عزاه إليه الشيخ نفسه عن العراقي ، و هو من عجائبه ، فإنه سكت عنه مع أنه صحيح الإسناد ، و آثر عليه رواية الشك مع ضعفها و نكارتـها و عدم صلاحيتها للمعارضة لو صحت كما سبق !
الثالث : محمد بن إسماعيل و هو الإمام البخاري صاحب (( الجامع الصحيح )) .
أخرجه عنه الترمذي ( 1/152 ) و هو و إن لم يكن قد ساق لفظه فإنه قد أحال فيه على لفظ عبد الله بن جعفر المصرح بالإثبات ، و ذلك بقوله عقبه : (( نحوه )) مشيراً بذلك إلى أنه مثله في
المعنى .
فهذا القول من الترمذي و إن كان لا يقتضي أن رواية البخاري لفظها مثل لفظ حديث عبد الله بن جعفر كما قال العراقي ، فإنه لا ينفي أن يكون مثلها في المعنى ، بل هو نص على اتحادهما في المعنى ، كما هو مبين في علم (( مصطلح الحديث ))(9).
و إذا كان من الأمور المسلمة أن الألفاظ قوالب للمعاني ، و أن المعاني هي المقصودة بالذات ، فلا يضرنا بعد ذلك اتفقت الألفاظ أو اتحدت ، و لهذا اتفق جمهور العلماء على جواز رواية الحديث بالمعنى بتفصيل مذكور في محله من هذا العلم : (( المصطلح )) ، و قالوا : (( ينبغي لمن يروي حديثاً بالمعنى بأن يقول : أو كما قال ، أو نحو هذا )) .
فلو كانت رواية البخاري مثل رواية ابن مينا في المعنى لم يجز القول عقبها (( نحوه )) لأنـها ليست مثلها في المعنى ، بخلاف رواية عبد الله بن جعفر فإنـها متحدة في المعنى مع رواية البخاري و لذلك جاز للترمذي – و هو من أئمة هذا العلم – أن يقول عقبها (( نحوه )) أي نحو حديث ابن جعفر في اللفظ و مثله في المعنى .
فإذا تبين هذا ، فالاسترواح حينئذٍ إلى أن اللفظ مختلف مما لا يجدي ، مادام أن المعنى واحد !
على أن قول الترمذي (( نحوه )) لا ينفي الاتفاق بين الروايتين في بعض ألفاظ الحديث ، فإذا ثبت أن لفظ حديث محمد بن جعفر على الإثبات برواية الثقتين المذكورين ، فالأقرب أنه هو المراد برواية البخاري هذه ، و ليس رواية ابن ميناء الضعيف . إذ الأصل في روايات الثقات الاتفاق لا الاختلاف ، إلا لدليل و هو هنا معدوم ، فثبت من ذلك أن رواية البخاري كرواية الثقتين قبله و هو المراد .
الرابع : يحيى بن أيوب العلاف ، و هو صدوق كما قال الحافظ ابن حجر و غيره .
أخرج حديثه الطبراني في (( المعجم الأوسط )) ( 1/98/2 من الجمع بينه و بين المعجم
الصغير ) .
و هو و إن كان قد خالف من قبله في بعض الحديث كما سيأتي تحقيقه ، فقد تابعهم على رواية الحديث على الصواب في باقيه ، فكان في ذلك حجة على صحة رواية الإثبات .
فقد اتفق هؤلاء الثقات الأربعة جميعاً على أن رواية محمد بن جعفر الثقة لهذا الحديث على الإثبات ، و أنـها في ذلك مثل رواية عبد الله بن جعفر سواء ، فإذا تذكرت أن عيسى بن ميناء قد خالفهم عنه في هذه الرواية – على التفصيل الذي سبق بيانه – و أنه ضعيف لم يجز بوجه من الوجوه ترجيح روايته على روايتهم ، و الجزم بأن روايته هي لفظ رواية محمد بن جعفر كما فعل العراقي – سامحه الله – بل العكس هو الصواب ، كما لا يخفى على ذوي الألباب . ذلك لأن من المقرر في علم الحديث أن الثقة إذا خالف في حديثه من هو أحفظ منه أو أكثر عدداً فحديثه شاذ ، و إذا كان المخالف ضعيفاً فحديثه منكر(10) ، فلو أن ابن مينا كان ثقة لكان حديثه هذا شاذاً مردوداً ، فكيف و هو ضعيف ؟! فلا شك في أن حديثه منكر مرفوض !
