السؤال
( العدو هجم على بلاد المسلمين واستباح كل شريف لديهم ، وليس لديهم القدرة على دفعه ، ألا يكفي ذلك كون الجهاد فرض عين علينا جميعاً ؟).
والجواب:
أنه لابد أن يعلم أن الجهاد كغيره من العبادات لابد له من شروط وأركان وواجبات حتى يكون موافقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، تماماً كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وبغير ذلك يكون مخالفاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ومردوداً على صاحبه، ومن تلكم الشروط القدرة على الجهاد، فقد جاءت الأدلة متكاثرة على إناطة الجهاد بالقدرة، وهي أدلة عامة وخاصة.
فمن الأدلة العامة قوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)(البقرة: من الآية286) وقال سبحانه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: من الآية16)، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". فهذه الأدلة عامة في كل الواجبات ومنها الجهاد.
وأما الأدلة الخاصة بالجهاد والدالة على اشتراط القدرة له، فمنها قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) (النساء: من الآية77) وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالجهاد في أول الأمر لعدم قدرته عليه، قال ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية: كان المؤمنون في ابتداء الإسلام -وهم بمكة – مأمورين بالصلاة والزكاة، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسباً لأسباب كثيرة، منها: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم،… فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء لائقاً، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة، لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار".ا.هـ
وقال تعالى: (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال: من الآية66) قال ابن كثير عند هذه الآية في تفسيره: "عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين، وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائةٌ ألفًا، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) الآية، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدو لهم، لم ينبغ لهم أن يفروا من عدوهم، وإذا كانوا دون ذلك، لم يجب عليهم قتالهم، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم". ا.هـ
ولو لم تكن القدرة شرطاً للجهاد لما كان لهذا التعيين بالعدد أي معنى.
وقال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (لأنفال: من الآية60)، ولو لم تكن القدرة شرطاً للجهاد لما أمرنا الله بالإعداد لهم، وليس أي إعداد كافٍ، كما يفهمه بعض الناس، بل لابد من إعداد يرهب العدو، لا أن يُجرِئهم، كما هو الحال في كثير من الأحيان.
ومما يدل على أن القدرة شرط في الجهاد ما جاء عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: "ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فقال: يوحي اللَّهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ" أي اصعد بهم إلى الجبل ولا تقاتل هؤلاء الكافرين، فهذا أمر من الله لعيسى عليه الصلاة والسلام أن يصعد ومن معه إلى الجبال ونهاه عن القتال، وذلك بسبب ضعفهم بالنسبة لعدوهم المحتل!!
قال ابن تيمية رحمه الله: "لمّا أتى الله بأمره الذي وعده من ظهور الدين وعز المؤمنين؛ أمر رسوله بالبراءة إلى المعاهدين وبقتال المشركين كافة وبقتال أهل الكتاب ((حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى اللذين أمر الله بهما في أول الأمر، وكان إذ ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية، وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه، فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت آية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه.
وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون آخر عُمُر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة، لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام؛
فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين.
وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" ا.هـ الصارم المسلول ( 2/ 413 )
إذا تقرر ذلك، علمُ أن ضعف المسلمين يسقط عنهم الجهاد الواجب، كما كان حال المسلمين في أول الإسلام، في مكة، وفي المدينة أول الهجرة فإن الكفار كانوا يعذبون بعض المسلمين وقتلوا بعضهم، ومع ذلك لم يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً، حتى صار له قوة ومنعه.