لا وجود للمقالة البيانية إلا في المعاني التي اشتملت عليها يقيمها الكاتب على حدود ويديرها على طريقة مصيباً بألفاظه مواقع الشعور مثيراً بها مكامن الخيال آخذاً بوزن تاركاً بوزن لتأخذ النفس كما تشاء وتترك.
ونقل حقائق الدنيا نقلاً صحيحاً إلى الكتابة أو الشعر هو انتزاعها من الحياة في أسلوب وإظهارها للحياة في أسلوب آخر يكون أوفى وأدق وأجمل لوضعه كل شيء في خاصّ معناه وكشف حقائق الدنيا كشفةً تحت ظاهرها الملتبس وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة تستدرك النقص فتتممه وتتناول السر فتعلنه وتلمس المقيد فتطلقه وتأخذ المطلق فتحده وتكشف الجمال فتظهره وترفع الحياة درجة في المعنى وتجعل الكلام كأنه وجد لنفسه عقلاً يعيش به.
والكاتب الحق لا يكتب ما يكتب ولكنه أداة في يد القوة المصورة لهذا الوجود تصور بها شيئاً من أعمالها فناً من التصوير. الحكمة الغامضة تريده على التفسيرتفسير الحقيقة والخطأ الظاهرة تريده على التبيين تبيين الصواب والفوضى المائجة تسأله الإقرار إقرار التناسب وما وراء الحياة يتخذ من فكره صلة بالحياةوالدنيا كلها تنتقل في مرحلة نفسية لتعلوا به أو تنزل. ومن ذلك لا يخلق الملهم أبداً إلا وفيه أعصابه الكهربائيه وله في قلبه الرقيق مواضع مهيأة للإحراق تنفذ إليها الأشعة الروحانية وتتساقط منها بالمعاني.
وإذا اختير الكاتب لرسالة ما شعر بقوة تفرض نفسها عليه منها إسناد رأيه ومنها إقامة برهان ومنها جمال ما يأتي به فيكون إنساناً لأعمالها وأعمالها جميعاً له بنفسه وجود وله بها وجود آخر. ومن ثم يصبح عالماً بعناصره للخير أو الشر كما يوجه ويلقي فيه مثل السر الذي يلقي في الشجرة لإخراج ثمرها بعمل طبيعة يرى سهلاً كل السهل حين يتم ولكنه صعب أي صعب حين يبدأ.
هذه القوة هي التي تجعل اللفظة المفردة في ذهنه معنىً تاماًوتحول الجملة الصغيرة إلى قصة وتنتهي باللمحة السريعة إلى كشف عن حقيقة هي التي تخرجه من حكم أشياء ليحكم عليها وتدخله في حكم أشياء غيرها لتحكم عليه وهي التي تميز طريقته وأسلوبه وكما خلق الكون من الإشعاع تضع الإشعاع في بيانه.
ولا بد من البيان في الطبائع الملهمة ليتسع به التصرف إذ الحقائق أسمى وأدق من أن تعرف بيقين الحاسة أو تنحصر في إدراكها فلو حدت الحقيقة لما بقية حقيقة ولو تلبس الملائكة بهذا اللحم والدم لبطل أو يكونوا ملائكة ومن ثم فكثرة الصور البيانية الجميلة للحقيقة الجميلة هي كل ما يمكن أو يتسنى من طريقة تعريفها للإنسانية.
وأي بيان في خضرة الربيع عند الحيوان من آكل العشب إلا بيان الصورة الواحدة في معدته؟ غير أن صورة الربيع في البيان الإنساني على اختلاف الأرض والأمم تكاد تكون بعدد أزهاره ويكاد الندى ينضرها حسناً كما ينضره. ولهذا ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى ـ كالإيمان والجمال والحب والخير والحق ـ ستبقى محتاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة.
