تقسيم دولة المغول الكبرى
نستطيع أن نقول أن المغول قد ورثوا ديار الإسلام من أقصى الشرق إلى حدود المنطقة العربية وحدود وسط أوروبا، وهي منطقة شاسعة مترامية الأطراف، لذالك وضع ‘جنكيزخان’ نظاما خاصا فى تقسيم هذه الامبراطورية الواسعة، حيث قسمها بين أبنائه من زوجتة الأولى على النسق التالي:
الابن الأكبر جوجى : بلاد روسيا والقوقاز وبلغاريا وما يفتحه من غرب المعمورة.
الابن الثاني جفطاي : بلاد الأوبجور وتركستان الغربية وبلاد ما وراء النهر.
الابن الثالث تولوي : خراسان وفارس وبلاد العرب وآسيا الصغرى.
الابن الرابع أوغطاي: بلاد المغول ‘منغوليا الآن’ والصين وتركستان الشرقية وما يفتحه من شرق المعمورة.
وكان من المقرر أن يكون ‘جوجي’ الابن الأكبر لـ ‘جنكيزخان’ هو الخليفة بعد موت أبيه، ولكن الطاغية ‘جنكيزخان’ شعر بطموحات ‘جوجي’ واستعجاله لنيل المنصب بعد أبيه فدس عليه من قتله وعين بدلا منه أخاه ‘أوغطاي’ في منصب ولي العهد.
القبيلة الذهبية
هذا هو الاسم الذى أطلق على أسرة ‘جوجي’ وممتلكاتها وما عرفوا به تاريخيا، وكانت أسرة ‘جوجي’ مميزة بين باقي الأسر فقد كانت لهم ثلث الغنائم التي يحصل عليها التتار في حروبهم.
وكان للإسلام بالغ الأثر فى نفوس أبناء ‘جوجي’ ويرجع السبب في ذلك لأن أباهم ‘جوجي’ تزوج من الأميرة ‘رسالة بنت خوارزم شاه’ التي وقعت في الأسر وهي أخت السلطان جلال الدين ‘منكبرتي’ آخر سلاطين الدولة الخوارزمية، مع مراعاة أن هذا الزواج باطل ولا ينعقد أصلا لكفر ‘جوجي’، وأغلب الظن أنها كانت سبية مكرهة معذورة، والدليل أن ‘رسالة’ هذه ظلت محافظة على إسلامها وشعائرها، وإلا ما تأثر بها أبناء ‘جوجي’ حتى دخل بعضهم في الإسلام كما حدث مع بطلنا هذا.
من هو بركة خان ؟
هو السلطان العظيم والتتري الأول ناصر الدين أبو المعالي ‘بركة خان بن جوجي بن جنكيزخان’ حفيد الطاغية الدموي الذي روع العالم في القرن السابع الهجري ‘جنكيزخان’، وهو أحد سبعة أبناء لجوجي وهم ‘باتو، أوردا، شوبان، بركة – بطلنا -، جمتاي، بركجار، توقاتيمر’ وكان الابن الأكبر ‘باتو’ قد ورث منصب أبيه وأصبح زعيما للقبيلة الذهبية، والتي تعد أولى قبائل التتار إسلاما وأكثرها تعاطفا وتأدبا مع المسلمين.
وبسبب تعاطف ‘باتو’ مع المسلمين في بلاده أخذ النصارى خاصة الرهبان والقساوسة في بلاد المغول، وكان لهم دور وتأثير كبير على الحرب المروعة على بلاد الإسلام، في تحريض الزعيم الكبير للتتار ‘كيوك بن أوغطاي’ لمحاربة ‘باتو’ قبل أن ينتشر الإسلام في كل ربوع الشمال .
وتوفي ‘باتو’ سنة 650 هجرية وخلفه من بعده في رئاسة القبيلة الذهبية ابنه ‘حرتق’ الذي لم يعش طويلا حتى توفي وانتقلت الرئاسة لعمه البطل المقدام ‘بركة خان’ وذلك سنة 653 هجرية .
دخل ‘بركة خان’ الإسلام سنة 650 هجرية وكان من قبل محبا ومتأثرا بالإسلام بسبب امرأة أبيه ‘رسالة’ وقد التقى ‘بركة خان’ في مدينة ‘نجارى’ مع أحد علماء المسلمين واسمه ‘نجم الدين مختار الزاهدي’ وكان بركة عائدا لتوه من زيارة عاصمة المغول ‘قرة قورم’ وأخذ ‘بركة’ في الاستفسار عن الإسلام من هذا العالم المسلم وهو يجيبه بكل وضوح وسلاسة، فطلب بركة منه أن يؤلف له رسالة تؤيد بالبراهين رسالة الإسلام وتوضح بطلان عقائد التتار والتثليث وترد على المخالفين والمنكرين للإسلام، فألف ‘الزاهدي’ الرسالة ودخل ‘بركة خان’ الإسلام إثر قرائتها عن حب واقتناع وإخلاص ورغبة عارمة في نصرة هذا الدين.
