هذا موضوع ، أحسبه سينال إعجابكم ، ويحظى برضاكم ،
وأحسبكم ستجدون فيه ما يثلج قلوبكم ، وتقر به عيونكم ،
وأسأل الله أن ينفعكم به ، وترون أثره وبركته حين يقوم كل منكم بين يدي
الله عز وجل للصلاة ..
فإذا أنت تعيش حالة روحية فريدة تهز قلبك هزا ..
فأرجو أن تقرأ هذا الموضوع بتدبر وعناية وتركيز .. واحتسب هذه الدقائق لله
سبحانه ،
فإني على ثقة أنك ستخرج منها بغنيمة باردة ، ، وأجر وافر ، وزاد عظيم
بل إني أتوقع أن تجد لذة خاصة للصلاة إذا قمت إليها بين يدي مولاك سبحانه
..
لأنك ستجد نفسك ( لأول مرة ) خارج الكرة الأرضية ..
تنظر إلى الدنيا من بعيد جدا ، فلا تراها ، مهما حاولت أن تحدق !!
وإليك الموضوع فأجمع قلبك خلال قراءته ، وانظر أثره في نفسك للتو..
واحتفظ به وعاود النظر إليه بين الحين والحين ..
وتذكر هذه المعاني وأنت تقف بين يدي الله سبحانه .. دعواتي لك بالتوفيق .
.. أفضل أن تصور الموضوع أولاً ، لتقرأه من ورقة بين يديك ..
وليتك تعاونني على نشره وتوزيعه ما استطعت إلى ذلك سبيلا ..
لتكون شريكا معي في الأجر .. فالدال على الخير كفاعله ..
– – – –
الموضوع في مكان التعقيب .. فاربط الحزام جيداً ..
فإنك توشك أن تغادر مجال الكرة الأرضية كلها
قال الشيخ الجليل _ وهو يحدثنا عن بعض ذكرياته _ :
تعرفت على شاب في أول طلبي للعلم .. كان له بالغ الأثر على نفسي ..
كانت معرفتي بهذا الشاب رحمه الله أن حدثني يوماً حديثاً أخذ بمجامع قلبي
كله ، فعلى كثرة ما سمعت من هنا وهناك ، وعلى كثرة ما قرأت ، غير أني لم
يشدني شيء مثلما شدني هذا الشاب يومها ..
أقبل عليّ وأنا جالس في ركن من أركان المسجد ، وكانت معرفتي به لا تزال في
بداياتها ، وجلس إليّ بعد أن ألقى السلام ، وتجاذبنا أطراف الحديث ، ثم
قال :
قرأت حديثاً شريفاً يخبر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من توضأ
وضوءاً صحيحاً ، ثم صلى في خشوع وخضوع ، غُفر له ما تقدّم من ذنبه .. بادرت
أقول له : أحفظ هذا الحديث بسنده ..! ..
فابتسـم ثم قال : اسرده عليّ فكلماته تشرح نفسها ، وتفيض بمعانيها .
قلت كأنما أقرأ من كتاب : عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها ، وركوعها ،
إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ، ما لم تؤت كبيرة ،وذلك الدهر كله )
رواه مسلم .
تهلل وجه صاحبي وهو يقول :
أحسنت ، أحسنت بارك الله فيك .. ثم قال : حين قرأت هذا الحديث جمعت أمري
مع نفسي على أن أحقق ذلك بتمامه ، لاسيما ونحن في شهر مبارك له مزية خاصة ،
وفيه نفحات ربانية كثيرة _ كنا في العشر الأوائل من شهر رمضان _
قال : ما إن انقدحت هذه النية في قلبي بقوة ، حتى استشعرت أن فجراً رائعاً
قد أشرق في شغاف قلبي ، فقلت في نفسي : هذه الأولى ، وما أحلى وأروع هذه
البشرى .. إنه إحساس عجيب بأن إضاءة واضحة قد حدثت ،لمجرد النية الصادقة ،
فاهتز لهذه الملاحظة قلبي ، وتهللت معها روحي ..
وفي أثناء غسل أعضائي بماء الوضوء ، حدث شيء عجيب آخر :
لقد انثالت على عقلي أحاديث كثيرة في فضل الوضوء ، مثل الحديث المشهور :
( أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرات ، هل يبقى من درنه (
أي وسخه وقذره ) شيء ؟ قالوا : لا يبقى من درنه شيء . قال : فذلك مثل
الصلوات الخمس ، يمحو الله بهن الخطايا ) .. وأحاديث أخرى ..
فما راعني _ لحظتها إلاّ وأنا أستشعر شعوراً حقيقياً قوياً لا أعرف كيف
أعبر لك عنه ، شعرت أنني لا أغتسل بماء الناس العادي ، الذي يعرفونه ،
ولكنني هذه المرة أغسل أعضائي بالنور ، بالنور الخالص مباشرة ..!