وفي الكتاب الفضلاء باحثون ومفكرون تأتي ألفاظهم ومعانيهم فناً عقلياً غايته صحة الأداء وسلامة النسق فيكون البيان في كلاهم على نذرة كوخز الخضرة في الشجرة اليابسة هنا وهنا. ولكن الفن البياني يرتفع على ذلك بأن غايته قوة الأداء مع الصحة وسمو التعبير مع الدقة وإبداع الصورة زائداً جمال الصورة أولئك في الكتابة كالطير له جناح يجري به ويرف ولا يطير وهؤلاء كالطير الآخر له جناح يطير به ويجري ولو كتب الفريقان في معنى واحد لرأيت المنطق في الأحد الأسلوبين وكأنه يقول: أنا هنا في معان وألفاظ وترى الإلهام في الأسلوب الآخر يطالعك أنه هنا في جلال وجمال وفي صور وألوان.
ودورة العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني دورة خلقٍ وتركيب تخرج بها الألفاظ أكبر مما هي كأنها شبت في نفسه شباباً وأقوى ما هي كأنما كسبت من روحة قوة وأدل مما هي كأنما زاد فيها بصناعته زيادة. فالكاتب العلمي تمر اللغة منه في ذاكرة وتخرج كما دخلت عليها طابع واضعيها ولكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع وتخرج عليها طابعة هو . أولئك أزاحوا اللغة عن مرتبة سامية وهؤلاء علو بها إلى أسمى مراتبها وأنت مع الأولين بالفكر ولا شيء إلا بالفكر والنظر والحكم غير أنك مع ذي الحاسة البيانية لا تكون إلا بمجموع ما فيك من قوة الفكر والخيال والإحساس والعاطفة والرأي.
والكتابة التامة المفيدة مثل الوجهين في خلق الناس ففي كل الوجوه تركيب تام تقوم به منفعة الحياة ولكن الوجه المنفرد يجمع إلى تمام الخلق جمال الخلق ويزيد على منفعة الحياة لذة الحياة وهو لذلك وبذلك يرى ويؤثر ويعشق.
وربما عابوا السمو الأدبي بأنه قليل ولكن الخير كذلك وبأنه مخالف ولكن الحق كذلك وبأنه محير ولكن الحسن كذلك وبأنه كثير التكاليف ولكن الحرية كذلك.
إن لم يكن البحر فلا تنتظر اللؤلؤة وإن لم يكن النجم فلا تنتظر الشعاع وإن لم تكن شجرة الورد فلا تنتظر الورد وإن لم يكن الكاتب البياني فلا تنتظر الأدب……….
الكاتب في سطور(تعريف بالكاتب)
مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن عبد القادر الرافعي وينتهي نسبه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وفد جده الشيخ عبد القادر من الشام إلى مصر في منتصف القرن الثالث عشر الهجري، وعلى يده تخرج كبار علماء مصر. أبصرت عيناه النور في قرية بهتيم (محافظة القليوبية – مصر) في أوائل المحرم من عام 1291 من الهجرة، الموافق يناير 1880 ميلادي.عمل والده عبد الرازق رئيساً للمحاكم الإسلامية الشرعية في كثير من الأقاليم، حتى عمل رئيساً لمحكمة طنطا الشرعية. عرف عنه الشدة في الحق، والورع الصادق، والعلم الغزير. أمه هي ابنة الشيخ الطوخي من أصول حلبية، وكان والدها تاجراً تسير قوافله ما بين الشام ومصر، وأقام في قرية بهتيم. عج منزل والده بالعلماء من كل حدب وصوب، وزخرت مكتبة والده بنفائس الكتب، وأتم حفظ القرآن قبل بلوغه العاشرة من عمره. انتسب إلى مدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى مدرسة المنصورة الأميرية، التي حصل منها على الشهادة الابتدائية وعمره آنذاك سبع عشرة سنة.أصابه مرض لم يتركه حتى أضعف سمعه وفي سن الثلاثين أضحى أصماً تماماً. اضطره المرض إلى ترك التعليم الرسمي، واستعاض عنه بمكتبة أبيه الزاخرة، إذ عكف عليها حتى استوعبها وأحاط بما فيها. عمل في عام 1899 ككاتب محكمة في محكمة طخا، ثم انتقل إلى محكمة طنطا الشرعية، ثم إلى المحكمة الأهلية، وبقي فيها حتى لقي وجه ربه الكريم.