و هنا نقف لنتساءل : هل اطلع فضيلة الشيخ الحبشي على رواية هؤلاء الثقات ، أم خفيت عليه ؟
الجواب عن الأمر الرابع :
و أما الأمر الرابع ، و هو الاختلاف فيه على سعيد بن أبي مريم ، فالجواب عنه يمكن أن يؤخذ من الفصل السابق ، و لكن لا بد من إيضاحه فأقول :
لم يقل أحد ممن روى هذا الحديث عن ابن أبي مريم أو غيره ثقة كان أو ضعيفاً أن القصة وقعت في (( يوم يشكون )) الذي هو قبيل رمضان إلا يحيى بن أيوب العلاف المتقدم ، خلافاً لرواية الثقات الآخرين الذين ذكروا قبله و هم عثمان الدارمي و إسماعيل بن إسحق ، و البخاري ، فهؤلاء كلهم قالوا عن ابن أبي مريم : أن القصة كانت في رمضان ، و كذلك قال عيسى بن مينا عن محمد بن جعفر ، و كذلك قال الدراوردي و عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر ، و كذلك قال ابن مجبر عن ابن المنكدر .
فاتفاق هؤلاء كلهم على ذلك خلافاً لرواية العلاف أكبر دليل على ضعف روايته و شذوذها .
و أما استرواح الشيخ إلى متابعة خالد بن نزار لابن أبي مريم فمما لا يقام له وزن عند من يعلم ، ذلك لأن خالداً نفسه فيه ضعف من قبل حفظه كما يشير إلى ذلك قول الحافظ فيه (( صدوق يخطئ )) ، ثم إن الراوي عنه : المقدام بن داود واه جداً ، قال النسائي : (( ليس بثقة )) ، فهل يعتمد عالم بالقواعد الحديثية عنده ذرة من الإنصاف بـهذه المتابعة ، و هذه حال صاحبها ، و الراوي عنها ، مع ما فيها من المخالفة الصريحة لما رواه الثقات الأثبات ؟!
و من ذلك يتبين أن لا أثر لهذا الاختلاف على ابن مريم في صحة الحديث ، و أن الإفطار فيه إنما كان في رمضان من أجل السفر ، لا قبله من أجل يوم الشك .
و بذلك يسقط آخر ما تشبث به الشيخ في تضعيفه للحديث ، و يتضح لكل ذي عينين صحة الحديث باللفظ الذي رواه الترمذي صدر به الشيخ مقاله !
و إن من الأمور التي لا ينقضي العجب منها تصريح الشيخ في رسالته (( التعقب )) ( ص 21 ) أنه ليس لمثله وظيفة التصحيح و التضعيف ، ثم تراه في هذا المقال يصرح بتضعيف ما تتابع العلماء على تصحيحه ، من الترمذي إلى ابن القيم ، مع تأييد القواعد الحديثية لذلك !
شهادة القرآن للحديث :
هذا و من المعلوم عند المشتغلين بالسنة ، أن الحديث الذي ورد من طريق فيه ضعف غير شديد أنه يقوى بمجيئه من طريق أخرى أو بوجود شاهد له و لو مثله في الضعف ، فكيف إذا كان الحديث صحيح الإسناد و كان له شاهد من القرآن الكريم فضلاً عن السنة المطهرة ، فإنه و الحالة هذه لا يشك من له أدنى إلمام بـهذا العلم في صحة الحديث و لو كان ضعيف الإسناد فكيف إذا كان صحيح الإسناد لذاته ، فلا ريب أنه بذلك يزداد قوة على قوة .
و حديثنا هذا من هذا القبيل ، فإنه صحيح الإسناد ، كما أثبتنا ذلك بتحكيم قواعد هذا العلم عليه ، مع الاستئناس بأقوال العلماء الذين سبق ذكرهم ممن صححوه ، و له شاهد من القرآن الكريم و السنة .
أما القرآن فهو قول الله تبارك و تعالى : ( فمن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ) ، فإن قوله ( على سفر ) يشمل من تأهب للسفر و لما يخرج ، و قد صرح الإمام القرطبي في تفسيره (( الجامع لأحكام القرآن )) كما سيأتي أن ذلك مقتضى الآية ، و هذا واضح لا شك فيه عند المنصفين العارفين إن شاء الله تبارك و تعالى .
