الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي النبي الأمين وعلي آله وصحبه أجمعين.. أما بعد.
عباد الله: اعلموا أنكم ميتون ومبعوثون من بعد الموت، وموقوفون على أعمالكم، ومجزيون بها، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ، فإنها دار بالبلاء محفوفة، وبالفناء معروفة، وبالغدر موصوفة ، وكل ما فيها إلي زوال ، وهي بين أهلها دول وسجال..
وأعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من زهرة الدنيا علي سبيل من قد مضى ممن كان أطول منكم أعمارا، وأشد منكم بطشا ، وأعمر ديارا، وأبعد أثارا ، فأصبحت أموالهم هامدة بعد نقلتهم ، وأجسادهم بالية، وديارهم خالية ، وآثارهم عافية، فاستبدلوا بالقصور، المشيدة والنمارق الممهدة الصخور والأحجار، في القبور التي قد بنى على الخراب فناؤها، وشيد بالتراب بناؤها، فمحلها مقترب، وساكنها مغترب ، بين أهل عمارة موحشين ، وأهل محله متشاغلين ، لا يستأنسون بالعمران ،ولا يتواصلون تواصل الجيران والأخوان، علي ما بينهم من قرب الجوار ودنوا الدار .وكيف يكون بينهم تواصل وقد طحنهم بكلكلة البلى، وأظلتهم الجنادل والثرى ، فأصبحوا بعد الحياة أمواتا ، وبعد غضارة العيش رفاتا، فجع بهم الأحباب، وسكنوا التراب ، وظعنوا فليس لهم إياب ، هيهات هيهات!!
)لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلي يوم يبعثون( [المؤمنون:10] ، وكأنكم قد صرتم إلي ما صاروا إليه من البلى ، والوحدة في دار المثوى ، ارتهنتم في ذلك المضجع، وضمكم ذلك المستودع، فكيف بكم لو قد تناهت الأمور، وبعثرت القبور، وحصل ما في الصدور ووقفتم للتحصيل بين يدي المليك الجليل، فطارت القلوب لإشفاقها من سالف الذنوب وهتكت عنكم الحجب والأستار، وظهرت منكم العيوب والأسرار هنالك ) اليوم تجزي كل نفس بما كسبت ( (غافر 67 )
إن الله عز وجل يقول :
) ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجري الذين أحسنو بالحسنى( [النجم:31]. وقال
) ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ( [الكهف:49].
هل تذكرت أخي هذا اليوم ، هل تفكرت فيه ، أنه يوم الحاقة ، يوم الطامة الكبرى ، يوم الزلزلة ، يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. ) فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون( [المؤمنون:101-104].
وقال تعالي: ) وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق( [هود: 102-106].
وهل تفكرت في الحشر والمعاد ، وتذكرت حين تقوم الأشهاد، إن في القيامة لحسرات ، وإن في الحشر لزفرات، وإن عند الصراط لعثرات ، وإن الظلم يومئذ ظلمات ، والكتب تحوي حتى النظرات ، وإن الحسرة العظمى عن السيئات ، فريق في الجنة يرتقون في الدرجات ، وفريق في السعير يهبطون الدركات ، وما بينك وبين هذا إلا أن يقال فلان مات، وتقول رب ارجعوني فيقال: فات.
وروى البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي e قال : (( يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم)) واخرجا جميعا من حديث : (( ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهراني جهنم، فقيل يا رسول الله وما الجسر؟ قال : مدحضة ومزلة، عليه خطاطيف وكلاليب وحسك ، المؤمن يعبر عليه كالطرف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل ، فناج مسلم ، وناج مخدوش، حتى يمر آخرهم يسحب سحبا)).
ولله دار أقوام أطار ذكر النار عنهم النوم، وطال اشتياقهم إلي الجنان، فنحلت أجسادهم ، وتغيرت ألوانهم ، ولم يقبلوا علي سماع العذل في حالهم واللوم، دافعوا أنفسهم عن شهوات الدنيا بغد واليوم ، دخلوا أسواق الدنيا فما تعرضوا لشراء ولا سوم جدوا في الطاعة بالصلاة والصوم ، هل عندكم من صفاتهم شيء يا قوم؟!.
