المتَّصِف بالعزة والجلال، عالم الغيب والشَّهادة الكبير المتعال، أحمده سبحانه وأشكره على سابغ النعم وجزيل النوال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن الشبيه والمثال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير مَنْ صلى وصام وعبد ربه على أحسن حال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم المآل، أما بعد،،
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 – 2].
معاشر المسلمين:
يجهد المرء في دنياه ويسعى، ويكد ويشقى، يجمع ويدخر، ويوقر ويقترض, من أجل أن يؤمِّن لنفسه مسكنًا, يبذل في سبيل هذا الهدف ماله وصحته، وفكره ووقته، تراه يخطط ويرسم، ويُشيِّد ويصمِّم، من أجل إظهاره على أحسن حال، وأجمل مثال.
حتى إذا ما تمَّ بناؤه، بدأ بعد ذلك عناؤه! في اختيار أثاثه، والتنسيق بينه وبين ألوانه، ثم بعد ذلك هذا كله – فإن هذا البيت الذي بُني على عينه حتى كمل مُعرَّضٌ للبِلَى والتغيُّر، والتشقُّق والتصدُّع، وإن سلم البيت من ذلك فلن يسلم صاحبه من آفاق الزمان وحوادث الدهر.
هذه حال منازل الدنيا، وهذا حال أهلها, فما حال منازل الآخرة؟ كيف هي شأن مساكن الآخرة؟
نحن – عباد الله – مع موعد في رحلة إيمانية إلى هناك، حيث مساكن الآخرة، مساكن لا تعتريها العوارض، ولا يغيرها الزمان, باقيةٌ على نظرتها وبهائها، ورونقها وجمالها، دائمة ما دامت السموات والأرض، بيوتٌ لا نَصَب فيها ولا وَصَب، ولا همَّ معها ولا تعب، منازلٌ بناها الذي خلق كل شيء، فأحسن كل شيء خَلَقَه، ثم زينها لأحبابه وأهل رضوانه، فقال عنها: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72].
بيتٌ في الجنة… دعوةٌ سألتها المرأة الصالحة التقية امرأة فرعون؛ {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11].
بيتٌ في الجنة… بشارةٌ زفَّها المصطفى – صلى الله عليه وسلم – لأمِّ المؤمنين خديجة – رضى الله عنها – بأن لها في الجنة بيتًا من قَصَب، لا صَخَبَ فيه، ولا نَصَب فيه.
فيا أخي المبارك:
أرع لنا سمعك، واستجمع معنا قالبك وقلبك؛ لنحلِّق بأرواحنا إلى هذه المساكن، نقترب من بنيانها، نسمع شيئًا من أخبارها وجمالها، وحسنها وبهائها، وقبل ذلك كله: كيف نُشيِّد تلك المنازل بأقوالنا وأفعالنا؟
إخوة الإيمان:
يا له من مشهد عظيم ومنظر كريم، تتلهف له أرواح وقلوب المؤمنين! قد ازَّيَّنَتِ الجنة لأهلها، وفتحت من أجلهم أبوابها، وزُمَر المتقين يُزفُّون إليها وفدًا وفدًا!!
أول زُمْرَةٍ يدخلون الجنة وجوههم كالقمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم كأشد كوكبٍ دريٍّ في السماء إضاءةً، يساقون إلى الجنات على أحسن حالة وأروع هيئة، وجوههم مُسْفِرَة، وأرواحهم مبتهجة مستبشرة, تعرف في وجوههم نضرة النعيم، يتلقون التهاني والتبريكات عند أبواب الجنات: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24].
حتى إذا ما دخلوها؛ تبيَّنت لهم الجنة، فرأوا فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نور يتلألأ، وريحانة تهتز، أغادير وأنهار، وبساتين وثمار، ظلٌّ ممدود، وهواءٌ عليل، خضرةٌ نضرة، وريحٌ طيبة، وحُلَلٌ كثيرة، ومناظر ومشاهد تأسر الفؤاد وتسحر الألباب.
