تخطى إلى المحتوى

سوف تلهو بنا الحياة .وتسخر 2024.

——————————————————————————–

سوف تلهو بنا الحياة… وتسخر

انتهى الجمهور من التصفيق، وبدأ عزف منفرد على آلة البيانو. لحن متوسط السرعة، يمتزج فيه بعض الحزن مع كثير من الذكرى. كنت ما أزال أسير في الممر باتجاه المدخل. تجنبت أن أنظر إلى عيني صديقي، أفرغت جيوبي من علب الدخان واتجهت مباشرة-كالعادة- إلى المطبخ الصغير لتحضير فنجانين من القهوة السادة.
"أَراكَ عَصِيَّ الدَمعِ شيمَتُكَ الصَبرُ أَما لِلهَوى نَهيٌ عَلَيكَ وَلا أَمرُ" …
– كيف أنت؟
رد على سؤالي بابتسامة خفيفة، وأشعل سيجارة جديدة.
حتى لو كنت مصاباً بالصمم، كان وجهه الذي كبُر بحزنه بعض سنين، وحنينه الذي أرجعه سنوات عشر إلى الوراء، يكفيان لأدرك …
"إِذا اللَيلُ أَضواني بَسَطتُ يَدَ الهَوى وَأَذلَلتُ دَمعاً مِن خَلائِقِهِ الكِبرُ" …
عدّل من جلسته، وشعرت عندها بالخوف من سؤاله الذي لم يطرحه بعد. ترعبني تلك الأسئلة التي تثيرها هذه الأجواء، أو تلك الأجواء التي تثيرها أسئلته.
"مُعَلِّلَتي بِالوَصلِ وَالمَوتُ دونَهُ إِذا مِتَّ ظَمآناً فَلا نَزَلَ القَطرُ" …
– هل ستحب مرة أخرى؟
لا أدري ما الذي أثار فيّ حالة جنونية من الضحك…
– لا.
لم يكتفي بِـ "لا" وظلت عيناه وصمته يحاصراني.
– بعد كل تلك الخسائر، والآمال المذبوحة، وأحلام كانت يوماً كل ما تملك وأصبحت أنت كل ما هي تملك، صعب أن تختار الاستسلام لحبٍ جديد.
– " صعب أن تختار مرة أخرى الاستسلام لحبٍ جديد؟"
– أنا لم أقل "مرة أخرى"!
" فَقُلتُ كَما شاءَت وَشاءَ لَها الهَوى" …
– في الحالة العشقية الأولى تترتب جميع الأحداث والتفاصيل ولا يكون لك خيار إلا الفرح ببعضها، والحزن لكثير منها، فما أنت إلا بطل في رواية كتبها غيرك، قمّصك الدور المناسب ليورثك في النهاية الحنين الكافي لتقضي باقي عمرك تحزن.
– وإذا كان لك الخيار الآن؟
" فَقالَت لَقَد أَزرى بِكَ الدَهرُ بَعدَنا فَقُلتُ مَعاذَ اللَهِ بَل أَنتِ لا الدَهرُ" …
– سأختار أن لا أعود.
– أنا لم أقصد ذلك!
– الحب تماماً مختلف، فبعد عشقك الأول تفقد احترافك وعفويتك الأولى لتصبح أقل خبرة، تطلب الأشياء على عجل.
– ولو فرضاً …؟
– بعد ذلك تحترف الهرب، أو على الأقل تستطيع أن تختار الهرب.
"هذه ليلتي وحلم حياتي بين ماضٍ من الزمانِ وآتِ" …
– أو الاختباء؟
– قد يكون كذلك.
"بعدَ حينٍ يبدلُ الحبُ داره والعصافيرُ تهجرُ الأوكار" …
شعرت أن عليّ – بخبث- أن أكسر جليد الحنين الذي أصابنا، سألته:
– بما أننا، أنا وأنت، فيزيائيان، ما احتمال أن تتكرر حالة عشقية أولى مرتين، حسب مبادئ فيزياء الحب؟
ضحك بجنون ورشف المتبقي في فنجان قهوته وسحق عقب سيجارته في المنفضة …
– سأذهب لأجالس طفلي الصغير… والوحيد.
"سوفَ تلهو بنا الحياةُ… وتسخرْ"

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.