ولذا فقد كنت أشعر شعوراً عجيباً أن قلبي _ لحظتها _ كان يغتسل غسلاً
شديداً بأنوار السماء لا بماء الأرض …! فقلت في نفسي : وهذه الثانية ..
ثم أقبلت على صلاتي وماء الوضوء لا يزال يقطر من أعضائي ..
وفي اللحظة التي كنت أقف فيها في المحراب جمعت قلبي كله في يدي ، ووضعته
على أعتاب الله عز وجل ،
وقبلها بقليل ، كنت قد جمعت الدنيا _ كل الدنيا ، بما فيها ومن فيها _
جمعتها في يدي ووضعتها تحت قدمي . ..!!
ثم شرعت أقول ( الله أكبر ) أمد بها صوتي ، فوجدت لهذه الكلمة صدى عجيباً
في نفسي هذه المرة ، لم أكن أتذوّقه خلال سنوات طويلة من ترديده بقلب لاهٍ
غافل ، قلت في فرح : وهـذه الثالثة .
إن الأحاسيس والمشاعر والمعاني والأنوار التي كنت أتشربها وأتذوقها في تلك
اللحظات الربانية ، من خلال تلاوة القرآن الكريم وفي لحظات الركوع والسجود
، كانت فوق وصف الواصف ، ويعجز اللسان عن التعبير عنها ، ويقصر كل بيان من
الوفاء بها ،
ولذا فما أسرع ما قفزت إلى ذاكرتي تلك الحكمة المُشرقة التي تقول :
كفى جزاء على الطاعة ، ما الله مورده على قلوب المقبلين عليه من أنوار
وأمداد ولذاذات روحية لا يعرفها إلاّ أهلها ..فقلت في نفسي : وهذه الرابعة ..
ولذا فلا عجب أن أشعر لحظتها أنني قد انتقلت إلى خارج الكرة الأرضية ،
فإذا بي أركع وأسجد وأتلو وأدعو فوق سحابة بعيدة عن الأرض كلها ، فلا عين
لمخلوق يمكن أن تصل إليّ ، ويعجز خيال بشر أن يتخيّل أين أكون لحظتها ..!
وكنت أثناء الركوع والسجود أرمق بطرف عيني على جانبي ، فإذا فراغ هائل
سحيق ، وفضاء ممتد رهيب ، والنور يحيط بي من كل مكان ، وعرفت ساعتها أن
التعلّق بالدنيا وشهواتها هو باطل الأباطيل ، وقبض ريح ، ومتاع غرور ، وليس سوى
وهم ، وركض في غير طائل ، وتعب وعناء للإمسـاك بما لا يمكن المسك به ..!
وعدت إلى نفسي فقلت : وهذه الخامسة ..
ولما بلغت جلسة التشهد ، وأخذت وضعية التورك فيها ، وشرعت في ( التحيات
المباركات والصلوات لله… ) كنت أحسب أن نوراً كان يخرج من بين شفتيّ لا مجرد
كلمات وحروف مما اعتاد الناس أن يخرجوه من أفواههم …! فقلت : وهذه السادسة
..
في تلك اللحظة حدث أمر عجيب دار له رأسي كله ، وانتفض بدني ، وذرفت له
عيناي بدمعات حارة شقت لها مسيلاً على طول وجهي ،
ولكنها دمعات في الوجه ، وأثرها لا يقع إلاّ في القلب مباشرة ،
ولو أني أقسمت ساعتها ، أن قلبي كان يغتسل بطريقة ربانية عجيبة ومثيرة ،
أحسها إحساساً مباشراً ، لو أني أقسمت على ذلك ما حنثت ولا كذبت ..!
فكانت هذه هي السابعة ..
الذي حدث هو : لقد حانت مني نظرة إلى الفضاء الرحب تحتي ، فأخذت أدور في
هذا الفضاء السحيق أبحث عن نقطة صغيرة بين هذه الملايين الكثيرة من النقاط
التي ملأت الفضاء كله ، كنت أبحث عن نقطة تُسمى .. تسمى ( الكرة الأرضية
..!) ،
ولما خيّل لي أنني عثرت عليها ، كدت أن أطير من الفرح ، وشرعت أتفحص فيها
بدقة ، وانقّب لعلي أرى _ بعينيّ المجردتين _ هذا العالم الكبير الذي تضج
فيه الشهوات ، ويكاد أهلها أن يخرجوا من عقولهم بسببها ..