شاهد للحديث من السنة :
أما الشاهد من السنة ، فهو ما أخرجه أحمد ( 6/398 ) من طريق منصور الكلبي عن دحية بن خليفة رضي الله عنه أنه خرج من قريته إلى قريب من قرية عقبة في رمضان ، ثم إنه أفطر و أفطر معه ناس ، و كره آخرون أن يفطروا ، قال : فلما رجع إلى قريته ، قال : و الله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أن أراه ! إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه ! يقول ذلك للذين صاموا ، ثم قال عند ذلك : اللهم اقبضني إليك .
و أخرجه أبو داود ( رقم 2413 ) .
قلت : و رجال إسناده ثقات محتج بـهم في الصحيحين غير منصور هذا ، فقال فيه العجلي في (( كتاب الثقات ))(11) : (( مصري تابعي ثقة )) و وثقه ابن حبان أيضاً فأورده في (( الثقات )) ( 1/124 ) ، لكن قال فيه ابن المديني و غيره : (( مجهول )) ، و هذا هو الراجح عندي : أنه مجهول ، و هو معنى قول الحافظ فيه : (( مستور )) ، و لكن ذلك لا يمنع عندنا و لا عند الشيخ من الاستشهاد بحديثه ، لأن ذلك هو الذي تقرر في (( المصطلح )) ، و إليك ما قاله الشيخ الحبشي نفسه في نحو هذه المناسبة ، قال في (( التعقب )) ( ص 5 ) : (( فالجهالة من القسم الذي إذا تابع صاحبه غيره ممن هو مثله أو فوقه انجبر ضعفه ، و صار حديثه مقبولاً حسناً )) .
و عليه فالحديث مقبول عند الشيخ ، أو يلزم أن يكون مقبولاً عنده لأنه جاء من طريق أخرى و هي طريق أنس ، هذا لو سلم له أنـها ضعيفة ، فكيف و هي صحيحة على ما سبق تحقيقه ؟!
بل إن الشيخ يلزمه أن يقول بصحة إسناد الحديث لذاته ، إذا أراد أن لا يكون متناقضاً في تطبيق النهج الذي سلكه في تصحيح بعض الأحاديث في رسالته المشار إليها ! ذلك لأن الحديث ليس فيهم من يشك في عدالته غير منصور الكلبي ، و قد وثقه ابن حبان ، كما سبق و توثيقه عند الشيخ معتبر ، فقد وثق في رسالته ( ص 19 و 23 ) خزيمة و كنانة المجهولين ، بناء على توثيق ابن حبان إياهما ، و قال ( ص 23 و 26 ) في الجواب عن تجهيلنا إياهما تبعاً للحافظ الذهبي : (( إن جهالة الحال و جهالة العين ترتفع بتوثيق حافظ من أئمة الجرح ، و قد وثقهما ابن حبان )) !
و إذ الأمر كذلك عند الشيخ ، فيلزمه القول بعدالة منصور هذا ، و حينئذ فالحديث صحيح عنده لا علة فيه ، و هذا أمر لازم لازب لا مفر للشيخ منه ، و لا يستطيع أن يماري فيه ، إن كان طالباً للحق منصفاً كما آمل .
ثم إن دلالة الحديث على ما دل عليه حديث أنس من جواز الإفطار المختلف فيه واضح كل الوضوح ، فإن قوله : (( ثم إن أفطر ، و أفطر معه ناس )) صريح أو كالصريح في أنـهم خرجوا من القرية صائمين ثم أفطروا ، فلا يرد عليه ما أورده الشيخ على حديث أبي بصرة من عدم دلالته على المطلوب في زعمه ، و كأنه لذلك أعرض الشيخ عن ذكره فلم يتعرض له بجواب البتة لأنه حجة عليه ! و هذا شيء نود أن ننزه الشيخ عنه ، و لكن الأمر يحتاج إلى مساعدة منه !!
و حديث أبي بصرة المشار إليه هو في الحقيقة شاهد ثان للحديث و سيأتي الجواب عن كلام الشيخ عليه قريباً إن شاء الله تعالى .
آثار صحيحة تشهد للحديث :
هذا ، و إن مما يزيد الحديث قوة أنه جاء عن طائفة من الصحابة و غيرهم العمل بنحو ما فيه و خلاف ما ذهب إليه المانعون من الإفطار بعد الخروج ، فأنا أذكر ما وقفت عليه من الروايات عنهم إتماماً للفائدة :
1- عن اللجلاج قالوا ( كذا الأصل و لعله : اللجلاج و غيره قالوا ) : كنا نسافر مع عمر رضي الله عنه ثلاثة أميال فيتجوز في الصلاة و يفطر .
