محمد بن إبراهيم آل شيخ
دار القاسم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
سئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله:
ما معنى قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31].
فأجاب: اختلف المفسرون في معنى هذه الآية: على أقوال:
الأول: روى الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه وسعيد بن منصور في سننه وابن أبي شيبة في المصنف وغيرهم بأسانيدهم، عن ابن مسعود أنه قال: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ .
الزينة: السوار والدملج والخلخال والقرط والقلادة إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا الثياب والجلباب.
الثاني: روى عبد الرازق في المصنف وعبد بن حميد في تفسيره بسنديهما، عن ابن عباس أنه قال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قال هو خضاب الكف، والخاتم.
الثالث: روى ابن أبي شيبة في مصنفه وابن أبي حاتم في تفسيره بسنديهما، عن ابن عباس أنه قال في قوله: إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا : الوجه، والكفان، والخاتم. وروى بن أبي شيبة في المصنف عن عكرمة في قوله: إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قال: الوجه، والكفان، وبه قال سعيد بن جبير، وعطاء.
وروى أبو داود والبيهقي في سننهما بسنديهما، عن عائشة رضي الله عنها قال: إن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال: { يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا } وأشار إلى وجهه وكفه.
وروى أبو داود في المراسيل عن قتادة، أن النبي قالت: { إن الجارية إذا حاضت لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل }.
إذا علمت ما سبق من الأقوال، فالراجح منها هو قول ابن مسعود لدلالة الكتاب والسنة على مشروعية التستر للنساء في جميع أبدانهن إذا كن بحضرة الرجال الأجانب.
أما أدلة الكتاب فهي ما يلي:
الأول: قال تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31].
وجه الدلالة أن المرأة إذا كانت مأمورة بسدل الخمار من رأسها على وجهها لتستر صدرها فهي مأمورة بدلالة التضمن أن تستر ما بين الرأس والصدر وهو الوجه والرقبة، وروى البخاري في الصحيح، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: { رحم الله نساء المهاجرين الأول لما نزل وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ شققن أزرهن فاختمرن بها }.
والخمار: ما تغطي به المرأة رأسها، و الجيب: موضع القطع من الدرع والقيص، وهو من الأمام كما تدل عليه الآية لا من الخلف كما تفعله نساء الإفرنج ومن تشبه بهن من نساء المسلمين.
الثاني: قوله تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاتي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60].
قال الراغب في مفرداته، وابن فارس في معجمه: القاعدة لمن قعدت عن الحيض والتزوج.
وقال البغوي في تفسيره: قال ربيعة الرأي: هن العجز اللاتي إذا رآهن الرجال استقذروهن، فأما من كانت فيها بقية من جمال وهي محل الشهوة فلا تدخل في هذه الآية. انتهى كلام البغوي.
وأما التبرج: فهو إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال الأجانب، ذكر ذلك صاحب اللسان والقاموس وغيرهما.
وجه الدلالة من الآية أنها دلت بمنطوقها على أن الله تعالى رخص للعجوز، التي لا تطمع في النكاح، أن تضع ثيابها فلا تلقي عليها جلبابا ولا تحتجب، لزوال المفسدة الموجودة في غيرها، ولكن إن تسترن كالشابات فهو أفضل لهن، قال البغوي: ( وإن يستعففن ) فلا يلقين الحجاب والرداء ( خير لهن ) قال أبو حيان: ( وإن يستعففن ) عن وضع الثياب ويتسترن كالشابات فهو أفضل لهن. انتهى كلام أبي حيان.
ومفهوم المخالفة لهذه الآية أن من لم تيأس من النكاح وهي التي قد بقي فيها من جمال وشهوة للرجال، فليست من القواعد، ولا يجوز لها وضع شيء من ثيابها عند الرجال الأجانب، لأن افتتانهم بها وافتتانها بهم غير مأمون.
الثالث: قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33].
وجه الدلالة أن الله تعالى أمر نساء النبي بلزوم بيوتهن ونهاهن عن التبرج، وهو عام لهن ولغيرهن، كما هو معلوم عند الأصولين أن خطاب المواجهة يعم، ولكن خصهن بالذكر لشرفهن على غيرهن. ومن التبرج المنهي عنه إظهار الوجه واليدين.
الرابع قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]. المتاع عام في جميع ما يمكن أن يطلب من مواعين وسائر المرافق للدين والدنيا.
وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى أذن في مسألة نساء النبي من وراء حجاب في حالة تعرض ومسألة يستفتن فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنه أصول الشريعة من أن المرأة عورة بدنها وصوتها فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة، كالشهادة عليها، وداء يكون ببدنها، وسؤال عما يعرض وتعين عندها، وهذا يدل على مشروعية الحجاب، ولهذا قال: أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53] ويريد الخواطر التي تعرض للنساء في أمر الرجال، وبالعكس أي ذلك أنفى للريبة، وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية، وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له.
