تخطى إلى المحتوى

دواء الروح 2024.

دواء الروح

قال لصاحبه وقد رأى على ملامح وجهه آيات الكدر وعلامات الهم :

ما بالك تبدو مهموماً كأنما جبال الدنيا على رأسك ؟
قال الآخر وهو يزفر ويتأفف :

لو تعلم ما بي لعذرتني ، تسحقني الهموم سحق الرحى للحب

، متعب الروح ، مكدود النفس ، محترق الأعصاب ،

رغم الهيل والهيلمان الذي يراه الناس معي ومن حولي ،

ولكنها والله قشرة خارجية براقة فحسب ، أما الداخل فحطام ..!

ولو أن هؤلاء المبهورين بما عندي ، اطلعوا على هذه الروح

التي أتحرك بها ، لكنت محلاً للرثاء بدلا من الإعجاب !

قال له صاحبه وهو يتوجه بقلبه إلى السماء :

أتريد حقاً أن تتخلص من تعبك النفسي هذا إلى غير رجعه ؟

فأجاب الآخر بلغة المهزوم وفي نبرة يائسة :

كيف السبيل إلى ذلك ؟

والله لو كان يدفع من أجل ذلك الأموال الكثيرة ،

لأخرجتها مطمئناً إلى صواب ما أفعل .

قال له صاحبه في نبرة واثقة :

لا تيأس من روح الله ، واسأل الله أن أكون دليلك إلى هذه الوصفة

التي تبحث عنها ولا تجدها ، ولكن بشرط .

رفع الآخر رأسه وقد بدا انه تهلل قليلاً ثم قال في لهفة :

قل ، قل فكلي آذان صاغية ،

إن المعاناة النفسية التي تسحقني عنيفة للغاية

ولا يعلم حقيقة ما أنا فيه ألا الله وحده ،

وستجدني في سبيل الخلاص من هذه الحالة

مستعداً لتنفيذ ما تأمر به .

قال صاحبه وقد توجه بقلبه ليستدر إمدادات السماء :

الطريق إلى ذلك ميسور جداً وقريب جداً ، اقرب إليك مما تتصور !!

اتضح تماماً إن ملامح صاحبنا قد أخذت تتفتح في انتشاء ،

كأنما هي تشير إلى أن عملية خفية تجري الآن في داخل القلب

تجعله يتفتح مع هذا الحديث الشجي المقبل عليه

إقبال الحبيب على الحبيب .

واصل صاحبه الحديث قائلاً :

اعرف ربك سبحانه جيداً ، تزل كل متاعب قلبك المكدود !!

انعقدت الدهشة على وجه الآخر و قال في نبرة حانقة :

وهل تراني لا اعرف الله سبحانه ؟!!

الله ربي وخالقي ومولاي ، لا رب لي سواه ؟!

ابتسم صاحبه وهو يحدق في عينه وقال :

هذا الذي أراه !!! ولو كنت تعرف الله جيداً لم تسحقك

الهموم على هذه الشاكلة المخيفة ؟!

قال الآخر متسائلا : لم افهم ماذا تعني !؟

قال صاحبه : أظنك إنما تقصد المعرفة العقلية بأن الله موجود ،

وانه واحد أحدوان هذا الكون مخلوق له وحده ،

وانك تستطيع أن تقيم على ذلك عشرات الأدلة الواضحة في يسر ؟

حملق الآخر في وجه صاحبه ثم قال :

نعم ، وهل هناك معرفة لله غير هذه ؟!

ابتسم صاحبه وهو يقول :

المعرفة التي تقصدها يا صاحبي غير التي أشير إليها ..

المعرفة التي في ذهنك قد لا تغني عنك من الله شيئاً ،

فالشيطان عليه اللعنة يعرف الله اكثر منك بكثير..!

ومع هذا ها أنت تراه مطروداً من رحمة الله أبد الدهر .

تحسب وأنت تتابع ملامح وجه الشاب الآخر

كأنما دارت به الدنيا دورتها الكاملة

أراد أن يتفوه بشيء ما ، غير انه لم يستطع ،

واكتفى بمواصلة الإنصات في شيء من الذهول ..

وواصل صاحبه الحديث في إشراق :

وأزيدك من الشعر بيتاً :

المعرفة العقلية قد يعرفها كذلك – اكثر منك – :

علماء الغرب والشرق من غير المسلمين ..

ومع ذلك فهل تنفعهم هذه في شيء عند الله تعالى ؟!

في تلقائية هز الآخر رأسه بالنفي ، ثم تمتم متسائلاً :

صدقت ، ما هي المعرفة الصحيحة إذن ؟

قال صاحبه :

المعرفة العقلية مقدمة للمعرفة القلبية وسيلة إليها ،

فإذا لم يشرق القلب بهذه المعرفة ويتفاعل معها ، وينصهر فيها ،

ويتحرك على ضوئها ، فإن مجرد المعلومات والأدلة وحفظها

وسردها وحشو الذهن بها ، لا يغني شيئاً .