أخذت أبحث بعناية عن الدول العظمى _ ولا عظيم إلا الله _ ناهيك عن الدول
الصغرى ، وأخذت أنقّب عن آبار البترول ، وترسانات الأسلحة المختلفة ،
وعن هوليود ومفاسدها ، وعن الطواغيت والفراعنة الصغار ، وعن الظلمة
والمتكبرين ، وعن المنتفشين المغرورين ، وعن الجيوش الجرّارة في كل مكان
وعن الشهوات الهائجة الطاغية ، وصويحباتها من الكاسيات العاريات ،
وعن أصحابها من قاصري العقل ، ومطموسي البصيرة ، الذين يتقّذفون بسببها في
النار وهم يضحكون ،
كما أخذت أبحث عن الفضائيات والأقمار الصناعية ، وما تتقيأ به على عقول
الناس من أقذار ومفاسد ،
كما أخذت أنقّب عن الوسط الفني في هذا العالم العريض وعن أولئك النجوم ،
الذين أفسدوا دنيا الناس وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ..!!
وعن .. وعن ..وعن ..وعن أشياء كثيرة لا تزال تبهر أكثر الخلق ..
وهالني للغاية أنني لم أعثر على شيء من هذا كله ، فلما استيأست ، ونفضت
يدي يأساً ، سمعت صوتاً مهيباً جليلاً يملأ الفضاء كله ، غير أنه يصل إلى
أذني هادئاً ناعما شجياً مؤثراً ، سمعته يقول :
إنك لن تجد شيئاً مما تبحث عنه ، لأنك تبحث في المكان الخطأ .. !!
قلت في فزع : أليست هذه هي الكرة الأرضية التي ملأها الناس بالشرور
والفساد والإفساد ؟!
قال الصوت بعد لحظة صمت خلتها دهراً : كلا .. ثم سكت ..
فسارعت أسأل في لهفة : بالله عليك ألا أخبرتني عن هذه النقطة التائهة في
هذا الكون الفسيح ..؟
قال الصوت : هذه هي المجرة ..! المجرة التي تضيع فيها مجموعتكم الشمسية
كلها ، أما أرضك فهي بداخلها عدم في العدم ،ولذا فيستحيل أن تصل إليها
بعينيك ، فلا تتعب ، ودع الخلق للخالق ….!
وارتجف بدني كله بطريقة مثيرة ، ثم سألت : فما هذه النقاط المتناثرة في كل
مكان ؟
قال الصوت : كلها مجرات أكبر من مجرتكم ، وفي كل مجرة منها ملايين مملينة
من النجوم ، وهناك ما لا تراه عينك ،
وكل ذلك إنما هو زينة الحياة الدنيــا ، ثم تتوالى سبع سماوات ، كل سماء
أكبر من أختها ، بل كل سماء بالنسبة للأخرى كحلقة صغيرة في صحراء مترامية ،
والله جل جلاله من وراء ذلك يمسكه ويدبّره ويرعاه ، سبحانه جل في علاه …!
أحسست أن رأسي الصغير يدور بقوة وفي عنف ، وأنني أكاد أسقط لاسيما وقد
قفزت إلى ذاكرتي صورة هذا الإنسان الضعيف العاجز ، الهزيل ، وهو يعصي هذا
الإله العظيم الجليل ، ويصر أن يُعرض عن تعاليمه ، ليتعلق بأذيال الشيطان
وجنوده .. !
وسرعان ما وجدتني أردد ودمعاتي تسيل على وجهي :
.. (( يــا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسوّاك فعدلك .؟!))
(( قُتٍل الإنسان ما أكفره ! من أي شيء خلقه ؟ من نطفة خلقه فقدره ، ثم
السبيل يسره .. )) ..
وخرجت من صلاتي وأنا أهتز بحالة روحية حتى الذروة ، فلم أملك إلا أن أحمد
الله وأشكره وعيناي لا زالتا ممتلئتين بالدموع ، غير أني أحسبها دموع فرح
، ممتزجة بدموع خوف .. !
قال الشيخ : قلت لصاحبي وأنا أحاوره :
الآن فقـط أحسب أني أدركت معنى قول الحق تبارك وتعالى :
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر
.. وقوله عز وجل : (( ولذكر الله أكبر ))
فوالله لو أن الإنسان أقبل على صلاته بهذه الكيفية ، وذاق هذه اللذة
الروحية ، وانصبت في قلبه هذه المعاني السماوية ،
لأصبحت شهوات الدنيا _ مهما زخرفها الشياطين _ أحقر من أن يكلف نفسه
الالتفات إليها ، فضلاً عن الإعجاب بها والتسقّط عند أعتابها ، والركض وراء
سرابها
..وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ..
ثم سكت الشيخ لحظة وحدق في وجوهنا ثم قال :
ما على الإنسان إلاّ أن يُعرّض نفسه لنفحات الله عز وجل كل حين ، وأن
يجاهد نفسه في ذلك ولا ييأس حتى يتيسر له الطريق ، وما ذلك على الله بعزيز ..
(( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ))
– – – –
كفى جزاء على الطاعة ، ما الله مورده على قلوب المقبلين عليه من أنوار
وأمداد ولذاذات روحية لا يعرفها إلاّ أهلها ..
منقوووول
أسيرة الشام