رواه ابن أبي شيبة في (( المصنف )) ( 2/ 151/ 2 ) بإسناد حسن أو قريب منه .
2- عن أنس بن مالك قال : قال لي أبو موسى : ألم أنبأ أنك إذا خرجت خرجت صائماً ، و إذا دخلت دخلت صائما ؟ فإذا خرجت فاخرج مفطرا . و إذا دخلت فادخل مفطرا .
رواه الدارقطني ( ص 241 ) و البيهقي ( 4/247 ) بإسناد صحيح على شرط الستة .
3- عن نافع عن ابن عمر أنه خرج في رمضان فأفطر .
رواه ابن أبي شيبة ( 2/ 151/ 1 ) بإسناد رجاله ثقات .
4- عن ابن عباس قال : إن شاء صام و إن شاء أفطر .
رواه ابن أبي شيبة في (( باب ما قالوا في الرجل يدركه رمضان فيصوم ثم يسافر )) ، ( 2/ 151/ 1 ) و إسناده صحيح .
5- عن مغيرة قال : خرج أبو ميسرة(12) في رمضان مسافراً فمر بالفرات ، و هو صائم ، فأخذ منه حسوة فشربه و أفطر .
رواه ابن أبي شيبة ( 2/151/1 ) بإسناد صحيح .
ثم روى هو ( 2/151/2 ) و البيهقي ( 4/247 ) بسند آخر عنه مختصراً و هو صحيح أيضاً .
6 و 7 – عن سعيد المسيب و الحسن البصري قالا : يفطر إن شاء .
رواه ابن أبي شيبة عقب الأثر الذي قبله و سنده صحيح .
و في رواية عن الحسن البصري (( يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج )) ذكرها القرطبي في تفسيره ( 2/279 ) .
و بعد فإن حديثاً كهذا يشهد له القرآن و السنة و الآثار الصحيحة عن السلف و فيهم بعض الخلفاء الراشدين(13) لحري ألا يكون موضع جدل و تردد في صحته ، مهما قيل في إسناده أو في متنه ، لولا أن بعض الناس يتعصبون لمذاهبهم ما لا يتعصبون للشرع الثابت عن نبيهم ، اتباعاً لما ألفوه ! فاللهم رحمتك و هداك .
2- فقه الحديث و من قال به
إذا تبين أن الحديث صحيح بلفظ الإثبات ، فهو حجة واضحة لما ذهب إليه الإمام إسحق بن راهويه ، كما حكاه الترمذي عنه(14) و قد نقله الشيخ عنه ، و في كتاب (( المسائل )) لإسحاق بن منصور المروزي ( ق 29/1 – 2 ) ما نصه : (( قلت ( يعني للإمام أحمد ) : إذا خرج مسافراً متى يفطر ؟ قال : إذا برز عن البيوت ، قال إسحق ( يعني ابن راهويه ) : بل حين يضع رجله فله الإفطار ، كما فعل ذلك أنس بن مالك(15) ، و سن النبي صلى الله عليه ( كذا ) ، و إذا جاوز البيوت قصر )) .
اتباع ابن العربي للحديث خلافاً للمذهب :
و لقد أنصف الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى ، فإنه ذهب إلى العمل بالحديث في هذه المسألة خلافاً لكثير من علماء المالكية ، و تبعه على ذلك القرطبي و غيره ، و سبقهم إلى الجهر بذلك الحافظ ابن عبد البر ، فقال ابن العربي في (( عارضة الأحوذي )) ( 4/13 – 16 ) تعليقاً على الحديث : (( و هذا صحيح ، لم يقل به أحد إلا أحمد بن حنبل ( ! ) ، فأما علماؤنا ( يعني المالكية ) فمنعوا منه ، لكنهم اختلفوا إذا أكل هل عليه كفارة أم لا ؟ فقال مالك في (( كتاب ابن حبيب )) : (( لا كفارة عليه )) ، و قال أشهب : (( نعم لأنه متأول )) ، و قال غيرهم : عليه الكفارة ، و يجب أن لا يكفر لصحة الحديث … و هو يقتضي جواز الفطر مع أهبة السفر )) .
