صغيرة لم اتجاوز العاشرة من العمر عندما كنت أدرس في الصف الخامس الإبتدائي , هادئه وُضعت في شلّه لعوب , ماأن نسمع جرس الفُسحه حتى ننطلق كاأشعه شمس تغطي الساحات دفئا ونهارا , نتسابق نحو المقصف المدرسي للفوز أولاً بقطعه شوكولاته أو عصير سن توب أو شيبس بالكاتشب – قبل أن تمتلئ ساحه المقصف بالكم الهائل من البنات فتنتهي الفسحه ونحن ننتظر الدور – بعد ذلك نقضي بقيه الوقت باللعب الجماعي والصراخ الطفولي الذي يهزّ مكاتب المعلمات والإداره ويقضّ مضاجع سكّان البيوت المجاورة للمدرسه , نفرغ طاقاتنا كل يوم في هذه الفترة الزمنيه التي لاتتعدى الربع ساعه.
وفي يوم ما خرجت من الفصل متأخره وكان من سوء الحظ أني أنا من عليه الشراء اليوم – حيث سبق وأن عقدنا إتفاقيه بتوزيع مهمات الشراء بيننا نحن الصديقات الصغيرات – , فأضطررت أن أقتحم الزحام الذي يحوم حول شبّاك الشراء …. ولكن أنتهت الفسحه وانا لم أتزحزح من مكاني… بل من شدّه العراك فقدت الربطه التي أربط بها شعري الطويل آنذاك …. وربما سرقه علنيه .
في اليوم التالي قررت أن أستكشف هذا المقصف ومن يعمل فيه ؟ ولماذا هو يعمل بهذه الطريقه من الفوضى والزحام ؟؟ فتفاجات أن بنات صغيرات في مثل سنّي هن من يقمن بالبيع والتنظيم والتوزيع والترتيب وإحصاء المكاسب وعدّ الفلوس ! بينما تُشرف عليهن من بعيد إحدى المعلّمات .
تركت مرح الفسحه ولعب الفسحه , وبدأت بمراقبه عمل أولئك البنات , وأتسآئل كيف أن الفسحه تنتهي وثلاث أرباع بنات المدرسه يتعاركن حول فتحتي الشراء .. دون نتيجه غير إنتفاش الشعور وإحمرار الخدود ! كان شيء غير مريح التفكير بهذا الأمر , ولكنه فعلاً شغل بالي الصغير وبدأ الهمّ الإنساني يشتعل في داخلي.
تعرفت على إحدى البنات البائعات هناك , وبدأت أسألها كيف أستطاعت أن تعمل هنا ؟ فأخبرتني انها أبلى فلانه هي من توظف البنات أذهبي وتفاهمي معها . ذهبت إلى الإستاذه فلانه , وأخبرتها اني أريد ان اعمل في المقصف المدرسي , ضمتني إلى صدرها كثيرا ولازلت أتذكر الآن أمتلاء جسمها دون أن أتذكر حتى أسمها , المهم أنها قالت لي : ان هذا العمل فقط لطالبات السادس إبتدائي لانهن اكبر عمراً وأكثر تحملاً للمسؤوليه.
وبعد سنه … رجعت للأستاذه نفسها وعرضت عليها العمل , رحبت بي وسجلتني وأذكر انها نطقت بأسمي مع أنها لاتعرفني ولاأعرفها ….. وقالت سيكون عملك ثانويا في البدايه … ووافقت .
دخلت المقصف أخيراً , لازلت أتذكر ذلك الشعور المهيب الذي أجتاحني لحظتها , كل شيء أمامي مالذ وطاب من الأغراءات والحلويات والمشروبات , ايّ ثقه تلك التي وضعت على عاتقي ؟ كيف أستأمنوني على هذه الأشياء اللذيذه ؟ بدأت اتعرف على الأسعار والأصناف تدريجيا . أكثر ماأزعجني وقتها هن صديقاتي اللاتي تضايقن كثيرا من هذا الفراق المقصود.
بعد أسابيع أصبحت متمكنه جداً , ومتقنه لتفاصيل العمل , وبدأ لساني يعمل أيضا بالآراء والأفكار , ولكن رئيسه المقصف " ساره " كانت بنت غيوره جداً لاتعترف بغير رأيها ولاتتقبل أي أمر يصلها , وليت الأمر توقف على ذلك بل أن وزنها الثقيل كان يأخذ حيزاً لابأس به داخل المقصف الضيق. وبمرور الأيام أزدادت المشاكل وكاد المقصف ينفجر بسبب الغضب / العبث الطفولي داخله , بدأت تكيل التهم والشتائم وتحرض بنات المقصف ضدي , وتثرثر بي أمام معلمه المقصف . وكنت ألتزم الصمت .
وبعدما سئمت ويئست من ساره ومن الحديث معها الغير مجدي , توجهت مباشره للمعلمه واقترحت عليها الكثير الكثير من الأشياء وطلبت منها أن تجرّب أفكاري وترجيتها في ذلك……. ووافقت !
واعطتني صلاحيات لاتملكها أي بنت وقتها , وبدأت في تطبيق نظريتي المجنونه !
قمت بتوزيع طاولات في كل أنحاء ساحه المقصف , وكتبنا لوحه فوق كل طاوله , ( طاوله الحلويات ) ( طاوله المشروبات ) ( طاوله البطاطس ) ( طاوله السندويتشات ) ( طاوله العصيرات ) وهكذا ….
وعينت على كل طاوله بنت من بنات المقصف , واتينا بحصّالات نقود كبيره حيث تدخل الفلوس دون رجعه حفاظا عليها من السرقه والنهب .
أيضا وضعنا أعمده بجوار شباك المقصف ليترتب الطابور فردا فرداً .
وبعد أسبوع تحسن المردود المالي , وتحسّن نظام الشراء , وعمّت السعاده أرجاء البنات.
.
.
.
.
وانتهت تلك السنه الجميله , النشيطه , وقامت المدرسه بتكريم طاقم فتيات المقصف , بعلاقات من ذهب على شكل أعمده صغيره يعلوها فص من الذهب الملون .
عدا "رئيسه المقصف" !!
فقد كرموها بعلاقه من ذهب على شكل سفينه جميله!
نعم سفينه !
أتذكر لحظتها همست لي المديره بعينين حزينتين :
هذه السفينه لكِ وللزمن أبحري بها كلما ضاقت بكِ الأرض !!
.
.
.
.
.
ليتها تعرف أيّ إبحار أمارسه الآن !
__________________
الحياة : كوميديا لمن يفكر، تراجيديا لمن يتفاعل !
طائر بلا أجنحه
فعلاً طفله من ذهب والقصة جميله أخي الكريم وفقك الله
بداية طيبة وننتظر منك المزيد
ابداع يفوق الوصف
وقف قلمي عاجزا عن وصف ذلك الابداع
جزاك الله كل خير
شكرا لك اختي العزيزه طيف الظل
على مرورك الكريم وردك اللطيف الذي اخجل كلماتي المتواضعة
طائر بلا أجنحه
شكرا لك أختي اعز الحبايب
على تواصلك المستمرلموضوعي.. وأشكرا ايضاً على مرورك الكريم الذي ازدادت به المعاني شفافية ..
طائر بلا أجنحه
وفقك الله وننتظر المزيد
الاخت دفء الجفون
تسلمين على مرورك الكريم الذي نور متصفحي
تحياتي
طائر بلا أجنحه