المعرفة القلبية احساسات إيمانية يستنير معها القلب ،

وتزكو خلالها النفس ،

وترتبط الروح مباشرة بالله لا تلتفت إلى غيره ،

تجد لديه وفي رحابه وبين يديه انسها وروحها وريحانها ..

فينفحها الله بنفحات السماء ، فتتذوق ، وهي بعد في الدنيا :

تتذوق ببعض نعيم الجنة !!

هز الآخر رأسه ، وتمتم في هدوء:

هيييه ..زدني .. اغرف لي من هذا النور فإن روحي عطشى !

قال صاحبه وكأنما هو يغترف من بحر النور مباشرة :

هل تعرف أسماء الله الحسنى ؟

فأجاب الآخر في تلقائية : بل احفظ كثيراً منها عن ظهر قلب .

قال الأول ، فماذا أثمرت في قلبك وروحك وحسك ؟
صمت الآخر ولم يجب فواصل الأول الحديث :

حفظ الأسماء الحسنى في حد ذاته عمل جليل ، ودليل تعلق بالله ،

لكنه تعلق باهت ..

لم يثمر عملاً ولم يصحح وضعاً ولم يبن حياة مشرقة .

هل حاولت أن تقرأ الكون كله من خلال أسماء الله الحسنى ؟

بحيث " تشهد " كل اسم على حده متجلياً أمام بصيرتك

في " لقطات " هذا الكون الحافل بالحركة والحياة ،

إذا فعلت ذلك أثمرت لك هذه القراءة القلبية :

أنواراً تحسها إحساساً مباشراً في قرارة فؤادك

وبهذه الإشراقات تزول متاعبك وتخف همومك ،

بل قد تنقلب تلك المتاعب والهموم في حسك ،

فإذا فيها لذتها الخاصة ونكهتها المتميزة !!

قال الآخر وقد عادت إليه طلاقة وجهه :

أرجو أن تضرب لي مثالاً واحداً على الأقل على ما تقل ؟!

قال الأول : تعلم كما يعلم كل مسلم أن من أسماء الله الحسنى :

" الحكيم " .. ولكن ..

ألا تشهد هذا الاسم الجليل بتجلي لك في اكثر من لقطة

من لقطات هذه الحياة ، فيالكون ، ومن حولك ، وفي ذات نفسك .

والحكمة كما تعلم هي وضع الشيء المناسب في المكان المناسب بدقة ،

وهذه الشمس مثلاً لو تقدمت قليلا لأحرقت كل شيء ،

ولو تأخرت قليلاً لتجمد كل شيء ..

المشهد يجعل اسم " الحكيم" يتجلى في قلبك وأمام بصيرتك

بوضوح وصفاء ومن غير غبش .

وهذه المفاصل في جسد كل إنسان ، وكل حيوان ،

ألا ترى أنها مصممة بدقة متناهية ، وأن كل واحد منها

موضوع في مكانه المناسب ، بحيث لو حل مفصل مكان مفصل

لما قامت حياة الإنسان كما ينبغي ..

وهاتان العينان في رأس كل إنسان بل وفي رأس كل حيوان :

ألا تراهما موضوعتان بعناية تامة في المكان المناسب ،

بحيث لو تغير موضعهما لاختلت حياة هذا الإنسان .

وعلى هذا قس مشاهد الكون الكثيرة في الآفاق وفي الأنفس ،

في السماء وفي الأرض ، في الإنسان ، والحيوان ، والطيور ،

والأشجار ، والحشرات .. في كل كبير وفي كل صغير ،

تابع وتأمل وتفكر وتدبر… تجد نفسك مبهورا في هذا المهرجان الرائع !

( العجيب أن أكثر الخلق ينبهرون بمهرجانات صنعها البشر

وهي مجرد اضواء زائلة ، وزخارف مؤقتة ، وألوان وبهارج

ثم تجدهم يمرون على هذه البدائع في السماء والأرض ولا يلفتفتون إليها ؟!!

)وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)

معرضون عن هذه الأعاجيب السماوية لأن قلوبهم اشربت حب عجل الشهوات !

)أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ..

فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)

وواصل صاحبنا حديثه الشجي :

ولعلى اذهب إلى انك لو تتبعت – في ساعة خلوة منفرد مع الله –

هذا الكون المليء بالعجائب على هذا النحو ،

وبهذا الحس لرأيت روحك تحلق وتسافر وتسمو
وأنت في مكانك لم تتحرك ..!

وإذا بروحك تعود إليك من سفرتها تلك محملة بهدايا السماء لقلبك المكدود ،

وذلك لأنك حيثما يممت وجهك لوجدت آيات تتوالى تترى تترى ،

وكل منها يقول لك ، وتسمع منه … ويهتف بك ، وتشتاق إليه ،

فإذا بأسماء الله الحسنى تشرق في قلبك إشراقها حتى يضيء ويتلألأ .