و قال القرطبي في تفسيره (( الجامع لأحكام القرآن )) ( 2/278 – 279 ) بعد أن حكى الخلاف الذي ذكره ابن العربي : (( قلت : قول أشهب في نفي الكفارة حسن ، لأنه فعل ما يجوز له فعله ، و الذمة بريئة ، فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين ، و لا يقين مع الاختلاف ، ثم إنه مقتضى قوله تعالى : ( أو على سفر ( ، و قال أبو عمر ( هو ابن عبد البر ) : هذا أصح أقاويلهم في هذه المسألة ، و لو كان الأكل مع نية السفر(16) يوجب عليه الكفارة ، لأنه كان قبل خروجه ما أسقطها عنه خروجه ، فتأمل ذلك تجده كذلك ، إن شاء الله تعالى )) .
ثم ذكر ابن عبد البر من قال بأنه لا يفطر و أن عليه الكفارة إن أفطر ، ثم قال : (( و ليس هذا بشيء ، لأن الله سبحانه قد أباح الفطر في الكتاب و السنة ، و أما قولهم : (( لا يفطر )) فإنما ذلك استحباب لما عقده ، فإن أخذ برخصة الله كان عليه القضاء ، و أما الكفارة فلا وجه لها ، و من أوجبها فقد أوجب ما لم يوجبه الله و لا رسوله صلى الله عليه و سلم )) .
و هذا هو الذي استظهره العلامة الصنعاني في (( سبل السلام )) ( 2/629 ) ، و هو الذي نقطع به لهذا الحديث الصحيح فإنه نص في المسألة لا يقبل التأويل ، مع تأيده بظاهر القرآن و الآثار الصحيحة عن السلف رضي الله عنهم .
و مما سبق يعلم أن القول بعدم جواز الإفطار ، و إيجاب الكفارة على المفطر مما لا دليل عليه في الشرع ، فعلى من نصب نفسه للرد علينا و حاول تضعيف الحديث الصحيح انتصاراً لمذهبه ، أن يأتي بالدليل الذي يقنع به نفسه قبل غيره بصحة ما ذهب إليه ، و إلا فهو عندنا و كما بينا خلاف ظاهر القرآن ، و نصوص الآثار الصحيحة ، و ذلك كاف في إثبات خطأه و لو كان الحديث عنده ضعيفاً .
فليتأمل في هذا المنصفون على اختلاف مذاهبهم يتبين لهم صواب ما ذكرنا . إن شاء الله تعالى ، و هو ولي التوفيق .
و إن مما يحسن التنبيه إليه أن ذلك الموقف الطيب الذي وقفه ابن العربي و من معه من الحديث هو الذي يجب على كل مسلم أن يتخذه تجاه هذا الحديث خاصة و الأحاديث الأخرى بصورة عامة ، و لو كانت على خلاف رأي الآباء و الشيوخ ، لأنه هو الموقف الوحيد الذي يتفق مع الإيمان الصحيح ، كما قال تعالى : ( فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت و يسلموا تسليما ) ، فلا جرم أن الأئمة أمروا بذلك أتباعهم و ألحوا عليهم بذلك ، في عبارات كثيرة مشهورة عنهم ، و قد ذكرت الكثير منها في مقدمة كتابي (( صفة صلاة النبي صلى الله عليه و سلم )) . فمن شاء رجع إليه .
3- حديث أبي بصرة الغفاري
بقي علينا الكلام على حديث أبي بصرة الغفاري ، لقد ذكر الشيخ أنه لا يكفي على المعتمد على صحة الحديث سكوت أبي داود عليه …
و جوابنا عن ذلك من وجوه :
الأول : أن ما ذكره صحيح بالنسبة إلى العالم الناقد العارف بطرق الجرح و التعديل ، و التصحيح و التضعيف ، فإن مثل هذا لا يقنعه سكوت أبي داود على الحديث ، لأنه يعلم يقيناً أنه سكت عن أحاديث لا حصر لها و هي ضعيفة بينة الضعف كما قرر ذلك العلماء ، كالنووي و العسقلاني و غيرهما ، و بينا ذلك بأمثلة كثيرة في نقدنا لكتاب (( التاج الجامع للأصول الخمسة ))(17) ، فعلمه هذا يلزمه أن يرجع إلى السند و يحكم فيه قواعد هذا العلم فيصحح أو يضعف ، و أما المقلد الذي (( ليس له وظيفة التصحيح و التضعيف )) مثل فضيلة الشيخ باعترافه هو كما سبق نقله عنه ، فهذا لا بد له من الاعتداد بسكوت أبي داود على الحديث حتى يقف على قول عالم آخر هو أوثق منه عنده ضَعَّف الحديث ، و أما هو نفسه فلا يجوز له الإقدام على التضعيف بداهة لأنه لا علم له بذلك ، و هذا شيء واضح ما أظن عاقلاً منصفاً يجادل فيه .
