مختصر المقالة:
إننا حينما ننـظر إلى واقعنا اليوم نرى ظاهرة بدأت تتفشى في هذه الأمة، ألا وهي الجريمة، وحضارتنا الإسلامية لا تقبل وجود مثل هذه الظاهرة في مجتمعاتنا.
وحينما نُهمل وننسى مثل هذه الظواهر فإن العذاب سينـزل علينا، لكننا حينما نعتني بما يحصل على أرض واقعنا فإن هذا يرفع العذاب عن هذه الأمة.
والسبب الرئيس الذي يمنع وجود الجريمة إنما هو: تعظيم الله تبارك وتعالى في القلوب…
نحن الأمة التي قال الله سبحانه وتعالى فيها:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]
هذه الأمة التي امتدح الله سبحانه وتعالى أوصافها وأثنى على خصالها..
لكننا حينما ننـزل إلى واقعنا اليوم نرى ظاهرة جديدة بدأت تتفشى في هذه الأمة، وهي ظاهرة الجريمة..
هذه الظاهرة التي كانت بعيدة عن هويتنا، وبعيدة عن واقعنا، وميزاتُنا الحضارية لا تقبل وجود مثل هذه الظاهرة في مجتمعاتنا.
ونسمع بين الفينة والأخرى عن طفل صغير يُغتصب ويُقتل، أو نسمع عن فتاة تُختطف ثم تُقتل أو لا تُقتل، ونسمع عن الظواهر التي تتنافى مع هويتنا الإسلامية الحضارية… وهذا أمر ينبغي أن نتنبه إليه، وأن نقف وقفة صغيرة معه، لعلها تتفصّل بعد ذلك في سلوكنا وحياتنا.
وأحب أن أُذكِّر نفسي وإخواني بأن الظلم حينما يوجد في الأمة فإنه يكون سببَ هلاكها، وسببَ نـزول العذاب عليها، إلا حينما يوجد المُصلِحون، فإذا وجِد المصلحون ووُجِد منهج إصلاحهم حاضرًا في الواقع فإنه يكون سبب تأخير للعذاب أو رفعه.
واقرؤوا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]
إذًا: حينما نُهمل وننسى (أو نتناسى) هذه الظواهر فإن العذاب ينـزل علينا، لكننا حينما نعتني بما يحصل على أرض واقعنا فإن هذا يرفع العذاب عن هذه الأمة.
وبعد ذلك لا بد لنا أن نلاحظ أن السبب الرئيس الذي يمنع وجود الجريمة إنما هو: تعظيم الله تبارك وتعالى في القلوب، فإذا وجدت الخشية لله سبحانه وتعالى في القلوب فإنها تمنع وجود الجريمة.
واقرؤوا في كتاب الله تبارك وتعالى قوله وهو يحكي عن قصة ابنَي آدم:
{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28]
فحينما يوجد الخوف والخشية في القلوب، وحينما يوجد تعظيم الله تبارك وتعالى، فإنه يمنع حصول الجريمة.
وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام البخاري رحمة الله عليه:
(لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا).
فأنت صاحب دِين ما لم تقع في الجريمة، فإذا وقعت فيها انتفى عنك وصف الدين.
وإذا أردنا شيئًا من التفصيل في الأسباب التفصيلية التي يمكن لنا أن نستقرئ من خلال وجودها امتناعَ الجريمة، ومن خلال انتفائها حصولها، فاقرؤوا قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ، فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا..} وبهذا بيّنوا الأسباب الأربعة التي عندما غابت نالوا وصف الإجرام..
{قَالُوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 38-46]
فهذه هي الأسباب الأربعة التي ينبغي على الدارسين أن يدرسوها بإمعان، لأنها تُفصِّل الأسباب التي بغيابها تحصل الجريمة، وبوجودها تنتفي الجريمة:
1- الصلة بالله، وذلك في قوله {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}:فحين توجد حقيقة الصلاة فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]
لكن إن وجدت صورة الصلاة فقط، فتحرّكت الأجساد في الركوع والسجود وغاب السجود والركوع عن القلب، فإن هذه لا تكون صِلة ولا صلاة.
