تخطى إلى المحتوى

لأنك الرجل الذي لا يُقهر . 2024.

نقلا عن:
http://www.atida.org/forums/showthread.php?t=1010
لأنك الرجل الذي لا يُقهَر….


هذا فصل من الباب الرابع (مبتدئ في التدريس الجامعي) عن كتاب "قصة حياتي"


بقلم: محمد يحيى أبوريشة

إلى كل طالب يقول "لا أستطيع تعلم الانجليزية!" هذه قصة من الواقع وهي درس من دروس الحياة…

هل نمت يوما تحت الجسر في الثلج؟

سؤال غريب قد يبدو للوهلة الأولى أن لا علاقة له بقصتنا بل لا علاقة له بتعلم اللغة الانجليزية، لكن الحقيقة هي غير ذلك.

بطل قصتنا طالب من بين مئات الطلاب الذين قمت بتدريسهم في الجامعات الأردنية في قسم اللغة الانجليزية وآدابها، وتعود بي الذاكرة إلى الوراء إلى عام 2024 في يوم من أيام الشتاء فيه أنعم الله سبحانه وتعالى علينا بثلوج وأمطار عمت أرجاء وطننا الحبيب.

دخلت قاعة الدرس وكانت المادة الدراسية "كتابة الفقرة" ونظرت إلى وجوه الطلاب الواجمة، الذين بلغ عددهم حوالي 35 طالبا وطالبا من البرنامج المسائي وكانت تلك السنة الأولى لهؤلاء الطلبة في رحلتهم الدراسية. كنت قد سلَّمت للطلبة أوراق امتحاناتهم في المحاضرة السابقة ولم تكن تلك العلامات مرتفعة ولم ترتق إلى المستوى الذي كان أولئك الطلبة يطمحون إليه، وإذ رأيت في أعينهم رجاءً خفيَّا لعل وعسى يكون هنالك فرصة أخرى لتعديل علاماتهم نحو الأفضل. بادرتهم على الفور، وأنا أعلم أن ما من أحد منهم إلا ويعمل في الصباح ويدرس في الليل، يكافح في هذه الدنيا بكل ما أوتي من قوة ليحظى بمرتبة أفضل في مجتمع صغير يتميز بتنافسية كبيرة بين الكفاءات والمؤهلات العلمية في بلد الشباب.

لم أكن بحاجة للتفكير كثيرا في تلك النظرات المتسائلة، وكأي شخص آخر من مواليد ذلك البرج الحساس، الميزان، إن كنت تؤمن بالأبراج، كنت أريد أن يكون الناس جميعا راضين فرحين، وهذا ما صبوت إليه دائما وأبدا مع طلبتي لكن دون أن يكون ذلك على حساب الأداء الأكاديمي، فغايتي أن يتفهم الطالب وضعه الحقيقي في المادة الدراسية وأن يبذل جهدا أكبر دون أن يكون ساخطا على العلامة التي "وضعتها" له.

قلت لهم: "لا بأس. إنني أعرف ظروفكم وأحترمها وأقدرها كل تقدير، لكن هذه هي علاماتكم في الامتحان جاءت ترجمة لعملكم ودراستكم. وإنني أدرك تماما أن امتحانا واحدا قد لا يكفي لأن يكون معيارا لنجاح الطلبة أو فشلهم، وهذا هو الامتحان الأول ويمكنكم بذل جهود مضاعفة فيما بعد، وأعدكم أن أنظر جديا في علامات كل طالب أحرز تقدما كبيرا في هذه المادة الدراسية وستكون له مكافأة عادلة دون الإجحاف بحق غيره من الطلبة…."

لكنني لم أتمم كلامي بل تسمرت في مكاني وكأنني رأيت عفريتا، وانقلبت طبيعتي الميزانية إلى أقصى اليسار تطرفا فجأة وشعرت بشيء سَمِّه إن شئت غضبا أو إن شئت انزعاجا وأكملت العبارة السابقة بـ "لا بل يجب عليكم أن تبذلوا قصارى جهدكم في هذه المادة ولا أعدكم أبدا في النظر في علاماتكم لأنكم كسالى وعلى الكسول أن يتحمل مسئولية كسله وتوانيه!!!".

(لا تأخذ عني فكرة أنني مزاجي…بل وفيت بوعدي للطلبة في نهاية الفصل، لكن اقرأ تتمة القصة ليبطل العجب!!!)

أقول، لماذا تغيرت لهجتي واحتد مزاجي دون سابق إنذار.. مرة أخرى علي أن ألقي اللوم على طبيعتي الميزانية الغريبة العجيبة.
كان التغير الفجائي الحاد في موقفي تجاه الطلبة وقتها من المعلم "الملاك" إلى "الوحش المفترس" يصاحبه تسمر لعينيَّ على شاب نحيف عينيه حمراوتين من التعب والإرهاق. وكان اسم ذلك الشاب "حسن". كان حسن يتم الأب والأم، وقال لي ذات مرة أنه الأكبر بين إخوانه فكان لهم كما أخبرني حرفيا "الأب والأم والأخ والصديق". وكان والده قبيل وفاته قد وصاه برعاية إخوانه وأخواته.

ضَحَّى حسن بكل شيء في سبيل عائلته الصغيرة، فالمسؤوليات جسيمة تضافرت مع قلة الحيلة والظروف المعيشية الصعبة التي جعلت من حسن عاملا على "الجرار" يعمل من الفجر إلى الظهر يوميا. كان مرهف الإحساس وذكيا، وكان يثابر على الجلوس مع إخوته الصغار كالصديق يتحاور معهم..يتعلم منهم ويعلمهم ليعوضهم عن حرمان الأب والأم. واعتنى بتعليمهم، وبذل الغالي والرخيص من أجل شقيقته إلى أن تخرجت في الجامعة وحصلت على الشهادة الجامعية الأولى. عندها آن الأوان لحسن أن يتابع تعليمه ويكافح للحصول على شهادة جامعية في اللغة الانجليزية التي أحبها.