قيل لزيد بن يزيد : ما لنا نراك باكيا ، وجلا خائفا ، فقال: إن الله توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار والله لو لم يتوعدني أن يسجنني إلا في الحمام لبكيت حتى لا تجف لي عبرة.
وعوتب عطاء السليمي في كثرة البكاء فقال: إني إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله تعالي، مثلت نفسي بينهم ، فكيف لنفسي تغل يدها إلي عنقها وتسحب إلي النار ولا تبكي؟
واحسرتي واشقوتي من يوم نشر كتابيه
واطول حزني إن أكن أوتيته بشماليه
وإذا سئلت عن الخطا ماذا يكون جوابيه؟
واحر قلبي أن يكــو ن مع القلوب القاسيه
كلا ولا قدمت لي عملا ليوم حسابيه
بل إنني لشقاوتي وقساوتي وعذابيه
بارزت بالزلات في أيام دهر خاليه
من ليس يخفى عنه من قبح المعاصي خافيه
أستغفر الله العظيم وتبت من أفعاليه
فعسى الإله يجود لي بالعفو ثم العافية
وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال : قال رسول الله e : ((يؤتى يوم القيامة بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) رواه مسلم .
واسمع أيا مسكين إلي هذا الحديث العظيم الذي رواه أنس رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله e خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال: (( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، فغطى أصحاب رسول الله e وجوههم ولهمن خنين)) متفق عليه.
وفي رواية (( بلغ رسول الله e عن أصاحبه شيء ، فخطب ، فقال: (( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا )) فما أتى علي أصحاب رسول الله e يوم أشد منه غطوا رؤوسهم ولهن خنين.
وعن أبي ذر قال ، قال رسول الله e (( إني أرى مالا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلي الصعدات تجأرون إلي الله تعالى)) أخرجه الترمذي.
واعلم أيا مسكين أنك واقف بين يدي الله تعالى ليس بينك وبينه ترجمان، فمحاسبك ومسائلك، فأعد للسؤال جوابا، وللجواب صوابا، فعن عدي بن حاتم قال، قال رسول الله e : (( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر من بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) متفق عليه.
ولو نظرت أخي الكريم إلي حال السلف لو جدتهم أكثر الناس خوفا مع كثرة أعمالهم ، واقرأ معي هذه الآيات لتعلم حالهم ، قال تعالى ) إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلي ربهم راجعوا أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون( [المؤمنون:57-61].
وقد روى الترمذي في جامعه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله e عن هذه الآية ، فقلت : أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون ؟ فقال : (( لا، يا ابنة الصديق ، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لا يتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات)).
والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن.
ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف . ونحن جميعنا بين التقصير بل التفريط والأمن!!.
هذا الصديق رضي الله عنه يقول: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن.
وذكر عنه أنه كان يمسك بلسانه ويقول : هذا الذي أوردني الموارد.
وهذا عمر رضي الله عنه قرأ سورة الطور حتى بلغ ) إن عذاب ربك لواقع ( فبكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه . وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء.
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان إذا وقف علي القبر يبكي حتى يبل لحيته، وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلي أيهما يؤمر بي، لا خترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلي أيتهما أصير.
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول : لو تعلمون ما أنتم لا قون بعد الموت لما أكلتم طعاما علي شهوة ، ولا شربتم شرابا علي شهوة ، ولا دخلتم بيتا تستظلون فيه ، ولخرجتم إلي الصعيد تضربون صدوركم ، وتبكون علي أنفسكم ، ولوددت أني شجرة تعضد ثم تؤكل!!
وكان عبد الله بن عباس أسفل عينية مثل الشراك البالي من الدموع.
وكان أبو ذر يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد، ووددت أني لم أخلق.
وعرضت عليه النفقة فقال: عندنا عنز نحلبها ، وحمر ننقل عليها ، ومحرر يخدمنا، وفضل عباءة ، وإني أخاف الحساب فيها!!
وقرأ تميم الداري ليلة سورة الجاثية فلما أتي على هذه الآية: ) أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون( [ الجاثية:21]. جعل يرددها ويبكي حتى أصبح .
