الخطأ الأول : إهمال علاج الخطأ والتهرب من التصحيح
الخطأ الثاني : ردة الفعل وعلاج الخطأ بخطأ آخر
الخطأ الثالث : رفض التصحيح العلني للأخطاء جملةً
الخطأ الرابع : المثالية
الخطأ الخامس : التعذر بالبشرية
الخطأ السادس : الإسقاط والتبرير وغيرها
الخطأ السابع : الخطأ في مقاييس تحديد الخطأ
الخطأ الثامن : الخطأ في التعامل مع مسائل الاجتهاد
الخطأ التاسع : افتراض التلازم بين الخطأ والإثم والضلال
الخطأ العاشر : إهمال البعد الزمني في تصحيح الخطأ
الخطأ الحادي عشر : إحراج الواقع في الخطأ
الخطأ الثاني عشر : أن نفترض المخطئ خصماً
الخطأ الثالث عشر : المبالغة في تصوير الخطأ
الخطأ الرابع عشر : الحديث عن طرف واحد من المخطئين
الخطأ الخامس عشر : البحث عن الخطأ والفرح به
الخطأ السادس عشر : التمحل في إثبات الخطأ
الخطأ السابع عشر : إهمال محاسن الرجل
الخطأ الثامن عشر : الحديث عن الخطأ ومظاهره دون الحديث عن الأسباب والعلاج
الخطأ التاسع عشر : اعتبار تصحيح الأخطاء وحده هو منهج التربية
مقدمة
الحديث عن الأخطاء ليس حديثاً غريباً، سواءً أكان الحديث من خلال منهج منضبط أم غير ذلك، ومن يتحدث عن الأخطاء لابد أن يجد أمامه رصيداً ضخماً؛ لأن البشر أياً كان إيمانهم وتقواهم وعلمهم لابد أن يقعوا في الخطأ والذنب والتقصير، فضلاً عن الخطأ الآخر الذي هو ليس إثماً ولا ذنباً، إنما هو خطأ من قبيل الاجتهاد الذي يؤجر عليه صاحبه أجراً واحداً؛ لأن المجتهد إذا أخطأ فله أجر.
إذاً فما دام الخطأ صفةً ملازمةً للبشر باعتبار كونهم بشراً ابتداءً، فإننا بحاجة إلى الحديث عن منهج علاج الأخطاء، خاصة ونحن نرى الأخطاء أمام ناظرينا، ونحتاج أن نضبط هذا المنهج الذي نعالج به الأخطاء حتى لا نشتط ونقع في الخطأ ونحن نعالج الخطأ، إننا بحاجة إلى أن نحذر من الوقوع في الأخطاء حين نعالج أخطاءنا، سواءً كانت أخطاء تجاه أنفسنا – فالمرء يدرك الخطأ والتقصير على نفسه ويسعى إلى تصحيحه وعلاجه- أو كانت أخطاؤنا في الميادين التربوية من خلال الأسرة أو المدرسة أو أي مؤسسة تربوية .
ونحن أيضاً بحاجةٍ إلى انضباط المنهج في التعامل مع الأخطاء في أخطائنا العامة التي تقع في مجتمعاتنا والتي نسعى إلى علاجها، وبحاجة إلى رسم المنهج في علاج أخطاء المجتمعات الإسلامية، وفي علاج أخطاء الناس، وفي علاج أخطاء الصحوة الإسلامية .
ونحن نقول هذا لأننا نرى جميعاً أننا نرتكب أخطاءً باسم علاج الخطأ وباسم التصحيح وربما كان هذا الخطأ أكثر شناعةً وأكثر خطأً من الخطأ الأول وذلك راجع إلى افتقاد المنهج.
إن من يسعى إلى تصحيح الخطأ قد يتصور أن حسن مقصده، وسلامة نيته كاف في انضباط منهجه فيرى أنه مادام يريد الإصلاح و النصح والعلاج فهذا وحده كاف في أن يرفع عنه اللوم والمحاسبة ويؤهله أن يقول ما يشاء وأن يفعل ما يريد وأن يرتكب ما يحلو له باسم تصحيح الخطأ، لأنه ناصح ويريد الإصلاح ويريد الخير، ولئن كانت النية الحسنة وحدها ليست كافية في سلامة أي عمل وأي قول فهي أيضاً كذلك في تصحيح الخطأ . والنصيحة ليست مناط السلامة ولا النية وحدها ومن ثمّ كنا بحاجة إلى الحديث عن منهج تصحيح الأخطاء والوقوف عند بعض أخطائنا التي نقع فيها ونحن نعالج الأخطاء وربما كانت أكثر خطأً وأشد نتاجاً من الخطأ نفسه الذي حاولنا علاجه وإزالته، وسنطوف وإياكم في هذه القضايا أمام ميدان واسع رحب.