سألته: "لماذا اخترت هذه الجامعة التي تبعد بضعة كيلومترات عن مدينة الزرقاء على طريق المفرق وأنت من سكان دير علاَّ البعيدة". أجابني قائلا: "الرسوم الدراسية في هذه الجامعة هي الأقل من بين الجامعات الأخرى..نعم قد يكون ذلك على حساب تعبي وصحتي ووقتي….لكني حريص على توفير كل قرش لإعاشة أسرتي."
ويمكن تفصيل اليوم في حياة حسن الطالب كالآتي:
-الاستيقاظ مبكرا عند الفجر
-التوجه بالجرار للعمل في مزارع الآخرين إلى الظهر
-الانتهاء من العمل الساعة 12 ظهرا والتوجه إلى دير علاَّ حيث أنه يقطن قرية صغيرة تبعد بضعة كيلومترات عن مدينة دير علاَّ
-ركوب الحافلة إلى السلط
-ركوب حافلة أخرى إلى صويلح
-ركوب حافلة الجامعة الساعة 3 مساء ليصل الساعة الرابعة مساء إلى الجامعة
-تنتهي الدروس الساعة 8.30 مساءً
وهنا تبدأ ما وصفه حسن لي برحلة العذاب:
-يركب حافلة الجامعة إلى صويلح
-يستقل حافلة إلى السلط وينزل عند الجسر
-ينتظر أي سيارة أو مركبة خاصة أو عامة لتقله إلى دير علا
-وفي دير علا ينتظر أية سيارة مارة لتساعده على الوصول إلى قريته.
يصل البيت الساعة 12 في منتصف الليل.

ولا نحتاج إلى ذكاء كبير لنكتشف أن وقت الدراسة بالنسبة لحسن كان في الحافلات من الجامعة وإليها.

رغم كل ذلك، لم يتغيب حسن عن أية محاضرة من محاضرات المادة التي كنت أدرسها وهي كتابة الفقرة.. لكن قبل عقد الامتحان الأول بأيام، تغيب حسن عن المحاضرة بسبب المواصلات، ولأول مرة في حياتي أجد طالبا مخلصا في دراسته فقد علمت أن أول ما قام به حسن بعد وصوله إلى الجامعة متأخرا هو الاندفاع نحو أحد الطلبة آخذا منه مدوناته ليلتهم درس كتابة الفقرة التهاما حتى لا يفوته شيء من المحاضرة.

وقبل فترة أيضا من الامتحان الأول المذكور، عمت ثلوج الخير البلاد بشكل لم يسبق له مثيل حتى أنني لم أتمكن من العودة إلى بيتي فقضيت ليلتي تلك في العاصمة في منزل أخ عزيز وزميل عزيز كان وقتها رئيسا لقسم اللغة الانجليزية وآدابها الذي تشرفت في العمل فيه.
لكن ماذا عن حسن؟ تقطعت السبل وعاد الناس جميعا إلى بيوتهم وإلى أسرّتهم ينعمون بالدفء، وخلت كافة الشوارع والطرق من السيارات المارة. دقت الساعة لتعلن حلول منتصف الليل….ليلٌ دامس…ضبابٌ سائد…ثلجٌ متراكم… وجد حسن نفسه وحيدا عند الجسر بلا أمل في الوصول إلى البيت ولا إلى أحد من الناس…

نام حسن تحت الجسر تلتحفه الثلوج…

خلال ثوانٍ قليلة عصفت بذهني أحداث هذه القصة، بل الملحمة، ملحمة بطل قصتنا في كفاحه في الثلج وعراكه في الحياة، هزَّت ميزاني وجعلتني أبدو كالغاضب أمام أولئك الطلبة في تلك المحاضرة…فهم يشكون ويشكون من صعوبات الحياة….في حين أن ذلك الفتى الذي نام تحت الجسر في الثلج لم ينبسَّ ببنت شفة بل أنه حقق علامة أعلى بكثير من علامات زملائه…..

ومرت الأيام بحلوها ومُرِّها… وشاء الله أن يتخرج حسن ويحصل على الشهادة في اللغة الانجليزية وآدابها .. وشهادة أخرى هي الوفاء للأهل، والنجاح في معاركة الحياة، والصبر والجلد، والعطاء الذي لا ينضب والحب الذي لا يأفل له نورٌ…

في وقت لاحق، عندما كان حسن في السنة الثانية، بعد أن تركت الجامعة، زارني في بيتي، وتحادثنا وتذكرنا تلك الأيام التي كنت فيها له مدرسا، وأنا الآن له أخ وصديق. قال لي: "لقد تشرفت بأنني كنت من طلبتك يا أستاذ محمد."

مرت سنوات لم أرَ حسن فيها، وبقيت صورة ذلك الشاب ما زالت راسخة في مخيلتي وذاكرتي وروحي، لكن الصورة تبدلت..فلم أعد أرى حسن بعينين حمراوتين من التعب والإرهاق…بل أرى ذلك الشاب النحيف بعينين برَّاقتين تنظران إلى مستقبل مشرق..وابتسامة يصطحبها تعابير الجد والجلد والإصرار والعزيمة…..

وإنني إذ أنظر إلى هذه الصورة التي تتحدى قلمي المتواضع في وصفها أقول لنفسي: "لا يا حسن…ليس أنت من تَشَرَّف بأن أكون من عَلَّمه….بل أنا تَشَرَّفتُ بتعليمك……
……………………فأنت الرجل الذي لا يُقهَر."

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.