ظاهرة التهاون بالمواعيد
الأسباب المشكلات العلاج
د. محمّد موسى الشريف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
جاء الإسلام العظيم بجملة من الآداب الإسلامية، وهذه الآداب الاجتماعية الواردة في كتاب الله وسنّة نبيه هي نسيج ملتئم متماسك يرتقي في سلّم المجد والعز.
ومن الآداب الإجتماعية المؤثرة : (أدب الوفاء بالمواعيد المضروبة)، وعدم التخلف عنها إلاّ بعذر قاهر صحيح مقبول، حتى يثق الناس بوعد البعض الآخر وكلامه وميثاقه وعهده.
المبحث الأول: التأصيل لقضية الإلتزام بالمواعيد المضروبة وعدم التخلف عنها:
أولاً: ما جاء في كتاب الله تعالى:
أمر الله تبارك وتعالى بجملة من العبادات وجعل الصلاة مثالاّ على ذلك فقال جلَّ من قائل : "إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً" (النساء:103)
فإذا صلّى المرء قبل دخول الوقت بثانية فكبّر ودخل في الصلاة فلا تقبل منه، وكذلك إذا أفطر قبل مغرب الشمس بلحظة فصيامه باطل،… وهكذا فدين يقيم عباداته وشرائعه على اللحظات لهو دين عظيم إذ يتربّى أتباعه على الدقّة والنظام، فحريٌّ بهم أن يكونوا أكثر أهل الأرض انضباطاً، لكن لما بعدنا عن دييننا وإسلامنا ظهرت فينا جملة وافرة من العلل منها هذه العلّة البغيضة : "علة تضييع المواعيد والتفريط فيها".
وقد رسم الشرع الحنيف التوقيت في تكاليف كثيرة غير الصلاة وما ذلك إلاّ لمعنى هام رتب الشرع التوقيت عليه، ولحظ المصلحة والنفع به.
وقال تعالى : "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً" (مريم:54)
وقد قيل إن إسماعيل لم يعِد شيئاً إلاّ وفّى به، فقد وعد رجلاً أن يلقاه في موضع، فجاء إسماعيل وانتظر الرجل يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء فقال له: ما زلت ها هنا في انتظارك منذ أمس، وقيل انتظرته ثلاثة أيام…
وقد جاء جملة آيات للوفاء بالوعد، نصاًّ أو إشارة ، فقال تعالى:
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" (المائدة:1)
"وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً " (الاسراء:34)
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ " (الصف:2،3)
ثانياً : ما ورد في سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :
لقد بيّن النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه رضي الله عنهم الإلتزام بالوقت دقائق وثواني بيانا عمليا، فقد حدد لهم أوقات الصلاة والصيام وأخبرهم بوقت موقف عرفة وهذا في زمان لم يكن يعهد عن العرب المحافظة على الثواني واللحظات هذه المحافظة الدقيقة فرباهم صلى الله عليه وسلم أن يصنعوه من أجل أن تصح عباداتهم، وذلك لما فيه من تعلّم النظام والدقة تعلّما ما كان العالم ليعرفه من نفسه إلا في العصر الأخير.
أما الاحاديث الواردة عنه عليه الصلاة والسلام : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب،وإذا ائتمن خان، وإذا وعد أخلف)
وقيل في قوله صلّى الله عليه وسلم :"اذا وعد أخلف": أنه محمول على من وعد وهو على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر.
المبحث الثاني : أقوال الفقهاء في حكم الإخلال بالوعد :
ثم ذكر الإمام السخاوي – رحمه الله تعالى – أن الإمام تقي الدين السبكي قال: قول لأصحاب: لايجب الوفاء بالشرط مشكل؛ لأن ظواهر الآيات والسنة تقتضي وجوبه، وإخلاف الوعد كذب، والكذب من أخلاق المنافقين، ثم رجح السبكي بعد كلام له في هذه المسألة وجوب الوفاء بالوعد.