فسنتحدث تارة عن أخطاء أنفسنا، وتارة عن علاج الأخطاء التي تقع في المؤسسة التربوية الأولى – الأسرة -، وتارة في الأخطاء التي تقع في المؤسسات التربوية الأخرى ـ المدرسة وغيرها ـ، وتارة نتحدث عن المجتمعات وعن الصحوة، ولا جامع لهذا الحديث إلا أنه حديث عن الأخطاء في معالجة الأخطاء.
ومن هذه الأخطاء التي نرتكبها في التعامل مع الأخطاء :
الخطأ الأول: إهمال علاج الخطأ والتهرب من التصحيح:
وهو أسلوب قد يسلكه المرء مع نفسه، فيمارس حيلاً لا شعورية يتهرب فيها من المسؤولية ومن تحميل النفس بالخطأ، ويرفض أن يواجه بخطئه أو أن يقال له أخطأت، فهو يرفض النقد جملةً وتفصيلاً تصريحاً وتلميحاً، إشارةً أو عبارةً .
إننا لابد أن نقع في الخطأ في ذوات أنفسنا أو في أعمالنا في مؤسساتنا التربوية، أو على مستوى مجتمعاتنا ككل أياً كانت أعمالنا وجهودنا.
وحينئذٍ لابد من المصارحة والوضوح والاعتراف بالخطأ. ورفض الحديث عن الأخطاء أوالنقد إنما هو استسلام للخطأ وإصرار عليه، إنه لا يليق بالمرء أن يرفض المصارحة مع نفسه ومناقشة أخطائه ونقدها، أو يتّهم النقد الموجه له من الآخرين، وكذلك لا يسوغ لنا داخل مؤسساتنا التربوية أن نرفض المراجعة والتصحيح.
إن من حقنا بل من واجبنا أن نتحدث عن الأخطاء – ولابد أن تقع أخطاء – التي يقع فيها الأب تجاه تربيته لأبنائه حديثاً واضحاً صريحاً، وعن الأخطاء التي تقع فيها الأم في تربيتها لأبنائها وبناتـها.
ومن حقنا بل ومن واجبنا أن نطلب المراجعة لمناهجنا التربوية، سواءً كانت في المؤسسات التعليمية أوالتربوية. ومن حق أي ناقد مخلص أن يطالب بالتصحيح وأن ينتقد وأن يبدي وجهة نظره في مناهج التربية وبرامجها داخل المؤسسات التربوية الرسمية أو غيرها.ومن حقنا داخل قطاع الصحوة أيضاً أن نرفع أصواتنا وأن نطالب بإعادة النظر والتصحيح ومراجعة البرامج التربوية تارة بعد أخرى.
والتهرب من النقد ومن المراجعة، واتـهام من ينتقد إنما يعني الإصرار على الخطأ واعتقاد العصمة للنفس . فلابد أن نتربى ونربي غيرنا، وأن تتربى مجتمعاتنا على أن تكون لغة النقد البناء لغة سائدةً بين الجميع، وعلى أن يكون الحديث عن الأخطاء حديثاً لا تقف دونه الحواجز ولا العوائق، مادام ذلك داخل إطار النصيحة وداخل إطار النقد البناء.