أهم أعمال ‘بركة خان’
لم يكن دخول ‘بركة خان’ الإسلام كدخول آحاد الناس بل دخل الإسلام بطلا ملكا سلطانا لقبيلة تترية، والتتار وقتها هم الكابوس المفزع للبشرية جمعاء وللمسلمين خاصة، لذلك جاءت أعمال هذا البطل العظيم على نفس المستوى الفائق من المسؤلية والقيادة، وتحول هذا السلطان الوثني إلى جندي من أخلص جنود الإسلام شديد الحب والتفاني في نصرة الدين وأهله، حيث ضرب أروع الأمثلة في الولاء والبراء وهذه طائفة من أهم أعمال ‘بركة خان’ في نصرة الإسلام.
أولا: مبايعة خليفة المسلمين
بعدما أعلن ‘بركة خان’ إسلامه كان أول ما فعله أن أرسل ببيعته للخليفة العباسي ‘المستعصم’ ببغداد، وهذا الإجراء رغم أنه بسيط وبه كثير من الشكلية؛ لأن خليفة المسلمين وقتها لم يكن له أى نفوذ حقيقي إلا على مساحة ضيقة من الأرض، إلا أنه يعطي صورة واضحة جلية نحو ولاء ‘بركة خان’ لسلطان المسلمين وانضواءه تحت جماعة المسلمين.
ثانيا: إظهار شعائر الإسلام
ثالثا: غيرته على المسلمين
نظرا لأن ‘بركة خان’ قد دخل الإسلام بحب واقتناع وإخلاص، فلقد تجمعت معاني العقيدة الصحيحة ومقتضيات لا إله إلا الله فى قلبه وجاءت ردود أفعاله وغيرته على الإسلام والمسلمين لتذكرنا بمواقف الصحابة رضوان الله عليهم والرعيل الأول من سلف الأمة، فقد كان ‘بركة خان’ شديد الغيرة على الإسلام والمسلمين.
وقد ظهرت هذه العقيدة بوضوح عندما فكر الطاغية ‘هولاكو بن تولوي بن جنكيزخان’ في الهجوم على بغداد بعدما كاتبه الخائن الرافضي ‘ابن العلقمي’ وزير الشؤن ببغداد وطلب منه الحضور، وكان ‘مانغو بن تولوي’ أخو ‘هولاكو’ هو الخان الأكبر لجميع التتار، وقد نال هذا المنصب بمساعدة قوية من ‘باتو’ الأخ الأكبر ‘لبركة خان’.
وحاول ‘هولاكو’ إقناع أخيه الأكبر ‘مانغو’ بهذه الفكرة، وبالفعل وافق ‘مانغو’ على الفكرة ورحب بالهجوم على باقي بلاد المسلمين، وبدأ ‘هولاكو’ في الإعداد لذلك، وما أن وصلت الأخبار إلى ‘بركة خان’ حتى التهبت مشاعره وأسرع إلى أخيه ‘باتو’ وألح عليه فى منع الهجوم على المسلمين وقال له: [إننا نحن الذين أقمنا ‘مانغو’ خانا أعظما وما جازانا على ذلك إلا أنه أراد أن يكافينا بالسوء فى أصحابنا ويخفر ذمتنا ويتعرض إلى ممالك الخليفة وهو صاحبي وبينى وبينه مكاتبات وعقود ومودة وفي هذا ما لا يخفى من القبح].
وبالفعل أقتنع ‘باتو’ تماما بكلام أخيه وبعث إلى هولاكو يكفه عما ينويه من قتال المسلمين؛ وبالفعل أجل ‘هولاكو’ الهجوم على المسلمين حتى وفاة ‘باتو’.
رابعا : محالفته للمماليك
العجيب في إسلام ‘بركة خان’ هذه الحالة الإيمانية الفائقة وترسخ عقيدة الولاء والبراء في قلبه، وتجلي ذلك في كل مواقفه التي كانت تنبع من أصل هذه العقيدة السليمة النقية.
فقد دخل ‘بركة خان’ في حلف مع المماليك الذين بهروا العالم عندما انتصروا على التتار في موقعة ‘عين جالوت’ سنة 658 هجرية، وكثرت المراسلات والاتصالات بين السلطان ‘بيبرس’ و ‘بركة خان’ وكان لها أثر كبير في توجيه ‘بركة خان’ لحرب ‘هولاكو’ وأن هذا الأمر من مقتضيات الولاء والبراء.