وطئت أقدام أهل الجنة الجنةَ، فإذا ترابها المسك والزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وإذا أرضها قيعان مستوية، لا انعواج فيها ولا ارتفاع، وإذا هي مد البصر، لا يعلم نهايتها إلا الذي خلقها، وإذا في وسطها بنيان تلالأت نضارته وتألَّقت قسامته – فسبحان مَنْ خَلَقَه وجمَّله – ذاك هو مسكن أهل الجنة, وإذا من حول ذلكم البنيان أشجار لا تَسَل عن بهائها وغضارتها، وأنهار لا تَسَل عن عذوبتها وصفائها.
لا يحتاج أهل الجنة إلى مَنْ يعرِّفهم بيوتَهم؛ بل يعرفون بيوتَهم هناك كما يعرفون بيوتَهم هنا؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4-6].
قال أهل التفسير: "يعرفون بيوتهم في الجنة كما تعرفون بيوتكم في الدنيا".
عباد الله:
مساكن أهل الجنة في الجنة ليست على درجة واحدة؛ بل فيها القصور، وفيها البيوت، وفيها الخيام، وفيها الغُرَف.
عباد الله:
يعجز اللسان، ويعجم البيان، ويتيه الخيال – أن يدرك حقيقه هذا الرونق والجمال، ولنترك الوصف في هذا المقام لرسول الهدى – صلى الله عليه وسلم – الذي أُكرم من الله تعالى في دنيا الناس برؤية مساكن أهل الجنة، ليصف لنا شيئًا مما رآه هناك.
حدِّثنا عن الجنة؛ ما بناؤها؟ حدثنا عن الجنة؛ ما بناؤها؟
بهذه الكلمات يسأل الصحابة – رضى الله عنهم – رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيأتيهم الجواب: ((هي لَبِنَةٌ ذهب، ولَبِنَةٌ فضة، ومِلاطُها المسك الأَذْفَر))؛ والملاط: هو الطين الذي يُطلى به الحائط.
ومن مساكن أهل الجنة: قصورٌ فارهة، مرتفعه شامخة، لا مثيل لها ولا نظير؛ رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – في الجنة قصرًا من ذهب؛ فقال: ((لمَنْ هذا القصر؟))، قالوا: لشابٍّ من قريش؛ فظنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه هو الشاب، فسأل عن صاحبه؛ فقالوا: لعمر بن الخطاب.فأخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بذلك، وقال له: ((لولا غيرتك يا عمر؛ لدخلتُ القصرَ))؛ فبكى عمر – رضى الله عنه وأرضاه.
ومن مساكن الجنة أيضًا: غرفٌ شفافة، يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، وغرفٌ أخرى فوقها غرفٌ، لا ضجيج حولها ولا صَخَب، وإنما هو صوت المياه العذبة تتدفق في الأنهار، قال تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20].
غرفٌ فيها الأمن والطمأنينة: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]، ومع الأمن والأمان تتوافد إليهم التهاني: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} [الفرقان: 75].
ومن عجيب مساكن أهل الجنة: الخيام الحسان، لا تَسَل عن جمالها واتساعها وتلألئها، يصف النبي – صلى الله عليه وسلم – بهاءها وعظمتها فيقول: ((إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلاً، فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضًا)).
هذه الخيام فيهن الحور الحسان: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72]، {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 23]، لا يخرجن من الخيام، ولا يمدّن أعينهن لغير أزواجهن.
هذه المساكن فيها الفُرُش الوثيرة، بلغت الغاية في الرقة والنعومه: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54]، هذه المساكن فيها البساط الناعم الأملس – وهو العبقري – وصف الله جماله وحسنه فقال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76].
وفي هذه المساكن أيضًا: الوسائد المتألق حسنها، قال تعالى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} [الغاشية: 15]، هذه المساكن فيها الأواني المرصعة بالذهب: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71]، وأواني أخرى لها بياض الفصة، وصفاء الزجاج: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ} [الإنسان: 15]، هذه المساكن فيها الخدم والغلمان، في غاية النضارة والبهاء: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17]، {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} [الإنسان: 19].
هذه المساكن لا يتغوَّط أهلها ولا يتبوَّلون، ولا يمتخَّطون ولا يبزقون، أمشاطهم الذهب، ورَشْحُهم المِسْك، ومجامرهم الألوة، خَلْقهم على خَلْق رجلٍ واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعًا في السماء، أعمارهم في الثلاثين، عليهم التيجان، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، يُلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهمون النَّفَس.