فما بال الشيخ إذن لا يرضى بسكوت أبي داود الذي يدل على أن الحديث صالح عنده ، بل يجتهد – مع أنه يعتقد حرمته عليه ! – فيذهب إلى تضعيف الحديث كما يشير إلى ذلك قوله : (( لو صح … )) دون أية حجة علمية و لا برهان و لو تقليداً لإمام ؟!
الثاني : أنني أعتقد أن اللائق بطريقة الشيخ التي عرفناها منه في (( التعقب الحثيث )) أن يذهب إلى القول بصحة هذا الحديث لا إلى تضعيفه ، و ذلك لأن رجال إسناده عند أبي داود ( رقم 2413 ) و أحمد ( 6/398 ) كلهم ثقات محتج بـهم في الصحيحين غير كليب بن ذهل و قد وثقه ابن حبان ( 2/253 ) و قال الحافظ في ترجمته من (( التقريب )) : (( مقبول )) ، و أما عبيد بن جبر ، فقد مال الحافظ إلى أن له صحبة ، و ذكره يعقوب بن سفيان في (( الثقات )) ، و قال العجلي ( رقم 884 ) : (( مصري تابعي ثقة )) ، و ذكره ابن حبان أيضاً في (( الثقات )) ( 1/140 ) إلا أنه قال : (( هو مولى الحكم بن أبي العاص )) ، فلا أدري هو هذا أو غيره ، و عهدنا بالشيخ أنه يعتد(18) بتوثيق ابن حبان للمجهولين كما سبق بيانه من كلامه ، فلماذا إذن يضعف الشيخ هذا الحديث و لا يصححه مع أنه صحيح على شرطه ؟!(19).
لا أريد أن أقول : إنه يكيل بكيلين و أن نـهجه في التصحيح و التضعيف ليس هو على ما ثبت في (( مصطلح الحديث )) و إن كان هو يصرح أنه ليس من أهل ذلك كما سبق نقله عنه ، و لكن لعله حين يكون الحديث مخالفاً لمذهبه ، لا ينشط لتحقيق القول فيه على مقتضى علم الحديث – على قدر معرفته به – خشية أن يتبين له صحته ، فيكتفي في تضعيفه بأي شيء عثر عليه و لو كخيوط القمر ! و إذا كان الحديث موافقاً لمذهبه لم ينشط أيضاً للنظر فيه مخافة أن يتبين له ضعفه ، و يقنع في تصحيحه بأي قول وجده و لو كان خلاف القواعد العلمية !!
و خلاصة القول : أن هذا الحديث صحيح على طريقة الشيخ ، و أما نحن فحسبنا فيه أنه شاهد ثان لحديث أنس ، و إن كان سنده فيه ما في الشاهد الأول ، فتضعيف الشيخ إياه خطأ بين على جميع الاحتمالات ، كما لا يخفى ، لأن أقل أحواله أنه حسن لغيره .
4- دلالة الحديث على ما دل عليه حديث أنس
و أما قول الشيخ : إن الحديث لو صح لم يكن فيه حجة لأنه ليس فيه أنه خرج بعد الصبح فركب ثم أكل فيحتمل أنه خرج من بيته قبل الفجر …
فأقول : الاحتمال المذكور باطل من وجوه :
أولاً : أنه خلاف المتبادر من الحديث .
ثانياً : أنه خلاف ما فهم منه العلماء الذين خرجوه ، فهذا أبو داود يترجم له بقول : (( باب متى يفطر المسافر إذا خرج ؟ )) يشير بذلك إلى أن أبا بصرة كان خرج صائماً ثم أفطر ، و هذا المجد ابن تيمية ترجم له بقوله : (( من سافر في أثناء يوم هل يفطر فيه ؟ و متى يفطر ؟ )) ، و مثله و أصرح منه قول البيهقي الآتي قريباً إن شاء الله تعالى .