منقووووووووووووووووووووووول
يتبع الخطأ الثاني
وهذا غالباً ما ينشأ عند زيادة الحماس لمواجهة هذا الخطأ ولنضرب على ذلك أمثلة في الواقع الشخصي:
أولاً: في واقع الإنسان نفسه فقد يكتشف الإنسان خطأً في نفسه وحينئذٍ يدعوه الحماس إلى تصحيح هذا الخطأ؛ فيتعامل مع نفسه بردة فعل، ويتعامل مع هذا الخطأ بخطأ آخر ربما كلف نفسه مالا يطيق، وربما وقع في خطأ آخر مقابل لهذا الخطأ فعلى سبيل المثال :
حين يكتشف المرء مثلاً أنه مقصر في طلب العلم الشرعي ويرى أن أقرانه قد فاقوه وسبقوه، فيسعى إلى تصحيح هذا الخطأ، ويرسم لنفسه برنامجاً طموحاً برنامجاً لا يطيق أن يصبر على بعضه فضلاً عن أن يطيقه كله، وحين يبدأ التنفيذ ويخوض الميدان يصطدم بالواقع، ويرى أن ثمة مسافة هائلة بين المثال والواقع، بين تلك الصورة التي رسمها لنفسه والتي كان يتطلع إليها، وبين ما كان يمكن أن يصل إليه من قدر من التصحيح، وحين يصل إلى هذه الحال فإنه في الأغلب لا يعود إلى التوازن مرة أخرى حتى وهو يصحح هذا الخطأ . إذاً فيجب أن نحذر الحذر الشديد حين نحاول تصحيح أخطاء أنفسنا من الوقوع في ردة الفعل التي قد توقعنا في الغلو والمبالغة، أو قد توقعنا في خطأ آخر في الطرف المقابل كإهمال واجبات وحقوق أخرى، وما أكثر ما نقع في ذلك وكل هذا ناشئ عن ردة الفعل، وربما يكون هذا الخطأ الذي وقعنا فيه أشد من خطئنا الأول وقد يكون أيضاً تجاه أعمال الآخرين.
ويدل لذلك حديث الأعرابي المعروف الذي بال في المسجد فهو هنا قد وقع في خطأ، فأراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يعالجوا هذا الخطأ لكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يعالجوا الخطأ بخطأ آخر .
بل القضية تتعدى ذلك حين تكون ردة الفعل مسؤولة عن رسم المناهج أصلاً فكم نرى من مناهج للتغيير يراهن أصحابها عليها ويرون أنه لا منهج لتغيير الأمة إلا هذا ولا طريق إلا هذا الطريق وأي امرئ يسلك غير هذا الطريق بل أي امرئ لا يتطرف هذا التطرف الذي يتطرف به أصحابه فهو ضال منحرف زائغ لا يملك التأهل لإنقاذ الأمة والتغيير.
وحين تتأمل في هذا المنهج كله تراه لا يعدو أن يكون ردة فعل تجاه خطأ آخر ولا نريد أن نضرب الأمثلة فهي واضحة، لأن ضرب الأمثلة قد يثير بعض الحساسية خاصة في الحديث عن مناهج التغيير والمناهج الدعوية لكن أنت لو تأملت الواقع ووضعت أمامك قائمة من مناهج التغيير المطروحة في الساحة لرأيت أن عدداً منها لا يعدو أن يكون ردة فعل لعلاج خطأ في مناهج أخرى.
وحينئذٍ فالموقف الذي تتحكم فيه ردة الفعل بشكل واضح الغالب أن يقع في خطأ آخر مقابل الخطأ الأول وربما كان أشد خطأً منه.
وكلل بالتوفيق مسعاك
هناك أخطاء ينبغي أن تصحح من خلال قنوات خاصة وطرق شخصية وسرية، لكن ثمة أخطاء ومنكرات وقضايا لابد أن يُتحدث عنها وتعالج تحت ضوء الشمس وبوضوح.
ومناط الأمر في ذلك كله إنما يعود أولاً وأخيراً إلى المصلحة الشرعية، فحيث تقتضي المصلحة الشرعية علاج هذا الخطأ سراً وبطريقة شخصية فإنه ينبغي أن يعالج كذلك.
وحيث تقتضي المصلحة الشرعية علاج هذا الخطأ بصوره علنية واضحة فحينئذٍ الطريقة المثلى هي هذه الطريقة، والأمر يدور مع المصلحة الشرعية ولاشك أننا قد نجد داخل هذه الدائرة مجال اجتهاد في بعض الجوانب لكن أن نرفض التصحيح العلني للأخطاء جملة فهذا منهج مرفوض، وهو ناشئ أصلاً من عقدة رفض النقد ابتداءً .حيث قد تربينا على رفض النقد، وتربينا على اعتبار أن النقد والحديث عن الأخطاء يعني في الضرورة الضلال والتأثيم والفشل والعداوة إلى غير ذلك من اللوازم التي نربطها بتصحيح الخطأ.
لكن لو كنا تربينا على أنه يمكن أن ننتقد وأن نتحدث عن الخطأ بوضوح، وأن هذا لا يعني الفشل ولا يعني الإثم ولا يعني أن تكون لنا مقاصد مغرضة، و أنه يمكن أن يكون هناك حديث ونقد بناء عن الخطأ مع حسن النية وسلامة المقصد؛ لاستطعنا أن نبني منهجاً سليماً للنقد يمكن أن يستفيد منه الجميع.