الخامس: قال تعالى: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59].
وجه الدلالة من الآية ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفاسيرهم بأسانيدهم، عن ابن عباس رضي الله عنهما وعبيدة السلماني أنهما قالا: { أمر الله نساء المسلمين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة } [أخرجهما ابن جرير في تفسره (12/49)، وانظر في تفسير ابن كثير (3/519–520)]. انتهى كلامهما.
وقوله: ( عليهن ) أي على وجوههن، لأن الذي كان يبدو في الجاهلية منهن هو الوجه. و الجلابيب: جمع جلباب قال ابن منظور في ( لسان العرب ) نقلا عن ابن السكيت أنه قال: قالت العامرية: الجلباب الخمار. وقال ابن الأعرابي: الجلباب الإزار، لم يرد به إزار الحقو، ولكنه أراد إزارا يشتمل به فيجعل جميع البدن، وكذلك إزار الليل، وهو كثوب السابغ الذي يشتمل به النائم فيغطي جسده كله. انتهى كلام ابن منظور.
وفي صحيح مسلم عن أم عطية رضي الله عنها: { قالت يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: " لتلبسها أختها من جلبابها " }.
وقال ابن حبان في تفسيره: كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة وهما مكشوفتا الوجه في درع وخمار، وكان الزناة يتعرضون لهن إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والحيطان للإماء، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة يقولون: حسبناها أمة، فأمرن أن يخلفن بزيهن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن ويهبن فلا يطمع فيهن.
وإذا أتينا على الأدلة من الكتاب، فيحسن أن نختم الكلام عليها بكلام لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية يتعلق بهذه الآيات. قال رحمه الله تعالى ( والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين، فقال ابن مسعود ومن وافقه: هو ما في الوجه واليدين، مثل الكحل والخاتم. قال: وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذي المحارم، وأما الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذي المحارم.
وقبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا حجاب، يرى الرجال وجهها ويديها، وكان إذا ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها، لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59] حجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج النبي زينب بنت جحش فأرخى النبي الستر ومنع أنسا من أن ينظر [أخرجه البخاري، كتاب النكاح (8085)]، فلما أمر الله أن لا يسألن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلالبيبهن. و " الجلباب " هو الملاءة، وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره " الرداء " وتسميه العامة " الإزار الكبير " الذي يغطي رأسها ويستر بدنها، وقد حكى عبيدة وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها، وجنسه " النقاب " فكان النساء ينتقبن.
وفي الصحيح " أن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين " وإذا كن مأمورات بالجلباب – وهو ستر الوجه بالنقاب – كان حينئذ واليدان من الزينة التي أمرت أن لا تظهرها للأجانب. فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة، فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس أول الأمرين " ) انتهى كلام شيخ الإسلام.
وأما الأدلة من السنة فنقتصر على ما يأتي:
الدليل الأول:
عن أم سلمة رضي الله عنها، { أنها كانت عند رسول الله مع ميمونة، قالت: بينما نحن عندها أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال : " احتجبنا منه " فقلت: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال " أعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ ! " } [رواه الترمذي وغيره، وقال بعد إخراجه: حديث حسن صحيح، وقال ابن حجر: إسناده قوي].
الدليل الثاني:
عن أنس قال: { قال عمر بن الخطاب يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب } [أخرجه الشيخان].
الدليل الثالث:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: { كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه } [ رواه الإمام أحمد وأبو داود، وابن ماجه، وغيرهم ].
الدليل الرابع:
عن عقبة بن عامر أنه { سأل النبي عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة، فقال: " ردها فلتخمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام " } [رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وقال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن].
أما وجه الدلالة من الأحاديث الثلاثة الأول فظاهر. وأما الرابع فوجه الدلالة منه أن النبي أمرها بالاختمار، لأن النذر لم ينعقد فيه، لأن ذلك معصية، والنساء مأمورات بالاختمار والاستتار.
الدليل الخامس:
عن عبد الله بن مسعود عن النبي أنه قال: { المرأة عورة } [رواه الترمذي، والبزار وابن أبي الدنيا، والطبراني، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وقل الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وقال المنذري: رجاله رجال الصحيح].
والمقصود أن الأدلة الدالة على جواز كشف الوجه واليدين نسخت بالأدلة الدالة على وجوب تستر المرأة كما يدل عليه حديثا أم سلمة وحديث أنس السابقان.
معنى إخفاء الزينة
وسئل سماحته رحمه الله:
ما معنى قوله تعالى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31].
فأجاب: روى ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر في تفاسيرهم بأسانيدهم إلى ابن عباس إنه قال: هو أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال، وتكون على رجليها خلاخل فتحركهن عن الرجال، فنهى الله عن ذلك لأنه عمل الشيطان. وجاء هذا التفسير عن ابن مسعود وقتادة ومعناوية بن قرة وسعيد بن جبير وغيرهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.