ثالثاً : أن أبا بصرة لو خرج قبل الفجر – كما ادعى الشيخ – فمعنى ذلك أنه سافر قبل أن يجب عليه الصيام لعدم وجود شرطه و هو الإقامة ، و من المعلوم أن مثل هذا يجوز له الأكل بعد الفجر بنص القرآن و اتفاق المسلمين ، بل إن بعضهم أوجبه عليه ، فإذ الأمر كذلك فهل يعقل أن يعترض عليه عبيد بن جبير بقول : (( ألست ترى البيوت ؟! )) ، فلا شك أن هذا القول منه دليل على أن أبا بصرة خرج صائماً ، و أنه أكل بعد الفجر و أفطر ، فأراد عبيد رحمه الله أن يلفت نظره إلى ما ظنه مانعاً من الإفطار و هو كونه لا يزال في حكم المقيم لأنه لم يجاوز البيوت ! فأخبره أبو بصرة رضي الله عنه بأن المجاوزة ليست بشرط ، و أن التمسك به خلاف السنة . هذا هو المعنى الذي يمكن فهمه من الحديث إذا تجردنا عن الهوى و التقليد الأعمى ، و هو الذي فهمه العلماء كما ذكرت في الوجه الأول . و يشهد لذلك أيضاً ترجمة البيهقي للحديث بقوله : (( باب من قال يفطر و إن خرج بعد طلوع الفجر )) ، فهذا نص قاطع على بطلان ما تأول الشيخ الحديث به من المعنى ، و هو مما يدل على أن الشيخ يجتهد في فهم الأحاديث – خلاف ما يتظاهر به ! – و كأنه – ألهمنا الله الصواب جميعاً – يجتهد لهدمها و إبطال معانيها حتى لا تتعارض مع مذهبه ، فالمذهب هو الأصل عنده ، و الحديث تبع له ! و هذا خلاف ما يجب أن يكون عليه المسلم كما سبق التنبيه عليه ، و خلاف ما جرى عليه العلماء المنصفون حتى من كان منهم معروفاً باتباعه لمذهب من المذاهب الأربعة ، و أقرب شاهد لدينا على ذلك ، الإمام البيهقي رحمه الله فإنه مع اتباعه للمذهب الشافعي و تأييده له في أكثر مسائله فسر الحديث بقوله الذي ذكرته آنفاً بخلاف ما ذهب إليه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ، و لم يُحَمِّله معنى لا يتحمله و لا يساعد عليه الذوق العربي و الفهم السليم ، كما صنع غيره و هو ينتمي لمذهب الشافعي أيضاً !
رابعاً : قول عبيد بن جبير : (( ثم قرب غداءه )) ، فإن فيه إشارة إلى أن الخروج و الأكل كان غدوة و هي ما بين صلاة الفجر و طلوع الشمس كما نقله الشيخ نفسه عن القاموس ، فإذا ثبت هذا فلا أدري ما وجه تأييد الشيخ ما ذهب إليه في تأويل الحديث من المعنى بقول عبيد هذا ؟ لأن أكل أبي بصرة سواء كان في أول النهار – و هو بعد الفجر – أو كان بعد طلوع الشمس ، فلا يؤيد بوجه من الوجوه قول الشيخ أن الخروج كان قبل الفجر .
فإذا تأمل العاقل في هذه الوجوه الأربعة تبين له دون أي شك أن الحديث حجة نيرة على جواز الإفطار المختلف فيه و أنه في ذلك كحديث أنس رضي الله عنه ، و قد صرح بذلك المحقق الشوكاني في (( نيل الأوطار )) ( 4/195 ) .
الخلاصة :
و خلاصة القول أن الشيخ أخطأ في رده في عدة أمور :
1- تضعيفه لحديث أنس و هو صحيح كما تقتضيه قواعد علم الحديث .
2- إعراضه عن تقليد من صححه مع أنـهم أكثر ممن ضعفه و هذا خلاف المفروض في المقلدين و منطقهم الذي من عادته أن يحتج بالكثرة و السواد الأعظم !
3- تضعيفه لحديث أبي بصرة ، و هو صحيح على مقتضى منهجه في التصحيح .
4- إعراضه عن الاستشهاد به مع أنه صالح لذلك عنده .
5- كتمه لحديث دحية ، مع أنه صحيح أيضاً على منهجه ، و ما ذلك إلا لأنه صريح الدلالة على خلاف مذهبه !