ونحن نرى ونقرأ مثلاً في الصحف كثيراً من المقترحات ونقد بعض الأوضاع في المجتمع والمطالبة في التصحيح، فنرى من يطالب بزيادة اليوم الدراسي، ونرى من يطالب بإضافة مادة من المواد أو بتقليص أخرى، والجميع يتحدثون ولا أحد يرى أن في مثل هذا الحديث طعناً في المناهج التربوية واتهاماً لها بالفشل والقصور وعدم الوفاء بمتطلبات العصر، بل الجميع يرون أنه يمكن أن نتحدث ونقترح وليس بالضرورة أن يكون حديث كل امرئ حديثاً صواباً صحيحاً، ثم ليس بالضرورة أن يكون كل حديث عن الخطأ إنما هو حديث مقرون بسوء النية والمقصد، لكن حين يتحدث المصلحون عن المطالبة بالتصحيح يواجهون بألوان من الإرهاب الفكري، والمحاصرة للكلمة، من الصادقين ابتداءً قبل غيرهم فيقال : إن في هذا الكلام طعناً واتهاماً وإثارةً للبلبلة إلى غير ذلك من تلك الأوصاف التي يوصف بها الناصحون.
إن مجتمعات المسلمين تعاني من أزمات ومشكلات أياً كانت هذه الأزمات وهذه المشكلات، ولنأخذ مثلاً مشكلة ( المخدرات ) مشكلة تعاني منها مجتمعات المسلمين أجمع، والدليل على هذا أنك لا ترى دولة من دول المسلمين إلا وفيها جهاز أمني متكامل لمكافحة المخدرات، وهذا يعني بالضرورة أن هناك مشكلة اسمها (مشكلة المخدرات ) ويتحدث عنها في الصحف، ووسائل الإعلام، ويكتب عنها تحذيراً من الوقوع فيها، ومحاولات حثيثة لعلاج من وقع فيها إلى آخر المقاصد التي تدفع للحديث عن هذه المشكلة، ونرى أن باقي مشكلات مجتمعات المسلمين هي الأخرى شأنها شأن هذه المشكلة، ينبغي أن نتحدث عنها بوضوح وأن نتحدث عن حجم هذه الظواهر وعن انتشارها في المجتمعات فلماذا تكون عندنا حساسية مفرطة عندما نتحدث عن انتشار بعض المشكلات في مجتمعات ما ؟
قد يقال : إن في هذا تشكيكاً في المجتمع، وإثارة للبلبلة، وطعناً في المجتمع إلى غير ذلك، ولم يقل أحد من الناس إن تخصيص أجهزة خاصة في مكافحة المخدرات ومواجهتها أن هذا يعني اتهام المجتمع في أنه غارق في ظاهرة المخدرات.
وحين نعود إلى تاريخ الأمة نرى أنها بنت منهجاً واضحاً للنقد الواضح العلني، ولم تر أن ذلك يعني الطعن ولا التشكيك، خذ مثالاً رائعاً من تاريخنا عندما قام أحد الرعية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يخطب الناس على المنبرـ وقد كان خليفة ـ فيواجهه في الحديث عن الخطأ علانية، و عمر رضي الله عنه يناقشه حتى يقتنع الجميع وتحصل الحادثة نفسها مع معاوية رضي الله عنه ـ وهو خليفة ـ ونرى تلك الاختيارات الفقهية التي اختارها ـ مثلا ـً عمر رضي الله عنه أو اختارها عثمان، أو علي، أو غيرهم حول جمع المصاحف أو حول متعة الحج، أو حول الإتمام في الحج، أن كل هذه الاختيارات واجهت انتقاداً وواجهت حديثاً علنياً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يرون أنهم لا يزالون إخوة، والجميع – المنتقِد والمنتقَد، المتحدث عن ما يرى أنه خطأ، والآخر الذي يقع فيما يرى أنه خطأ – يرون أنهم لم يتجاوزوا سياج الأخوة .
ونرى مثلاً أبا سعيد الخدري رضي الله عنه ينكر على مروان ؛ حين كان والياً على المدينة وقد قدّم خطبة العيد على الصلاة فيقول له ـ في محضر من الناس ـ : ( خالفت السنة يا مروان ).
ونرى من ينكر على بشر بن مروان، حين حرك يديه في الخطبة، ويخبر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يزيد على أن يشير بالسبابة ).