تلك – عباد الله – مساكن أهل السعادة الأبدية، وشيء من أخبارها ووصفها مما جاء في القرآن، وصحَّ عن سيِّد وَلَد عدنان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُون} [سبأ: 37].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بهدى سيد المرسلين، وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه ومَنِ اجتبى، أما بعد،،
فيا أخي الكريم:
لعلك قد تاقت نفسك إلى هذه المنازل المنيفة، وعَلَت همَّتك لبلوغ تلك القصور المشيدة! فأبشر يا أخي، فهذه المنازل ما عُدَّت إلا لك أنتَ، ومفاتيحها يسيرة على مَنْ يسَّره الله عليه.
يا مَنِ اشتاق لبيوت الجنة وتمنَّاها، هاك أعمالاً وأقوالاً سهلة المنال، فثابر عليها والزمها، وانتظر الوفاء من الله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].
عباد الله:
بناء المساجد في أرض الله من خير الأعمال الصالحات، ومما يشيِّد به المرءُ له بيوتًا في الجنات، إذا خلصت معه النيَّات؛ ثبت في "الصحيحين" وغيرهما، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَنْ بنى لله مسجدًا؛ بنى الله له بيتًا في الجنة)).
ومن حديث الترمذي – وصححه ابن خزيمة -: ((مَنْ صلَّى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة؛ بُني له بيتٌ في الجنة: أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر)).
يا مَنْ فُجِعَ بفَقْد الولد، وأصابته الكآبة والكمد، أَتْبِعْ مُصابك بالحمد والاسترجاع، ثم أبشر بعد ذلك ببيت في الجنة؛ قال – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مات وَلَدُ العبد قال الله لملائكته: قَبَضْتُم وَلَدَ عبدي، قَبَضْتُم ثمرةَ فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول الله: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع؛ فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسمُّوه بيت الحمد))؛ رواه الترمذي وابن حبَّان، وهو حديثٌ حسنٌ.
عباد الله:
ومن أيسر الأعمال في تشييد بيوت الجنة: قراءة سورة الإخلاص عشر مرات؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] حتى يختمها عشرات؛ بنى الله له قصرًا في الجنة))؛ رواه الإمام أحمد وغيره، وحسَّنه الألباني من مجموع طرقه.
ضمن النبي – صلى الله عليه وسلم – بيتًا في أسفل الجنة لمَنْ ترك المراء وإن كان محقًّا، وبيتًا في وَسَط الجنة لمَنْ تَرَكَ الكذب وإن كان مازحًا، وبيتًا في أعلى الجنة لمَنْ حَسُنَ خُلُقَه، والحديث خرجه أبو داود وحسَّنه الألباني.
طوبى لمَنْ عفَّ لسانه، وأقرى ضيفه، ولربه صلى وصام، بشراكم قول المصطفى – صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجنه لغرفًا يُرى بطونها من ظهورها، وظهورها من بطونها))، قيل: لمَنْ هي يا رسول الله؟ قال: ((لمَنْ أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلَّى بالليل والناس نيام))؛ رواه الترمذي وغيره، وهو حديث حسن.
وأخيرًا عباد الله:
هلاَّ سألنا أنفسنا وحاسبناها؛ كم مضى من أعمارنا ونحن مقصِّرون عن هذه الفضائل؟ كم ألهتنا دنيانا عن تشييد هذه المساكن؟!
فيا أخي المقصِّر – وكلنا ورب مقصِّر -:
استدرك ما فات، وجانبْ ما ألْهاك، وشيِّد بأعمالك الصالحة منازلك هناك، مع الأحبة؛ محمد وصحبه.
إياك ثم إياك أن تضيع نعيم الآخرة وقصورها وخيامها وحورها بلذة طائشة وشهوة عابرة: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 – 17].
اللهم صلِّ على محمد…
رابط الموضوع: مساكن الآخرة والطريق إليها
Sent from my MediaPad T1 8.0 using منتديات لكي mobile app