6- غفلته عن تأييد القرآن للأحاديث الثلاثة .
7- غفلته أيضاً عن الآثار المؤيدة لها ، و بعضها عن عمر الفاروق رضي الله عنه .
الخاتمة :
و لذلك فأني أختم هذه الكلمة بأن أرجو من فضيلة الشيخ الحبشي أن يعيد النظر في موقفه من هذا الحديث و ما تضمنه من الحكم الذي شهد له القرآن الكريم ، مذكراً له بقوله تعالى فيه : ( فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت و يسلموا تسليما ) ، ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم ، و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه ، و أنه إليه تحشرون ) .
(1) مجلة التمدن الإسلامي (20 / 501 – 502).
(2) تنبيه : وقع للشوكاني هنا وهم فاحش ، حيث ضعف الحديث بضعف أحد رواته ، مع أنه عند البيهقي ، وروايته من طريق غيره ، وتبعه على هذا الوهم ميد سابق في كتابه " فقه السنة " وقد فصلت القول فيه في تعليقي عليه ، وقد انتهيت من التعليق على الجزء الأول والثاني والثالث منه ، وأسأله تعالى التوفيق لإتمامه.
(3) قلت : و من يكون هذا البعض إلا الشيخ حمدي نفسه ؟!
(4) قال راقمه على الحاسوب : ما بين القوسين ساقط من الأصل و لعله الصواب .
(5) (( الجرح و التعديل )) لابن أبي حاتم ( 3/ 2/ 320 ) .
(6) (( شذرات الذهب )) ( 2/ 48 ) ، و نحوه في (( الميزان )) .
(7) شذرات ( 1/ 177 ) .
(8) شذرات ( 2/ 176 ) .
(9) انظر مقدمة علوم الحديث لابن الصلاح ( ص 199 ) طبع حلب .
(10) انظر (( تدريب الراوي )) ( ص 151 – 152 ) طبع المكتبة العلمية بالمدينة المنورة .
(11) رقم ( 1375 ) من نسختي من ترتيب ثقات العجلي للسبكي .
(12) اسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني ، قال الحافظ : (( ثقة عابد مخضرم مات سنة ثلاث و ستين )) .
(13) فأين أولئك الذين نقموا علينا دعوتنا إلى إحياء السنة الصحيحة في ركعات التراويح ، و نسبونا – زوراً و بـهتاناً – إلى الطعن في الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بسبب مخالفتنا لما يروى عنه من ركعات العشرين ، مع أنـها لا تثبت عنه ، بل الصحيح عنه موافق لما ندعو إليه من السنة كما بيناه مفصلاً في ردنا عليهم في (( صلاة التراويح )) .
أقول : أين هؤلاء من إطباقهم على مخالفة عمر بن الخطاب و من معه من الأصحاب الكرام و السلف العظام في هذه المسألة ، لا سيما و السنة الصحيحة معهم ؟! فالحمد لله الذي وفقنا لاتباع السنة هنا و هناك ، و نسأله المزيد من فضله و توفيقه ، كما نسأله أن يهدي المخالفين إليها ، و أن يحيينا و يميتنا عليها ، و أن يحشرنا تحت لواء صاحبها عليه الصلاة و السلام ، ( يوم لا ينفع مالٌ و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) .
(14) و من العجائب قول ابن العربي – كما يأتي – : (( أنه لم يقل به إلا أحمد )) مع أن ذلك ورد في كتاب الترمذي الذي شرحه ابن العربي نفسه فسبحان من لا يسهو .
(15) هذا يؤيد ما كنت رجحته أن حديث أنس هذا ينبغي أن يكون صحيحاً عند من قال به كأحمد و إسحق ، و قد كنت رجحت ذلك قبل أن أقف على هذا النص ، فالحمد لله على توفيقه .
(16) قال راقمه على الحاسب : في الأصل : (( الفر )) بدل (( السفر )) .
(17) بدأنا بنشر خلاصة نافعة عنه في مقالات متتابعة في مجلة (( المسلمون )) و قد صدر المقال الأول منه .
(18) قال راقمه على الحاسب : الأصل (( يعتقد )) و لعل الصواب ما أثبت .
(19) و قال الشوكاني في (( نيل الأوطار )) : (( سكت عنه أبو داود و المنذري و ابن حجر في (( التلخيص )) و رجال إسناده ثقات.