وحين ندعو إلى إهمال هذا التصحيح، وإهمال الحديث عن التصحيح العلني، والحديث عن الأخطاء؛ فإن هذه دعوة إلى إلغاء كل التراث الذي حفظ لنا، التراث الذي يتحدث عن انتقاد المبتدعة، وأسمائهم، وأخطائهم، وانتقاد مناهجهم، وهذا يدعو إلى أن نصادر كل حدث، أو رواية أو موقف قام فيه أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو قام به سلف الأمة، أو من تلاهم بعد ذلك من الناصحين، أن نصادر هذه الروايات، وأن نغض طرفاً عنها، وأن لا نخرجها للناس؛ لأن هذه تربي الناس على الحديث العلني عن الخطأ ؛ بل لعل هذا المنهج أن يدعونا إلى التعسف في تأويل نصوص صحت عنه صلى الله عليه وسلم واضحةً وضوح الشمس، فقد بايع صلى الله عليه وسلم أصحابه على السمع، والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أن يقولوا بالحق حيث كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه واجب على كل مسلم أن يقول بالحق حيث رآه، أو علمه، وأن ينكر المنكر حيث رآه، ونهى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تمنع هيبة الناس آمراً أن يقول بحق رآه، أو علمه.
إذاً فنحن حين نكون واقعيين ومنطقيين، فإنه خير لنا أن نبني منهجاً سليماً للنقد يتحدث عن الأخطاء تحت ضوء الشمس، ويتحدث عن الأخطاء علانيةً لكن يكون هذا محاطاً بسياج المصلحة والحكمة بعيداً عن مقصد الإثارة والتشكيك واتهام النوايا.
وذلك أن نكون مثاليين؛ فنطلب من أنفسنا، أومن أبنائنا، أو بناتنا أو حتى من مجتمعاتنا أو من جيل الصحوة صورة مثالية.
ونحن حين نرسم هذه الصورة نحاسبهم عليها، فالأم ـ مثلاً ـ كثيراً ما تعاتب أطفالها وربما تعاقبهم على أخطاء لابد أن يقع فيها الطفل مادام طفلاً، فحين يأتي الطفل ويعبث ببعض أثاث المنزل، أو يعمد إلى آنية فيكسرها، أو يسيء إلى أحد إخوانه الصغار، تعاتبه الأم وتعاقبه وربما كانت العقوبة شديدة وهي تطلب منه أن يكون منضبطاً مثالياً فلا يسيء إلى إخوانه الصغار ولا يعبث بالتراب ولا يعبث بالأثاث، ولا يرفع صوتاً ولا يبكي ولا، ولا… إلى آخر هذه القائمة ولو راجعنا بحق تعاملنا مع أبنائنا وبخاصة الصغار لرأينا أننا مثاليون كثيراً فنطلب منهم صورة مثالية لا يمكن أن يصلوا إليها، وبناءً على هذه الصورة التي نرسمها نحاسبهم عليها .
وقل مثل ذلك في الدعاة إلى الله عز وجل وطلبة العلم والشباب الأخيار، فالمجتمع ينظر إليهم ويطلب منهم صورة مثالية، بل إننا كثيراً ما نطلب منهم أن يكونوا معصومين، فنطلب منهم التجرد عن ذواتهم، والارتفاع عن كل ما يقع فيه بشر، وحين نرسم في أذهاننا صورة للعامي وأخرى لطالب العلم، وأنه ينبغي أن يكون على هذه المواصفات، وصورة ثالثة للشاب المسلم وهي صورة مثالية، صورة نظرية أخذناها بعيداً عن الواقع الذي نعيشه، وبعيداً عن الواقع البشري، حين نرسم هذه الصور فإننا سنحاسبهم عليه، ويترتب على هذا أن نعتبر من الأخطاء ما ليس كذلك، وأن نرى أن الأخطاء التي هي طبيعية أصلاً، أو نرى أن التصرفات الطبيعية التي لابد أن تصدر من البشر نراها أخطاءً، وقل مثل ذلك في الطالب، فالأستاذ قد يرسم صورة مثالية للطالب فيرى أنه ذاك الطالب الذي يلتزم بالأدب التام فلا يسيء الأدب مع أستاذه، في استئذانه، وحديثه، ولا يسيء الأدب مع زملائه، ولا يمكن أن يتأخر عن أداء الواجب يوماً من الأيام ولابد أن يفهم ما يلقى عليه فهماً سليماً، ولا يسوغ له أن ينشغل عن الدرس، ولا أن يلهو، أو يتأخر عن الحضور إلى الفصل، أو يغيب، أو تصيبه عوارض، إلى آخر تلك المثاليات…
ثم يرسم هذه الصورة ويحاسب تلميذه بناءً عليها ويطلب من التلميذ أن يعيش في جوٍ مثالي ، والأستاذ نفسه ربما وقت الطلب لم يصل إلى جزء مما يطالب تلامذته أن يصلوا إليه، وحين يكون الأستاذ والمربي واقعياً في التعامل مع من يربيه فهو حينئذٍ لابد أن يأخذ في الذهن أنه يتعامل مع بشر تعتريهم عوارض النقص والغفلة والنسيان والهوى، عندئذٍ سيضع الأخطاء في إطارها الطبيعي وحجمها المعقول .