فالصلة بالله هي الحالة التي يعيش فيها العبد حال الاتصال..
وهي التي يعيش فيها العبد ذوق المحبة..
والتي يعيش فيها العبد ذوق الأُنس..
والتي يعيش فيه العبد ذوق التململ والانطراح في عتبات الله..
وحينما ينطرح في عتبات الله فيبكي بين يديه، ويُعلن عَبْديته، وأنه سبحانه وتعالى وحده الواحد العظيم، الجليل الجميل، الملك القدوس، الذي لا إله إلا هو… عند ذلك توجد الخشية في القلوب.
فإذا وجد الاتصال بالله عند ذلك يمتنع حصول الجريمة، وإذا انتفى الاتصال يَغفُل الإنسان عن الله ويغرق في المادة، ويتحوّل إلى وحش كاسر.
2- غياب حِسّ الإنسان بالآخرين:وذلك في قوله {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}:
فحينما يغيب عن الغنيّ الإحساس بالفقير، وحينما يغيب عن القويّ الإحساس بالضعيف، وحينما يغيب عن صاحب المال الشعور بأصحاب الحاجات، وحينما يغيب عن أصحاب المادة الشعور بالحاجات الاجتماعية التي تولِّد الانفجار… عند ذلك تظهر الجريمة.
وحينما يوجد الشعور بالآخرين يحصل التكافل الاجتماعي الذي يُورِث المحبة والإخاء بين الناس.
لكن حين يعود الإنسان إلى الـ"أنا" والفردية، ويُغلق على نفسه باب بيته ناسيًا مجتمعه، وناسيًا ما يحتاجه الناس، عند ذلك تظهر الجريمة.
3- العبثية والخَوض مع الخائضين: وذلك في قوله {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}: وأنا أقول بصراحة:
مهما كانت الرياضة مهمة، ينبغي ألا تكون في الأولوية بحيث نُقدّمها على العناية بالثقافة والعِلم والأدب، لكننا حينما ننظر إلى واقع الشباب نجد اجتماعهم على الكرة يزيد على اجتماعهم على مجلس عِلم أو أدب أو خُلُق، وما هذا إلا لغياب المقصد.
فعلينا أن نُعيد الشباب إلى المقصود حتى يكون المقصود حاضرًا في قلوبهم.
والعبثية والخَوض مع الخائضين لا تظهر إلا عندما يغيب المقصود، فإذا وجد المقصود في القلوب فإن العبثية تنتفي، وعندما يغيب المقصود تظهر الجريمة بوجود العَبثية.
4- {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}: وذلك عندما يغفل الإنسان عن الآخرة، وعن وجود حسابٍ وميزانٍ يُوزن فيه الناس يوم القيامة، ويغيبون ويغفلون عن موقفٍ يقفون فيه أمام ملك الملوك سبحانه…
فإذا تذكّر الإنسان أنه يومًا من الأيام يُبعث من قبره، ويُنشر ويُحشر، ويقف في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، ويُدعى للوقوف بين يدي أحكم الحاكمين، وتُوزّع صُحف العباد على العباد، فإما آخذ باليمين أو آخذ بالشمال ومن وراء ظهره… عندما يحضر هذا المشهد ويتذكّر قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8] فإنه يُدرك أن الدنيا ممرّ وليست مقرًّا.
وهكذا يستطيع أن يكون في أعماله مُحاسِبًا لنفسه قبل أن يُحاسَب:
"حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن تُوزن".
هذه هي الأسباب الأربعة الرئيسة التي ينبغي علينا أن نعتني بها في أُسرنا، وفي مدارسنا، وفي مجتمعاتنا، وفي أسواقنا… فإذا وجدت لن توجد الجريمة، وإذا غابت سوف نسمع كل يوم بخبر فظيع.
عش ما شئت فإنك ميّت، وأحبِب من شئت فإنك مُفارِقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
يمكنك الاستماع للمقالة من الرابط المباشر الآتي:موانع الجريمة
المقالة منقولة للفائدة من موقع البدر الإسلامي وفيه يمكنك قراءة المقالة باللغة الإنكليزية لمن يرغب بذلك