وقال أبو عبيده عامر بن الجراح وددت أني كبش، فذبحني أهلي، وحسوا مرقي.
قال مالك بن دينار : قالت ابنة الربيع بن خثيم لأبيها الربيع : مالي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟
فقال لها : يابنية إن أباك يخاف البيات. يعني الموت.
وكان الربيع هذا من القائمين بالليل.
ومشى يوما مع ابن مسعود في الحدادين ، فلما نظر إلي الأكيار تنفخ ، وإلي النيران تلفح صعق وسقط مغشيا عليه، فقعد ابن مسعود عند رأسه إلي وقت الصلاة ، فلما لم يفق حمله علي ظهره إلي منزله، فلم يزل مغشيا عليه إلي مثل الساعة التي غشي عليه فيها، ففاته خمس صلوات وابن مسعود عند رأسه يقول: (( والله هذا هو الخوف)).
ويروي أنه حفر في بيته بئرا ، فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيه، وكان يمثل نفسه أنه قد مات وندم وسأل الرجعة فيقول : ) رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت( [ المؤمنون:99،100].ثم يجيب نفسه فيقول: قد رجعت يا ربيع!! قد رجعت يا ربيع!! فيرى فيه ذلك أياما . أي يرى فيه العبادة والاجتهاد والكآبة والحزن.
ويروى عن المزني قال: دخلت علي الشافعي رضي الله عنه في علته التي مات فيها . فقلت له : كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلا ، وللإخوان مفارقا، ولكأس المنية شاربا، ولسوء عملي ملاقيا، وعلي الله واردا ، فلا أدري ! أروحي تصير إلي الجنة
فأهنيها، أم إلي النار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ يقول :
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل
تجود وتعفو منه وتكرما
فلولاك لم ينج من إبليس عابد
وكيف وقد أغوى صفيك آدما!!
وعن سفيان قال: كان عمر بن عبد العزيز ساكتا واصحابه يتحدثون ، فقالوا له : مالك لا تتكلم يا أمير المؤمنين! قال: كنت مفكرا في أهل الجنة كيف يتزاورون فيها، وفي أهل النار كيف يصطرخون فيها، ثم بكى.
فيا من يرحل في كل يوم مرحلة ، وكتابه قد حوى حتى الخردلة ، ما ينتفع بالنذير والنذر متصلة ، ولا يصغى إلي ناصح وقد عذله، ونور الهدى قد بدا ولكن ما رآه ولا تأمله، كن كيف شئت فبيننا الحساب والزلزلة ، ونعم جلدك فلا بد للديدان أن تأكله .
أخي الحبيب.. لا تضيع أيامك ، فإنها رأس مالك، فإنك ما دمت قادرا علي رأس مالك ، قدرت علي الربح وإن بضاعة الآخرة كاسدة في يومك هذا، فاجتهد حتى تجمع بضاعة الآخرة في وقت الكساد، فإنه يجيء يوم تصير هذه البضاعة فيه عزيزة ، فاستكثر منها في يوم الكساد ليوم العز، فإنك لا تقدر علي طلبها في ذلك اليوم.
واذكر وقوفك يوم الحشر عريانا
مستعطفا قلق الأحشاء حيرانا
النار تزفر من غيظ ومن حنق
علي العصاة وتلق الرب غضبانا
لما قرأت كتابا لا يغادر لي
ما كان في سر وإعلانا
قال الجليل خذوه يا ملائكتي
مروا بعبدي إلي النيران عطشانا
نسأل الله أن يوفقنا للاستعداد ليوم الحاجة والمعاد، ولا يجعلنا من النادمين ، ولا من الذين يطلبون الرجعة، ويسهل علينا شدة القبر وعلي جميع المسلمين.
وصلي الله وسلم علي نبينا محمد وعلي آله وصحبه وسلم
أعداد: خالد آل فريج بارك الله فيه…
اختيار موفق منك ..اعانك الله ووفقك للدعوة اليه
موعظة جميلة
أسأل الله أن يحسن لنا الختام
اللهم آمين
في أمان الله
موعظة جميلة
أسأل الله أن يحسن لنا الختام
اللهم آمين
في أمان الله