وهذا أمر صحيح، فإن البشر لابد أن يقعوا في الخطأ لكن ليس هذا عذراً نضرب به في وجه كل من يطالب بالتصحيح، وحين نقول هذا العذر فإننا ينبغي أن نقوله ونحن أولاً :نحمل العزيمة والإرادة الجادة والاستعداد للتصحيح ، ثم ثانياً : نحن على استعداد لأن نتحمل تبعة هذا الخطأ .
ولو أن إنساناً يسير في الطريق فسنطالبه بأنظمة المرور وأن يكون منتبهاً، وأن يترك مسافة بينه وبين السيارة التي أمامه، لكن الإنسان بشر قد ينشغل مثلاً فتقف السيارة أمامه فجأةً فيصطدم بها، وحين يطالبه ذلك الشخص بأن يتحمل مسؤولية الخطأ الذي وقع فيه وأن يقوم بإصلاح سيارته فإنه لا يقبل منه بحال أن يعتذر عنه بأنه بشر والبشر قد ينسى وقد يسهو وقد يغفل…
نعم قد يفعل ذلك كله لكن عليه أن يتحمل تبعة الخطأ الذي وقع فيه؛ فيقوم بإصلاح ما أفسد ولهذا فإن الخطأ الذي يقع من الإنسان ويترتب عليه تلف في أموال الآخرين أو أبدانهم لا يعذر فيه أبداً بالخطأ، فقتل الخطأ مثلاً يطالب الإنسان فيه أن يدفع الدية، وقل مثل ذلك في الإتلاف لو أتلف مال غيره خطأ فهو مطالب بالضمان مع أنه بشر، وقيمة الخطأ هنا أنه رفع عنه الإثم لكن بقي أن يتحمل تبعة الخطأ .
المقصود أننا يجب أن نتوازن فلا نطلب من الناس المثالية، ولا ندافع عن أخطائهم ونسوغ أخطاءهم بحجة أنهم بشر، فقد نرى –على سبيل المثال- الأب كثيراً ما يعتذر عن ابنه بأنه مراهق وأن هذا شأن الشباب، وقد نرى مثلا أيضاً أستاذاً يعتذر عن حال طلابه بأنهم مراهقون، وهكذا نعتذر عن الخطأ، وربما نعتذر عن الكبائر بحجة أن من يفعلها بشر وبحجة أنهم يعيشون في عصر مليء بالفتن والمغريات إلى غير ذلك.
قد نعترف بالخطأ؛ لكننا لا نحمل أنفسنا مسؤولية الخطأ فنحاول مثلاً أن نحمل غيرنا الخطأ أو نحاول أن نبحث عن أسباب وعوامل وهمية نعلق عليها مسؤولية الخطأ وقد تحدثنا عن هذه القضية في درس بعنوان ( دعوة للمصارحة) فلا نريد أن نطيل فيها.
الخطأ السابع : الخطأ في مقاييس تحديد الخطأ:
عندما نقول إن هذا الأمر خطأ فعلى أي أساس اعتبرنا أن هذا الأمر خطأ ؟ فمثلاً قد نعتبر الخروج عن المألوف خطأ، فمن يأتي بشيء جديد مخطئ لا لشيء إلا لأنه جاء بأمر جديد لم نألفه وأظن أن هذا المنطق منطق مرفوض من الجميع، وهذا منطق عقلية الذين يرفضون التجديد، والمنطق نفسه هو الذي قاد قوماً من الناس إلى أن قالوا (إنا وجدنا آباءنا على أمة).