في يوم الاثنين العاشر من مايو لعام 1937 استيقظ فيلسوف القرآن لصلاة الفجر، ثم جلس يتلو القرآن، فشعر بحرقة في معدته، تناول لها دواء، ثم عاد إلى مصلاه، ومضت ساعة، ثم نهض وسار، فلما كان بالبهو سقط على الأرض، ولما هب له أهل الدار، وجدوه قد فاضت روحه الطيبة إلى بارئها، وحمل جثمانه ودفن بعد صلاة الظهر إلى جوار أبويه في مقبرة العائلة في طنطا. مات مصطفى صادق الرافعي عن عمر يناهز 57 عاماً.نظم الرافعي الشعر في بدايات شبابه، قبل بلوغه العشرين من عمره، وأصدر ديوانه الأول في عام 1903 الذي كان له صدى عظيماً بين كبار شعراء مصر، إذ كتب فيه البارودي والكاظمي وحافظ ابراهيم شعراً، كما أرسل له الشيخ محمد عبده وزعيم مصر مصطفى كامل له مهنئين.تزوج الرافعي في عام 1904 من ابنة عائلة البرقوقي من مدينة المنصورة.انقطع لتأليف كتاب تاريخ آداب العرب من منتصف عام 1909 إلى نهاية عام 1910 ليدخل به مسابقة الجامعة المصرية في تاريخ الأدب العربي، ثم طبعه على حسابه الخاص في عام 1911، وفي عام 1912 أصدر جزءه الثاني وعنونه إعجاز القرآن والبلاغة النبوية.إصداره للجزء الثاني جعل الناس يعرفون ويتذوقون قدرة الرافعي على البلاغة وفنونها، وكتب له زعيم الأمة سعد زغلول مهنئاً إياه، ومعترفاً له بعلمه الغزير وأسلوبه.رحل في عام 1912 إلى لبنان، حيث ألف كتابه حديث القمر، وصف فيه مشاعر الشباب وعواطفهم وخواطر العشاق في أسلوب رمزي على ضرب من النثر الشعري البارع.بعد وقوع الحرب العالمية الأولى، ونزوع المستعمر إلى تحويل كل خيرات البلاد لهذه الحرب، ما ترك أهلها ضحايا للجوع والفقر، ما جعل أرقام هؤلاء تزيد عن ضحايا الحرب ذاتها. نظر الرافعي حوله فرأى بؤساً متعدد الألوان، مختلف الصور والأشكال، فانعكس ذلك كله في كتابه كتاب المساكين. في عام 1924 أخرج كتاب رسائل الأحزان، عن خواطر في الحب، ثم أتبعه بكتاب السحاب الأحمر والذي تحدث فيه عن فلسفة البغض وطيش الحب. تلى ذلك كتابه أوراق الورد. وعند الغاء المحاكم الشرعية في مصر في عهد الإشتراكيين اصدرة كتابة ثورة يوليو.وجد الرافعي دعوة التجديد قناعاً للنيل من اللغة العربية مصورة في أرفع أساليبها (الشعر الجاهلي) وباباً يقصد منه الطعن في القرآن الكريم والتشكيك في إعجازه، ومدخلاً يلتمس فيه الزراية بالأمة منذ كان للعرب شعراً وبياناً. لذا ما أنفتأ يقاوم هذه الدعوة، جهاداً تحت راية القران، فجمع في كتابه تحت راية القرآن كل ما كتب عن المعارك التي دارت بين القديم وكل ما هو جديد، ما جعله أفضل الكتب العربية في النقد ومكافحة الرأي بالرأي، ما جعله أعلى كتبه مكانة بعد رائعته وحي القلم.في عام 1934 بدأ الرافعي يكتب كل أسبوع مقالة أو قصة، ليتم نشرها أسبوعياً في مجلة الرسالة، والتي أجمع الأدباء والنقاد على أن ما نشرته الرسالة لهو أبدع ما كتب في الأدب العربي الحديث والقديم، جمع أكثرها في كتاب وحي القلم………رحمه الله الكاتب والذي كان من عمالقه الأدباءالعرب بلامنازع…أرجوأن أكون قدوفقت في نقل(من خلال الأطلاع والقرائه) مافيه الفائده لكم جميعا…خالص محبتي وتقديري لكم جميعا………
جزاك الله خير
نقل موفق ومفيد
وتوضيح رائع …
مشكووور