وبالفعل اتفق ‘بركة خان’ و’بيبرس’ على محاربة ‘هولاكو’ وكتب ‘بركة خان’ برسالة إلى ‘بيبرس’ يقول له فيها: [قد علمت محبتي للإسلام وعلمت ما فعل هولاكو بالمسلمين، فاركب أنت من ناحية حتى آتيه أنا من الناحية الأخرى؛ حتى نهزمه أو نخرجه من البلاد، وأعطيك جميع ما كان بيده من البلاد].
فالله الله على ‘بركة خان’؛ ولاء وبراء، مع تجرد وإخلاص، مع جهاد وزهد في الدنيا، وهكذا يكون الأبطال الذين تسطر أخبارهم بماء الذهب.
خامسا : محاربته لهولاكو والتتار
لم يكتف ‘بركة خان’ بمناصرة المسلمين والدخول في جماعتهم وحلفهم ولكن طبق عقيدة الولاء والبراء بشقيها وفي أنقى صورها، فلقد انقلب حربا ضروسا على التتار الوثنيين عموما وعلى ‘هولاكو’ خصوصا حيث لم ينس ‘بركة خان’ ما فعله ‘هولاكو’ بالخلافة العباسية أبدا عندما اكتسح هولاكو بجحافله بغداد.
فقد حاول ‘بركة خان’ بشتى الوسائل أن يوقف هذا المد الجارف الذي ينذر بمحو الإسلام من الوجود، ولكن لأن معظم جنوده كانوا لا يزالون على الوثنية فقد رفضوا الانصياع لأمره بمحاربة ‘هولاكو’ لأنهم بذلك سيخالفون الخان الأعظم للتتار والذي قد وافق على الهجوم الهولاكي على بغداد.
فأخذ ‘بركة خان’ في اختلاق الذرائع والحجج لإشعال الحرب ضد ‘هولاكو’ ووجد ضالته فى مسألة الغنائم حيث كان من عرف ‘جنكيزخان’ القديم أن أسرة ‘جوجى’ لها ثلث الغنائم التي يحصل عليها التتار جميعا في أي معارك يخوضونها.
وبالقطع لم تكن الغنائم دافعا لـ’بركة خان’ بل كان حبه للإسلام ورغبته في مقاتلة ‘هولاكو’ الطاغية فأرسل ‘بركة’ رسلا من طرفه وأمرهم أن يشتدوا ويغلظوا على ‘هولاكو’ في السؤال، وبالفعل نجحت الحيلة واستشاط ‘هولاكو’ غضبا وقتل رسل ‘بركة خان’ وسير جيشا لمحاربة ‘بركة خان’ فانهزم جيش هولاكو شر هزيمة وذلك سنة 660 هجرية، فعاود الهجوم مرة أخرى بجيش أكبر فانهزم جيش ‘بركة خان’ وكان يقوده أحد قواده واسمه ‘نوغاي’، فأراد ‘هولاكو’ أن يجهز بالكلية على ‘بركة خان’ فأرسل جيشا جرارا فيه معظم جنوده يقودهم ابنه الخبيث ‘أباقا’، فخرج لهم ‘بركة خان’ بنفسه على رأس الجيش ومزق جيش هولاكو شر تمزيق سنة 661 هجرية في منطقة القوقاز ولم ينج منهم سوى القليل.
سادسا : تفريقه لوحدة التتار الوثنيين
عندما يكون للمرء هدف يعمل من أجله ويحيى في سبيل الوصول إليه فإنه عادة ما يصل إليه بإذن الله عز وجل، وبطلنا ‘بركة خان’ كان يحيى من أجل نصرة الإسلام ومحاربة أعدائه، لذلك نجده يعمل من أجل هذا الهدف على عدة محاور، فهو يحالف المسلمين المماليك ويحارب بني جلدته من التتار، وعمل أيضا على محور شديد الخطورة وذلك بذكاء ودهاء محمود للوصول إلى تفتيت دولة التتار الوثنية وإضعافها.