أيضاً أن يكون المقياس مثلاً قول فلان من الناس ؛ فنعتبر أن من خالف قول فلان من الناس أياً كان شأنه ومكانته فهذا خطأ، ونعتبر أن فلاناً هذا هو الحاكم على أقوال الناس، وعلى أعمال الناس، فإذا قال أحد قولاً يخالف قوله فهذا يعني أنه خطأ، وحين يقول قولاً فمن أقرّ به صوبناه، ومن خالفه خطأناه بل وحاسبناه على ذلك، وهذا منهج مرفوض تحدث عنه أئمة الإسلام، وممن تحدث عن ذلك شيخ الإسلام في مواضع كثيرة ومما قاله في ذلك :
" وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد أنت أعلم أم الإمام الفلاني ؟ كانت هذه معارضةً فاسدةً؛ لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة، ولست أعلم من هذا ولا من هذا ولكن نسبة هؤلاء إلى الأئمة كنسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأُبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم…" إلى آخر كلامه.
يعني أنه عندما يقول فلان من الناس قولاً يخالف قول هذا الرجل الذي جعلته حكماً فإنه وإن خالف قول هذا الرجل الذي هو أعلم منه وأتقى منه، إلا أنه قد وافق غيره ممن هو أعلم من هذا العالم الذي نصبته حاكماً على أقوال الناس وعلى آرائهم.
وقال أيضاً : " قال الله تعالى: ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله)، وقال: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول) فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة، ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم، ولا أمير، ولا شيخ، ولا ملك، فالحكم فيها للكتاب والسنة" .
وهذا منطق المقلد ومنطق الإرهاب الفكري، حين نحتج على الناس بأن هذا القول يخالف قول فلان أو يخالف ما قرره فلان ؛ فليس من أحد كائناً من كان حجةٌ على هذه الأمة ؛ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يجادل ويحاج ويخطِّئ الناس ينبغي أن يجادل ويحاج بالمنطق والدليل والبرهان الشرعي.
الخطأ الثامن : الخطأ في التعامل مع مسائل الاجتهاد:
وذلك أن هناك مسائل هي مسائل اجتهاد، الأمر فيها سائغ وقد اختلفت الأمة فيها ولا يزال الخلاف فيها إلى أن تقوم الساعة، وحين نعمد إلى تخطئة الناس في هذه المسائل، وربما التشنيع و الإغلاظ عليهم فإن هذا منهج مرفوض وقد تحدث الأئمة عن ذلك في باب الإنكار.
قال ابن قدامة : "لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العملَ بغير مذهبه فإنه لا إنكار في المجتهدات ".
وقال الإمام النووي :" ثم العلماء لا ينكرون إلا ما اجتمعت عليه الأمة، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه " .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " بل المجتهد المخطئ لا يجوز ذمه بإجماع المسلمين " فما بالكم بما هو أعلى من الذم كالاتهام بالضلال والانحراف والخلل في المنهج إلى غير ذلك بحجة أنه خالف في مسألة من مسائل الاجتهاد ـ
وقال أيضاً : " مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه " .
والأقوال عند الأئمة في ذلك محفوظة مشهورة مدونة . إن مسائل الاجتهاد -وهي التي ليس فيها دليل صريح من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم -لا يسوغ أن ينكر على الناس فيها ونخطئهم ونؤثمهم، خاصةً إذا انطلقوا من خلال اجتهادهم أياً كان هذا الاجتهاد، بل إننا نرى مثلاً أن هناك من يحول بعض مسائل الاجتهاد إلى أصول وإلى منهج، فيقيم الناس من خلاله ويضللهم ويخطئهم ويؤثمهم عليه.
ولنضرب على ذلك مثالاً حتى تكون الصورة واضحة : بعض الأخوة العاملين في المراكز الصيفية يقوم ببعض الأنشطة المستحدثة المعاصرة والتي اختلف أهل العلم في حلها وحرمتها، أو مشروعيتها أو عدم مشروعيتها وعل سبيل المثال ( قضية التمثيل وغيرها.. ).
ولا نريد أن نخوض في هذه المسائل، لكن أياً كان الرأي الذي نصل إليه فهي مسائل اجتهاد ليس فيها نصٌ صريح، واضح، يقطع بحرمتها، وعدم مشروعيتها، أو يقطع بالعكس.