قال الغزالي في "الإحياء" أن إخلاف الوعد إنما يكون كذباً إذا لم يكن في عزمه حين الوعد الوفاء به، أما لو كان عازماً عليه، ثم بدا له ألا يفعل فليس بكذب؛ لأنه حينئذ إخبار عما في نفسه، وكان مطابقاً له فيكون صدقاً له فيكون صدقاً.
المبحث الثالث : ما ورد عن السلف رحمهم الله تعالى من أخبار وأقوال في إنجاز الوعد:
كان السلف الصالح – رحمهم الله تعالى – يحرصون كل احرص على إنجاز ما وعدوا به والتزامه، حرصهم على كل أمور الخير، فهذا محمد بن سيرين – رحمه الله تعالى – يواعده ابن عبد ربه القصاب فيقول:
"واعدت محمد بن سيرين أن أشتري له أضاحي فنسيت موعده لشغل ثم ذكرت بعد، فأتيته قريباً من نصف النهار، وإذا محمد ينتظرني، فسلمت عليه فرفع رأسه فقال: أما أنه قد يقبل أهون ذنب منك، فقلت: شُغلت، وعنفي أصحابي في المجيء إليك وقالوا: قد ذهب ولم يقعد إلى الساعة، فقال: لو لم تجيء حتى تغرب الشمس ما قمت من مقعدي هذا إلا للصلاة أو الحاجة لا بد منها". ولا ريب أن صنيعه هذا – رحمه الله تعالى – يدل على حرصه الشديد على الوفاء بوعده وإعذار الآخرين المتأخرين.
قال ابن مسعود رضي الله عنه:
"لا يصلح الكذب في جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم ولده شيئاً ثم لم ينجز له".
المبحث الرابع : ما جاء في كتب الآداب وغيرها من أهمية الالتزام بالمواعيد المضروبة وعدم الإخلال بها:
قد جاء في كلام العرب نظماً ونثراً أقوال لطيفة في بيان أهمية الالتزام بالصدق في الوعد والتنفير من إخلافه.
قال عبد الرحمن بن أبزي رضى الله عنه: كان داود عليه السلام يقول:"لا تعدن أخاك شيئاً لا تنجزه له، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة".
وتقول العرب:"بَرْقٌ خُلَّب" إذا كان كاذباً لم يأت بمطر، وكذلك المرء إذا وعد فأخلف، ضربته العرب مثلاً لمن يعد ولا يفي.
وقال الحافظ السخاوي – رحمه الله تعالى – ذاكراً حال أحد رجالات العرب:"إن عوف بن النعمان الشيباني كان يقول في الجاهلية: لأن أموت عطشاً أحب إليّ من ان أموت مِخْلافاً لوعد".
المبحث الخامس : ما ورد في التزام بعض المعاصرين بالموعد المضروب وعدم الإخلال به:
1. الشيخ عبد العزيز بن باز:
كان الشيخ – رحمه الله تعالى – ممن عُرف عنه الحفاظ على الوقت، والدقة في التزام الوعد، مع أنه كان كفيفاً لا يحمل ساعة لكنه لفرط حرصه على الوقت ودقته في المواعيد يحس باقتراب الموعد أو حلوله دون أن يخبره بذلد أحد، فتجده إذا حان وقت الصلاة قال لمن بجواره: هل أذن للصلاة؟ فما يكاد يسأل هذا السؤال إلاّ ويسمع صوت الأذان.
وكان في أكثر الأحيان هو الذي يُذَكِّر المكلف بحفظ مواعيده باقتراب الموعد. وهذا يدل على حرصه الشديد على القيام بما يجب عليه في دقته، وبأنِّه يحمل همَّ ما يريد القيام به، وأنه يخشى أن يتصف بخلق من إذا وعد أخلف.
2. فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
كان الشيخ – رحمه الله تعالى – دقيقاً في مواعيده، ولم يكن يجامل أحداً في ذلك، بل كان يؤنب من يخلف الميعاد، ويُحمِّله نتائج إخلافه الوعد، وكلما وجد فرصة يذكره بها بإخلافه الوعد يفعل، كما كان يحرص على شراء أدق الساعات ضبطاً للوق.