فقد استغل ‘بركة خان’ خروج الخان الأعظم ‘مانغو’ لقتال بعض الخارجين عليه ومعه أخاه ‘قبلاي’ وترك أخاه الأخر ‘أرتق بوكا’ مكانه لتسيير الأمور لحين عودته، فاستغل ‘بركة خان’ وفاة ‘مانغو’ فى الطريق لإثارة الفتنة بين ‘أرتق بوكا’ و’قبلاي’، حيث اتفق الجند والأمراء على تولية ‘قبلاى’، فأرسل ‘بركة خان’ إلى ‘أرتق بوكا’ بقوة عسكرية لمنازعة أخيه ‘قبلاي’ على منصب الخان الأعظم، وحرض أيضا أسرة ‘أوغطاي’ على مساعدة ‘أرتق بوكا’ ووقعت الحرب بينهما سنة 658 هجرية وذلك قبل معركة ‘عين جالوت’ بقليل مما جعل هولاكو يعود مسرعا من الشام لفض النزاع.
واستمرت الحروب عدة سنوات، وكان ‘بركة خان’ في نفس الوقت يقنع ويحث كثيرا من جنود ‘هولاكو’ بالشام على الدخول في الإسلام والانضمام إلى جيش ‘بيبرس’؛ وبالفعل أقنع الكثيرين منهم وتحولوا إلى حرب ‘هولاكو’.
أما ‘هولاكو’ فوجد أن كل البلايا والمعارك التي حدثت له وللتتار جميعا كان سببها ‘بركة خان’ فاشتد غيظه وحقده على ‘بركة خان’ وحاول محاربته عدة مرات ولكنه هزم شر هزيمة مما أشعل الغيظ في قلبه حتى وصت نيران غيظه إلى عقله وجسده، فأصيب بجلطة فى المخ بعد وصوله خبر هزيمة ولده ‘أباقا’ أمام ‘بركة خان’ سنة 661 هجرية وظل يعاني من الصرع حتى هلك الهالك ‘هولاكو’ سنة 663 هجرية، فانتقم ‘بركة خان’ للإسلام والمسلمين من هذا المجرم الطاغية الذي دمر دولة الخلافة الإسلامية وسفك دم الملايين من المسلمين.
رحيل البطل
ظل ‘بركة خان’ طوال حياته مجاهدا مناصرا للإسلام والمسلمين في كل موطن وعلى عدة محاور، تشغلة قضية الإسلام وتلتهب مشاعره ويهتز قلبه من أجل خدمة هذا الدين، لذلك كان من الطبيعى أن يموت هذا البطل على درب النصرة والجهاد، فبعدما هلك الطاغية ‘هولاكو’ من شدة الغيظ والحقد على ما جرى على يد ‘بركة خان’ ورث مكانه ابنه ‘أباقا’ وورث عنه أيضا حقده وحسده على ‘بركة خان’ خاصة أن ‘بركة’ قد هزمه هزيمة كبيرة سنة 661 هجرية، لذلك كانت محاربة ‘بركة’ هي أولى خطوات وقرارات ‘أباقا بن هولاكو’.
وبالفعل أعد ‘أباقا’ جيشا جرارا لمحاربة ‘بركة’ وأرسل ‘بركة’ أولا قائده ‘نوغاي’ ولكنه هزم وأصيب بسهم في عينه، وكان ‘بركة خان’ يحب ‘نوغاي’ لإسلامه وجهاده معه في كل موطن، فخرج ‘بركة خان’ بنفسه للقاء ‘أباقا’ وفي نيته محاربة عدو الإسلام وإزالة هذا الفرع الخبيث من شجرة التتار التى بدأت تتحول للإسلام شيئا فشيئا.
وفى الطريق أتاه اليقين وتوفي البطل العظيم مجاهدا مناصرا سنة 665 هجرية بعدما قضى حياته الحقيقية، خمسة عشر سنة، فى خدمة الإسلام ومحبة المسلمين ومحاربة أعداء الإسلام حتى مات رحمه الله وبلل بالمغفرة ثراه على نية الجهاد، ولم يكن له أولاد ولم يترك ذرية ولكنه ترك سجلا حافلا في العمل للدين والفهم الصحيح لعقيدة الولاء والبراء، حتى أن السلطان المملوكي الظاهر ‘بيبرس’ قد سمى ولده الأكبر ‘بركة خان’ حبا في شخصية هذا البطل العظيم والذى وبمنتهى الأسف والأسى لا يعرفه معظم المسلمين الآن.
[ المصادر ]
1. الكامل فى التاريخ ‘لابن الأثير’
2. البداية والنهاية ‘لابن كثير’
3. سير أعلام النبلاء ‘الذهبى’
4. فتوح البلدان ‘البلاذرى’
5. التاريخ الإسلامى ‘محمود شاكر’
6. موسوعة التاريخ الميسرة ‘مجموعة من الباحثين’
7. أطلس تاريخ الإسلام ‘حسين مؤنس
كتبه للمفكرة شريف عبد العزيز
جزاكم الله خيرا على المرور والتعقيب