ولا أدل على إخلاص هؤلاء الخلفاء الأربعة واتصالهم بالله ، وعلى عظمتهم وتفردهم بهذه الخصائص ، أنهم لم يرضوا بالتمتع بذلك الثراء العظيم الهائ ، والقناطر والمقنطرة التي كانت ثمرة قرون ، وبدأت تتدفق كالسيل من الروم وفارس في أيامهم ، ولم يعيشوا بالرغم من ذلك عيشه رفاهية ، فضلاً عن التنعيم والبَذْخ ، بل إنهم اقتفوا آثار الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم وآثروا حياة الزهد والإيثار على كل متعة ورخاء ، بل الواقع أنهم كانوا أرفه حالاً وأهنأ بالاً قبل أن يتولوا الخلافة .
يقول جبون (Gibbon) :
((لقد تمت تربية أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في أحوال القلق والحرب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت بُشرى الجنة قد أغنتهم عن جميع اللذات والأخطار ، ولكنهم تسلموا زمام الحكم في سن متقدمة ، وكان الدين والعدل قد حلا في أعينهم محلا أكثر أهمية من الحكومة ، وقد كانت حياتهم الساذجة أصبحت عادة لهم ، وكانت تنشر الدهشة والاعتبار في نفوس ملوك العالم الذين كانت شعارهم الأبهة والشوكة)) .
كما أن واحداً منهم لم يستخلف ابنه أن أقرب فرد من أسرته ، على ما كان يتمتع به من سلطة وكانة ، بل بالعكس من ذلك فإنهم أوصوا أبناءهم وأقاربهم بالابتعاد عن الخلافة وأوصوا المسلمين كذلك بأن لا يختاروهم لمنصب الخلافة أبداً ، الأمر الذي لا تستمبط منه إلا نتيجة واحدة – في ضوء تجارب الفطرة والدوافع الإنسانية ، وتقاليد الحكام والحكومات التي تمتد على قرون بل على آلاف السنين- وهي أنهم كانوا مخلصين بكامل معنى الإخلاص ، متصلين بالله تمام الاتصال ، بعيدين عن كل غرض ظاهر ، وباطن ، لم يتولوا مسؤولية الخلافة إلا لابتغاء وجه الله ونشر دينه ودعمه ، ولسد أبواب الفتن والأخطار ، وإلا – كما تزعم بعض مدارس الفكر- فإن صح أن هؤلاء الخلفاء كانوا قد تولوا الخلافة لأغراضهم الشخصية ، وطلباً للجاه والحصول على المنافع المادية ، فلا معن لخسران الآخرة والتعرض لسخط الله من غير انتفاع بالدنيا ، إنه الإثم الخالص الذي ليست وراءه لذة .
وذلك ما لا يرضى به عاقل ، لأنه يرادف المثل الذي يقول: ((تمخض الجبل فولد فاراً)) .
نكتفي في المناسبة بتقديم مثال من سيرة أبي بكر رضي الله عنه، وآخر لواقع عمر رضي الله عنه، ويَتَسنى بعد ذلك لمن لم تتغلب العصبية على عقله وضميره، أن يعدل في الحكم ، يقول مؤرخ عهد خلافة أبي بكر رضي الله عنه:
((قيل: إن زوجة اشتهت حلواً، فقال: ليس لنا ما نشتري به، فقالت: أنا استفضل من نفقتنا في عدة أيام ما نشتري به، قال: افعلي ن فعلت ذلك ، فاجتمع لها في أيام كثير شيء يسسر، فلما عرفته ذلك ليشتري به حلواً، أخذه فرده إلى بيت المال ن وقال: هذا يفضل عم قوتنا، وأسقط من نفقته بمقدار ما نقصت كل يوم، وغرمه لبيت المال من ملك كان له))(1) .
وعن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: ((لما احتضر أب بكر ، قال : يا عائشة ، انظري اللقحة التي كنا نشرب من لبنها والجفنة التي كنا نصطبغ فيها والقطيفة التي كنا نلبسها ، وإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا نلي أمر المسلمين، فإذا مت فاردديه إلى عمر، فلما مات أبو بكر أرسلت به إلى عمر، فقال رضي الله عنه: رحمك الله يا أبا بكر، لقد أتعبت من جاء بعدك)) (2) .
وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه، قال: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت الإمارة، فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي، فإني قد كنت استحله (3).
وفي رواية: لما حضرته الوفاة، قال: إن حائطي الذي بمكان كذا وكذا يرد إلى بيت المال عوضاً عم المال الذي كنت أخذته من بيت المال في أيام خلافتي .
وفي رواية: تردون إلى بيت المال ثمانية آلاف درهم من مالي فقد أُنفق عليَّ بمقدار ذلك أيام الخلافة من بيت المال .
وقال لعائشة رضي الله عنها وهو يجود بنفسه: ((إذا أنا مت فاغسلي أَخْلاقي – ثيابي – فاجعليها أكفاني .
فقلت: يا أبناه قد رزق الله وأحسن ، نكفنك في جديد.
قال: إنَّ الحيَّ هو أحوج ، يصون نفسه ويقنعها ، من الميت إنما يصير إلى الصديد وإلى البلى (4) .
(1) الكامل في التاريخ / لابن الأثير 2/423
(2) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 78 .
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد 3/192
(4) المصدر السابق ص 197