ويدور المحور الرئيسي لسورة’ لقمان’ حول العقيدة الإسلامية- شأنها في ذلك شأن كل السور المكية- كما تشير هذه السورة الكريمة إلي ضرورة الالتزام بالضوابط الأخلاقية والسلوكية المميزة للعبد المؤمن, وتؤكد علي جزاء كل من المحسنين والمسيئين في الدنيا والآخرة, وتستشهد في هذا السياق بعدد من الآيات الكونية الدالة علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق, والشاهدة للخالق- سبحانه وتعالي- بالإلوهية, والربوبية, والخالقية, والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه, وبالقدرة علي البعث, والحشر, والحساب والجزاء, وختمت هذه السورة الكريمة بالإشارة إلي عدد من أمور الغيب التي استأثر بها علم الله- تعالي-.
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة’ لقمان’ وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والإشارات الكونية, ونركز هنا علي الإعجاز ألإنبائي والتاريخي والتربوي في ذكر القرآن الكريم للعبد الصالح’ لقمان’, ولما آتاه الله- تعالي- من الحكمة التي انعكست علي نصائحه لابنه, وهي نصائح تشكل منهجا تربويا كاملا في تنشئة الأبناء.
من أوجه الإعجاز في ذكر القرآن الكريم للعبد الصالح المعروف باسم’ لقمان الحكيم’
أولا: الإعجاز ألإنبائي والتاريخي في ذكر اسم’ لقمان’:
تعتبر إشارة القرآن الكريم إلي العبد الصالح’ لقمان’ وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في كتاب الله الكريم, لأنه لم يرد لهذا العبد الصالح ذكر في أي من كتب الأولين, وذكر القرآن الكريم له يملأ ثغرة تاريخية في زمن عبد الله ونبيه داود- عليه السلام- حيث قيل عن’ لقمان’ أنه كان قاضيا في زمن ذلك النبي, وأن اسمه كان’ لقمان بن عنقاء بن سدون’ كما ذكر ذلك ابن كثير( في البداية والنهاية, ج2, ص29). وقال عنه السهلي( في كتابه المعنون:’ التعريف والإعلام’ ص101,100) أنه كان نوبيا سكن مدينة أيلة علي خليج العقبة( والتي عرفت بعد ذلك باسم’ أم الرشراش’ تحت الحكم المصري, ثم احتلها الصهاينة في حرب1956 م, وغيروا اسمها إلي إيلات) ونقل عن ابن عباس- رضي الله عنهما ـ أن’ لقمان’ كان عبدا حبشيا. ويصف هؤلاء الرواة أن’ لقمان الحكيم’ كان رجلا ذا عبادة خاشعة, وعبارة ساطعة, وإيمان عميق, وكان كثير التفكر, شديد الورع, حسن اليقين بالله, وأنه كان عف المطعم, عف الجوارح, وعف اللسان, فأحبه ربه, ومن عليه بالحكمة.
وتعرف الحكمة بأنها الفقه في الدين, والإصابة في الحكم, وموافقة الحق, والنجاح في وضع الأمور في نصابها بلا مبالغة ولا تقصير. وقد تميز لقمان بالعدل, والعلم, والحلم, وبمداومة الشكر لله, ولذلك تمتع بقدر عال من الاحترام في مجتمعه, وبمنزلة رفيعة بين أقرانه حتي اشتهر باسم’ لقمان الحكيم’, وامتدحه القرآن الكريم بقول الحق- تبارك وتعالي- عنه:[ ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد]( لقمان:12). كذلك امتدح القرآن الكريم كل من أوتي الحكمة, وذلك بقول ربنا- سبحانه وتعالي-[ يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولي الألباب]( البقرة:269).
ثانيا: من أوجه الإعجاز التربوي في عرض القرآن الكريم لقصة’ لقمان الحكيم’:
(1) التأكيد علي وحدانية الخالق العظيم, والإقرار بالعبودية له وحده وهي أساس العقيدة الحقة التي تشكل قاعدة المنهج الرباني في بناء الإنسان, وفي تربيته التربية الإسلامية الصحيحة التي توفر له الطمأنينة والراحة النفسية والعقلية وفي ذلك يقول ربنا- تبارك وتعالي-[ وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم]( لقمان:13). وذلك لأن الشرك بالله هو أولي بوابات الشيطان إلي الإنسان, وأحد مداخله الرئيسية التي أضل بها البشرية من لدن قوم نوح إلي يومنا الراهن, وسيظل كذلك حتي قيام الساعة.
(2) وجوب بر الوالدين حتي لو كانا مشركين بالله ـ علي خطورة الشرك, وانحراف المشركين عن جادة الصواب: تؤكد الآيات في سورة لقمان علي فضل الوالدين, وعلي تعظيم حقوقهما علي أبنائهما, وتأكيد واجب الشكر لهما, والعرفان بأفضالهما, وذلك من أجل استقرار كل من الفرد والمجتمع في البيئة الإسلامية وانتظام الحياة فيها. ولذلك جعلت الآيات في سورة’ لقمان’ الشكر لهما مقرونا بالشكر لله- تعالي- صاحب الفضل والمنة علي جميع خلقه وفي ذلك يقول ربنا- تبارك وتعالي-:[ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا علي وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير, وإن جاهداك علي أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون]( لقمان:15,14).
