نمر بظروف كثيرة في حياتنا يغيب فيها عن أذهاننا مفهوم :
الأخذ بالأسباب والتوكل على الله ..
فهل فكرنا يوماً بهذا المفهوم بشكلٍ عميـــــق ؟؟ وهل فكرنــــا يوماً أن نتوكل على الله في أمورنا كلها ؟؟
أم أننا نعتمد على الناس من حولنا فقط ؟؟ وهل يتعلق الغريق بالغريق ؟؟
في تاريخنــــا الإسلامي نماذج وقصص رائعة للتوكل على الله ..
من أروعها قصة : سيدنـــــا إبراهيم عليه السلام ..
كان عليه السلام يتوكل على الله في كل خطوة من خطا حياته .. فإذا استعرضنــا مراحل حياته :
المرحلة الأولى : حتى سن 16 سنة
1-دعوة أبيه
2-دعوة قومه
3-تحطيم الأصنام
4-إلقاؤه في النار
المرحلة الثانية : هجرة مستمرة بين البلاد
1-مواجهة الملك
2-الهجرة من العراق إلى الشام
3-الهجرة من الشام إلى مصر
4-الهجرة من مصر إلى فلسطين
المرحلة الثالثة : مع ابنه إسماعيل عليه السلام
1-تركه هاجر وإسماعيل بوادي مكة
2-قصة ذبح إسماعيل
3-قصة بناء الكعبة
إن تأملنا تلك المراحل سنجد :
في المرحلة الأولى .. رغم صغر سنه .. دعا أباه ( آزر ) للإيمان بالله وحده وترك عبادة الأصنام فما كان من أبيه إلا أن رفض ترك دين آبائه :
(( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ))
ثم انتقل على الفور إلى دعوة قومه .. اغتنم فرصة خروج القوم كلهم من المدينة بمناسبة احتفالهم بإحدى مناسباتهم ، فأسرع إلى تحطيم الأصنام .. يقول عز وجل في سورة الأنبياء :
(( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إبراهيم قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إبراهيم وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ))
حطم سيدنا إبراهيم الأصنام كلها .. إلا صنم واحد وهو كبير الأصنام ووضع عليه المعول الذي كسر به الأصنام .. وجاءت المدينة كلها لكي تحاسبه علي ما فعل بأصناهم .. ولا ننسى أن سيدنا إبراهيم وقتها كان سيدنا إبراهيم وقتها كان شاباً لم يتجاوز 16 سنة واقف أمام البلد كلها ، واجتمعت البلد كلها على إيذائه أتوا به على أعين الناس ومع ذلك لم يتراجع بل وقف ثابتاً أمام قومه .. وابتدأت محاكمة سيدنا إبراهيم أمام الناس كلها وسأله قومه هل أنت الذي فعلت هذا بأصنامنا يا إبراهيم .. فوقف ثابتاً وقال بل فعله كبيرهم هذا !! فقال قومه حرقوه وانصروا آلهتكم … ورغم ذلك ظل سيدنا إبراهيم عليه السلام ثابتاً !! وقال قومه – يقول عز وجل في سورة الصافات – :
((قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ))
بنوا بنيان كبير وأشلعوا فيه النار .. لدرجة أنه كانت الطير إذا اقتربت من النار سقطت من صهد النار ..وبعد أن بنوا له البينان لم يعرف قومه كيف سيلقوه في النار من شدتها.. فلم يجدوا حلاً إلا أن يلقوه بالمنجنيق
وظل سيدنا إبراهيم ثابتاً يقول حسبي الله ونعم الوكيل .. ، وقبل أن يلقى سيدنا إبراهيم في النار ..يأتي له جبريل ويقول له "يا ابراهيم ألك حاجة؟؟" ( تخيلوا لو كنا نحن في ذلك الموقف ماذا سنقول ؟!!! ) يقول سيدنا إبراهيم "أما لك .. فلا ..وأما إلى الله فحسبي الله ونعم الوكيل " وقذف سيدنا إبراهيم في النار وفرح قومه ولكن الله الوكيل يغير خواص النار من أجل سيدنا إبراهيم ويقول :
(( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إبراهيم ))
وروى البخاري بسنده عن ابن عباس "حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: "إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل"
وخرج سيدنا إبراهيم من النار ولم يؤمن به أحد من قومه لكبر نفوسهم
فتبدأ المرحلة الثانية من حياته حيث ترك سيدنا إبراهيم بلده وهاجر وقبض عليه الملك النمرود فحاوره سيدنا إبراهيم وبين له وحدانية الله عز وجل فطرده الملك النمرود وهاجر .. وهو في هذه الهجرة الثانية تزوج السيدة سارة وهي من أجمل نساء الأرض ، ثم يتزوج السيدة هاجر أملاً في إنجاب طفل فيرزقهم الله باسماعيل عليه السلام .. ثم يهاجر إلى الشام يدعو الناس إلى ترك عبادة الأصنام فيهدد بالقتل ويقف أمام قومهم ويقنعهم بالحجة القوية
ويترك سيدنا إبراهيم الشام ويهاجر إلى مصر .. ومن ثم يأتي الأمر من الله عز وجل بالذهاب إلى مكة ..