فإذا أدركت ذلك جيداً " وتذوقته " ووجدت حلاوة متجلية في قرارة روحك

ستدرك يقيناً أنه ما من تشريع سماوي:

إلا وله حكمة وفيه حكمة ومعه حكمة ،

لأن مشرعة هو "الحكيم " سبحانه .

وبشيء من التفكير الهادي ستجد أن تلك الحكمة عائدة عليك

عليك أنت أيها الإنسان على هذه الأرض ..!

فهذه خطوة ثانية على الطريق ، ثم تنسحب هذه النظرة الروحية إلى :

إلى دائرة ابتلاء الله للإنسان بصنوف البلاء ..

فإذا بصاحب هذه الروح لا يضطرب اضطراب الناس ..!

ولا يجزع ذلك الجزع الذي يجعله فريسة سهلة للشيطان ..!

ولمَ الجزع ؟ ولمَ الهلع وقد أيقن أن ربه " الحكيم " سبحانه ..

وأن الأمر منه واليه ، وأن كل شيء بحكمه ولحكمة ..؟!

)إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)

بل كيف ينتابه القلق العاصف وقد تذوق هذه المعاني الإيمانية

في قرارة قلبه ، وأحس بصيص أنوارها في روحه ..!؟

بل هناك شيء آخر ..

ينبغي أن تنتبه إليه ..

هو أن الآية الواحدة – من آيات هذاالكون الكثيرة والمتوالية والمتنوعة –

الآية الواحدة التي ستقرؤها بهذه الروح المتطلعة ،

يتجلي لك منها اكثر من اسم من الأسماء الحسنى ..

لا مجرد اسم واحد فحسب .. فافهم

قال الآخر وقد بدأ صدى هذه المعاني يتجلى على وجهه :

أرجو أن تضرب لي مثالا ؟

قال صاحبه :

نعود إلى الشمس ، لنتأملها جيداً ..

سيتجلى لك فيها : اسم الله " الحكيم " واسمه " الرحيم "

واسمه " المبدع " واسمه " اللطيف " وهكذا..

وهكذا تشرق في قلبك أسماء حسنى متعددة في كل مشهد

تقف أمامه متأملاً متفكراً متدبراً ..

وعلى هذا قس بقية الأسماء الحسنى ..
وذلك نعيم عجيب تتلذذ به الروح لذة لا تحسب من الدنيا في شيء !
إنك بهذا الأسلوب ، وبهذه الطريقة تدخل دائرة النور

وتسعد بها فتنسى فيها همومك ومتاعبك !

أو على الأقل يخف وقع أثرها على نفسك !

من هنا يا عزيزي تجد أن كثيراً من الأوهام التي تتصورها

ليست كذلك إلا فيحسك الغافل عن الله ،

لأن قلبك أمسى مغلقاً بغشاوة كثيفة بسبب بعدك عن ربك سبحانه .

يروى أن إبراهيم بن ادهم رحمه الله لقي رجلاً يكاد يتفجر هماً وغماً،

فقال له إبراهيم : أسألك أسئلة ثلاثة ، فأجنبي بما تعتقد :

هل يجري في هذا الكون شيء دون إرادة الله ؟!

قال الرجل : لا .. قال إبراهيم :

فهل يملك مخلوق أن ينقص من رزقك الذي حدده الله لك وقدره ؟

قال الرجل : لا ، قال إبراهيم :

وهل يملك مخلوق أن يقدم ساعة الآجل التي كتبها الله عليك في أم الكتاب ؟

قال الرجل : لا …فقال إبراهيم في نبرة الواثق بربه :

ويحك !! فعلام الهم إذن ؟ علامَ الهم …!!!

وسارع الرجل يعانق إبراهيم يقول :

فرج الله عليك كما فرجت علي .

صاح الآخر وقد تراقصت الفرحة في وجهه

حتى كادت أن تقفز من عينيه وهو يهتف في فرح طفولي :

وأنا والله أقول لك كذلك :

فرج الله عليك دنيا وآخره كما فرجت علىّ همومي بحديثك هذا ،

ووالله لن أكون مبالغاً لو قلت أنك غسلتني بكلامك هذا غسلاً قلبياً كاملاً

وها أنا اشعر بأني غير الإنسان الذي كنت قبل قليل .

قال صاحبه ، وقد ندت عيناه بالدموع :

ذلك فضل الله وله الحمد والمنة والشكر

وإذا بقيت لي كلمة فإني أهمس في أذنك قائلاً :

لقد انفتح أمامك طريق لسعادة الدنيا والآخرة ،

وعليك أن لا تغفل عنه ، ولا تلتفت إلى غيره ،

ولذا قيل : عامل الله وأبشر بخير ،

ارتبط بالله سبحانه دائماً أبداً وإياك الغفلة عنه .

ويصح لك الآن أن تناجي الله سبحانه بقول القائل :

إليك ، والاً لا تشد الركائبُ *** ومنك ، والاً فالمؤملُ خائبُ

وفيك ، والاً فالغرام مضيع *** وعنك ، والاً فالمحدث كاذبُ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.