(3) وجوب مراقبة الله في السر والعلن: وذلك لأن علم الله- تعالي- محيط بكل شئ, وأن الله- سبحانه وتعالي- لا يخفي عليه شئ في الأرض ولا في السماء. وإذا أيقن العبد منا ذلك كان في استشعاره لمراقبة الله خير ضابط لسلوكه. وبذلك يوصي’ لقمان الحكيم’ ابنه قائلا:[ يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير].( لقمان:16).
(4) وجوب مخاطبة الأبناء بالخطاب الذي يستميل قلوبهم, فالخطاب إلي الابن بصيغة( يا بني) يحمل من معاني الفهم العميق لطبيعة النفس الإنسانية, ومن مشاعر الحب, والحنان, والشفقة والعطف, ما يمكن أن يستميل قلب الولد, ويحبب إليه ما يطلبه منه من مختلف الأوامر والنواهي, ومن جميع الوصايا والآداب. ويعبر ذلك عن مدي الحكمة التي من بها ربنا- تبارك وتعالي- علي عبده’ لقمان’, ومدي عمق فهمه للطبيعة البشرية, خاصة في مراحلها الأولي.
(5) وجوب فهم المتربي لحقيقة رسالته في هذه الحياة الدنيا: عبدا لله- تعالي- مطالبا بعبادة ربه بما أمر, ومستخلفا ناجحا في الأرض, مطالبا بعمارتها وبإقامة شرع الله وعدله فيها: ولذلك فإن لقمان ـ عليه السلام ـ بعد أن علم ابنه العقيدة الصحيحة القائمة علي الإيمان الحق بالله الخالق, وبالتوحيد الكامل لجلاله, وبتنزيهه ـ جل شأنه ـ عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله, واليقين بأن علم الله محيط بكل شئ, وأن الله ـ تعالي ـ لا يخفي عليه شئ في الأرض ولا في السماء, طالبه بإقامة الصلاة, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, وبالصبر علي ما يمكن أن يناله في هذا السبيل لأن من حقيقة الإيمان الصبر علي المكاره, ومؤكدا له أن ذلك من عزم الأمور, أي من الأمور الواجبة, المؤكدة علي حقيقة الإيمان, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:[ يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر علي ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور]( لقمان:17).
فصلاح المجتمعات الإنسانية كلها قائم علي التواصي بالحق, والتواصي بالصبر, ومن معاني ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والصبر علي ذلك كله من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل, ولذلك أوصانا المصطفي ـ صلي الله عليه وسل ـ بقوله الشريف’ والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه, ثم تدعونه فلا يستجاب لكم'( الترمذي والبيهقي) وفي رواية أخري:’ لتأمرن بالمعروف, ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم, ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم'( الهيثمي)
ثالثا: من الإعجاز الأخلاقي في عرض القرآن الكريم لقصة لقمان الحكيم:
أي لا تزدري الناس بالإعراض عنهم, ولا تتبختر في مشيتك استعلاء وتكبرا عليهم, لأن الله ـ تعالي ـ لا يحب المتكبرين المتغطرسين علي عباده.
وهتان الآيتان تشكلان منهجا تربويا صحيحا في تنشئة الأبناء, يعودهم علي التواضع وعدم التكبر علي الآخرين أو الإعراض عنهم, وقد عبر القرآن الكريم بتشبيه المتكبر علي غيره بتصعير الخد[ لأن أصل( الصعر) هو داء يصيب الإبل في أعناقها أو في رؤوسها فتلفت أعناقها عن رؤوسها] والمشي في الأرض مرحا كناية عن الاستعلاء علي الخلق, والتكبر والاستعلاء علي الخلق من الصفات السيئة التي تهلك صاحبها في الدنيا وتورده العذاب في الآخرة, وذلك لأنها تكره الناس فيه, وتصدهم عنه وتولد البغضاء قي قلوبهم نحوه, كما توجب غضب الرب والطرد من رحمته, وذلك لقول رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ’…. ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبر'( مسلم, وابن ماجة, والترمذي), ويقول’…. وما زاد الله رجلا بعفو إلا عزا, وما تواضع أحد لله إلا رفعه'( الترمذي).
ومن سمات التكبر علي الخلق رفع الصوت فوق الحد المألوف, ولذلك أوصي لقمان ابنه بخفض صوته عند مخاطبة الآخرين, وبغض إليه رفع الصوت مذكرا إياه بأن أنكر الأصوات هي تلك الأصوات الحادة المرتفعة النبرة التي تشبه صوت الحمير, والتي أثبتت الدراسات العلمية أن آذان البشر تتأذي بسماعها, وذلك من مثل نهيق الحمير الذي يمثل أعلي وأحد نبرة لحيوان يحيا علي سطح اليابسة إذ تتجاوز شدة أصواتها مائة ديسيبل والديسيبل هو وحدة قياس شدة الصوت, مما ينهي عن رفع الصوت في مخاطبة الآخرين.
وهذه الوصايا التي أوردها القرآن الكريم علي لسان لقمان الحكيم لابنه هي من أوجه الإعجاز التربوي والأخلاقي في كتاب الله, كما أن مجرد ذكر قصة هذا العبد الصالح’ لقمان الحكيم’ يمثل وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في هذا الكتاب العزيز, وهذه الأوجه لمما يشهد له بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية. فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.