فتبدأ المرحلة الثالثة ويمضي إبراهيم عليه السلام بنفسه وبزوجته وبابنهما إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت ووضع عندهما جراباً فيه تمر وماء ثم مضي إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به انس ولا شئ ؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت له الله أمرك بهذا ؟ قال نعم قالت إذاً لا يضيعنا ( ونِعم الزوجة ) ثم انطلق إبراهيم مستقبلاً بوجهه البيت فدعا ورفع يديه يديه فقال :
((ربنا أنى أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون))
– سبحان الله ! تبقى أفئدة الناس إلى يوم القيامة تهفو لزيارة تلك البقاع الطاهرة .. منذ أن دعا سيدنا إبراهيم بذلك –
نفد ما عند أم إسماعيل فعطشت وعطش ابنها ، نظرت حولها فوجدت جبل الصفا فانطلقت إليه لعلها ترى أحداً من الناس فلم ترَ أحداً فسعت إلى المروة فلم تر أحداً فعادت إلى طفلها فوجدته يبكي وقد اشتد عطشه.. وأسرعت إلى الصفا فوقفت عليه، وهرولت إلى المروة فنظرت من فوقه.. وراحت تذهب وتجيء سبع مرات بين الجبلين الصغيرين.. سبع مرات وهي تذهب وتعود ، عادت بعد المرة السابعة وهي مجهدة متعبة تلهث.. وجلست بجوار ابنها الذي كان صوته قد بح من البكاء والعطش ، وفي هذه اللحظة اليائسة أدركتها رحمة الله، وضرب إسماعيل بقدمه الأرض وهو يبكي فانفجرت تحت قدمه بئر زمزم.. وفار الماء من البئر.. أنقذت حياتا الطفل والأم.. راحت الأم تغرف بيدها وهي تشكر الله.. وشربت وسقت طفلها وبدأت الحياة تدب في المنطقة..
صدق ظنها حين قالت: لن نضيع ما دام الله معنا
وبدأت بعض القوافل تستقر في المنطقة..
وجذب الماء الذي انفجر من بئر زمزم عديدا من الناس ،وبدأ العمران يبسط أجنحته على المكان ..
كبر إسماعيل.. وتعلق به قلب إبراهيم.. فيرى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح ابنه الوحيد إسماعيل !
فكر إبراهيم في ولده واحتار في أمره وتعرض له الشيطان ليثنيه عن تنفيذ أمر الله سبحانه فرماه بالجمار .. ثم عزم أمره وأخبر ابنه الأمر فقال له :
(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) فيجيب إسماعيل: هذا أمر يا أبي فبادر بتنفيذه (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)
وياله من رد ! إنسان يعرف أنه سيذبح فيمتثل للأمر الإلهي ويقدم المشيئة ويطمئن والده أنه سيجده من الصابرين ..
ثم يصف لنا الله عز وجل ما حدث بعد ذلك : ( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) هذا هو الإسلام الحقيقي .. هذا هو التوكل على الله ..
عندئذ فقط.. وفي اللحظة التي كان السكين فيها يتهيأ لإمضاء أمره.. نادى الله إبراهيم.. انتهى اختباره، وفدى الله إسماعيل بذبح عظيم – وصار اليوم عيدا لقوم لم يولدوا بعد، هم المسلمون. صارت هذه اللحظات عيدا للمسلمين. عيدا يذكرهم بمعنى الإسلام الحقيقي الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل
وبعد ذلك .. يصدر الأمر ببناء بيت الله الحرام ويبدأ سيدنا إبراهيم واسماعيل عليهما السلام ببنائها ..
(( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ )) – سورة البقرة –
إن تأملنا كل مرحلة من مراحل حياة سيدنا إبراهيم سنجده عليه السلام قد توكل على الله في أمره كله وإلا لما ضحى ياستقراره وبيته وتجارته في سبيل الدعوة إلى الله ..
توكل على الله في أمره كله .. فاستحق أن يكون خليل الله .. واستحق أن يكون بتوكله هذا إماماً للمسلمين :
( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )
– سورة البقرة –
هذا هو التوكل على الله ..
وهذه هي مناسك الحج ..
وهذا هو ديينا الرائع .. دين الإسلام والتوكل على الله عز وجل ..
دمتم بحفظ الرحمن ..
هذه هي التجارة الحقيقية …تجارة في سبيل المولى لا تعادلها تجارة من تجارات الدنيا الفانية
شكرا لك
( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) هذا هو الإسلام الحقيقي .. هذا هو التوكل على الله ..
(و من يتوكل على الله فهو حسبه)..
و من أعلم بأحوالنا و أرحم بنا من الله سبحانه و تعالى، خالقنا و مولانا؟…
بارك الرحمن فيكِ أختي الحبيبة، و هدانا و إياكِ إلى الإسلام الحق..
هذه هي التجارة الحقيقية …تجارة في سبيل المولى لا تعادلها تجارة من تجارات الدنيا الفانية
صدقتِ أختي الحبيبة سجايا ..
بارك الرحمن فيكِ وجزاكِ خيراً على مرورك الطيب ..
و من أعلم بأحوالنا و أرحم بنا من الله سبحانه و تعالى، خالقنا و مولانا؟…
بالفعل واللهِ لا أحد أعلم بأحوالنا وأرحم بنا من الله عز وجل .. عليه توكلنا وهو رب العرش العظيم ..
سرني مروركِ العطر أختي الغالية روان ..