ولئن كان الأمركذلك وتوصلت أنت إلى قناعة تامة أدت بك أن تتيقن في أن قولك حق، فيجب أن تضع في ذهنك وتتصور أن هناك من أهل العلم الذين لا يقلون عنك علماً وورعاً قد قالوا بخلاف ذلك، وهذا لا يعني بالضرورة أن قولهم أصوب منك، لكنه يعني أن القضية دائرة في مجال الاجتهاد، فلماذا تقام معارك حول هذه القضية ونجعلها قضية منهج؟ بل إنك ترى وتجد بعض الناس يجعل أن من منهج الدعوة تحريم التمثيل، أو يقول إن بعض الناس عندهم خلل في منهج الدعوة، ذلك أنهم يقعون في التمثيل إلى غير ذلك، وبناءً على ذلك فلا يمكن لهؤلاء أن يصلحوا الأمة أو يفعلوا خيراً وأنهم آثمون .
والحق أنه لا يأثم ما دام قد استند إلى اجتهاد أو فتوى للمعتبرين من العلماء، وغاية ما يقال فيهم أنهم اجتهدوا فأخطأوا وهكذا يكون تحديد مقياس الخطأ .
بل هناك من يشن حرباً مثلاً على بعض هذه الأنشطة، ولو ناقشته وجدت أن السبب هو هذه القضية، وقل مثل ذلك في قضايا أخرى، وكلها ناشئة عن ضيق العطن حول مسائل الاجتهاد، وحول التعامل معها.
وقد يبحث البعض مسألة من مسائل الاجتهاد ويستقصي أدلتها ؛ فيتضح له أن الأدلة الشرعية تدل على هذا القول، فمن حقه أن يصل إلى هذه القناعة، أو يتبنى هذا الرأي أو يعلنه للناس، لكن ليس من حقه أن يصادر اجتهادات الآخرين ويسفه قناعتهم بحجة أن هذا هو مقتضى الكتاب والسنة، وهذا هو ما تؤيده الأدلة الشرعية فالمعرض عنه معرض عن الكتاب والسنة، والرافض له رافض لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهو إما مقلد أو صاحب هوى.
وكم تقذف لنا المطابع ودور النشر من كتاب يبحث مسألة من مسائل الاجتهاد اختلف السلف فيها ولكلِ قولٍ مرجحٌ من الأئمة المعتبرين، فتقرأ في مقدمة الكتاب أو البحث الذي استقصى فيه صاحبه أن هذا البحث جاء ليضع النقاط على الحروف في هذه المسألة المعضلة التي كثر الجدل حولها وطال، ويبحث صاحبنا فيجيّر كل القواعد الحديثية، والفقهية، والأصولية لصالح ما توصل إليه.
ونحن لا نعترض أبداً على بحث هذه المسائل والاستقصاء فيها ونقاشها، لكن أن يصور الباحث للناس أن هذا البحث جاء ليقطع في هذه المسألة ويضع النقاط على الحروف، فأظن أن هذا منهج مرفوض.
من حقك أن تقضي ساعات طويلة لتقرير قولك؛ بل تؤلف وتناظر عليه، لكن ينبغي أن تحترم اجتهادات الآخرين، وينبغي أن ترى أنه مع ذلك لا تزال هذه المسألة مسألة اجتهاد.
وقد نرى الصورة تتكرر في مجال آخر فقد يأتي ـ مثلاً ـ بعض الناس إلى تحقيق كتاب لأحد الأئمة ويرجح مثلاً هذا الإمام ـ كابن القيم ـ قولاً في مسألة اجتهادية تخالف ما يراه الأخ المحقق فيضع حاشية صفحات طويلة يسرد فيها الأدلة ويقرر فيها أن المؤلف وهم رحمه الله باختيار هذا القول، وأنه خالف الصواب، والقضية قضية اجتهاد.
وليس من حق المحقق أبداً الاعتراض على هذا الإمام في ترجيحه، والقارئ إنما اشترى هذا الكتاب لأنه من تأليف ابن القيم لا أنه من تأليف فلان من الناس، واقرؤوا الكتب المحققة لتروا مثلاً الكثير ممن يحقق يملأ لك صفحات هائلة في الحواشي في مناقشة المؤلف والإمام في مسألة اجتهادية ربما كان الحق فيها مع المؤلف.
وأظن أنه ليس من التوازن العلمي ولا الترشيد في التأليف والكتابة أن تجد في المكتبات الإسلامية عشرات الكتب حول مسألة اجتهادية وربما كانت سنة من السنن، في حين أن هناك قضايا أهم منها تستحق التأليف والجدل والمناظرة ولكنها تهمل وتطوى.