المبحث السادس : أسباب التهاون بالمواعيد:
جملة من الأسباب:
1. ضعف الالتزام بالأحكام الشرعية: وذلك لأن r عد من علامات النفاق: "…إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
والأدهى والأمر من ذلك أن بعض الناس – وظاهرهم الالتزام – إن ذكَّرته بالموعد وعد بالحضور وهو قد أزمع الخُلف، بمعنى أنه يقول: سأحضر في الموعد وهو قد بيت النية ألاَّ يحضر، فهل هذا إلا كذب صُراح، هل فاعل ذلك يمكن أن يبرأ من عهدة الكذب؟! إذ كيف بعقد أمراً هو لن يفي به ابتداءً، لمنه يصنع ذلك تخلصاً من مخاطبه وتفلتاً من الحرج المترتب على الإعتذار.
2. عدم إدراك أن الموعد المضروب المتفق عليه لا يجوز الإخلال به إلا بعذر، إذ يظنون أنه لا شيء في إخلاف الموعد، فهؤلاء ينبغي أن يُعلَّموا ويبين لهم حتى يزول جهلهم وينتفي عذرهم.
3. عدم المبالاة: لأن عدم المبالاة صارت صفة متأصلة في نفوس أولئك فإنك تراهم لا يأبهون ولا يبالون أحضروا في الوقت أم لم يحضروا، أو أنك تراهم يتخلفون عن الحضور تماماً ثم لا يتكلف الواحد منهم مشقة الإتذار ولو مهاتفة!! وهذا الصنف لا يعتمد عليه.
4. عدم الالتفات إلى الدقائق أو إلى أجزاء الساعة: فالموعد المضروب في الساعة السابعة والنصف لا يرى شيئاً في تأخيره إلى الثامنة، والموعد المضروب في الساعة السابعة والربع يؤخره إلى السابعة والنصف وكل ذلك نابع من عدم مبالاته، والعحيب أنه لو دُعي إلى مقابلة وزير أو رئيس في ساعة محددة لقدم قبل وقته بنصف ساعة أو ساعة.
5. عدم تقدير أهمية ما يراد الحضور إليه.
6. عدم مراعاة الأولويات.
7. عدم إتخاذ الوسائل المناسبة للتذكير بالموعد.
8. عدم الحزم في تناول المشكلة.
9. البيئة والقوم.
10. مشكلات المتأخر النفسية والبدنية والإجتماعية.
المبحث السابع : المشكلات المترتبة على قضية الإخلاف بالموعد:
1. عدم الإعتماد على من يتخلف عن موعد وعيب صنيعه.
2. عدم الثقة بما يُضرب من مواعيد.
3. تفلت الجادين من الالتزام بمواعيد العابثين.
4. تعطل إنجاز الأعمال.
5. عدم الفهم الكلي أو الجزئي لما يجري في اللقاء.
المبحث الثامن : علاج هذه المشكلة:
1. التربية الإيمانية الجادة.
2. المصارحة وعدم المواربة والمجاملة والمداهنة.
3. سَنُّ العقوبات المعنوية المناسبة في هذا الباب.
4. تكريم من يلتزم الموعد تكريماً معنويًّا وماديًّا مناسباً.
5. التزام القدوات بالمواعيد المضروبة.
6. الالتزام بالبدء في الموعد وعدم انتظار المتأخر.
7. تحديد ساعة معينة للبدء.
8. الالتزام بمدة اللقاء.
9. الأخذ بالأسباب الحديثة في تنظيم الوقت.
10. الإعتار المسبق أو اللاحق.
11. الالتزام بتهيئة النفس للموعد المضروب:
هناك مظاهر ينبغي تجنبها فب هذا الباب منها:
1. حضور اللقاء وهو مشوش الذهن غائبه.
2. حضور اللقاء وهو نعِس يغالب النوم.
3. الإنشغال عن اللقاء.
4. عدم التحضير للِّقاء.
وأخيراً: الرأي هو إما أن يحضر المرء حضوراً مناسباً، أو ليعتذر؛ فهو أولى به وأجمل
فعلاً إنها ظاهرة مزعجة…
حفظك الله اختي مسلمة ..اختيار موفق .
موضوع قيم جدا