فإن شأنَ الدعاءِ عظيم، فما استُجْلِبت النعمُ، ولا استُدْفِعت النِّقَمُ بمثله، ذلك أنه يتضمن توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون من سواه، وهذا رأس الأمر، وأصل الدين. وإن شهرَ رمضانَ مناسبة مباركة يتقرب فيها العبد إلى ربه بسائر القربات، وعلى رأسها الدعاء؛ ذلكم أن مواطن الدعاء، ومظانَّ الإجابة تكثر في هذا الشهر؛ فلا غَرْوَ أن يُكْثِر المسلمون فيه من الدعاء.
ولعل هذا هو السر في ختم آيات الصيام بالحثّ على الدعاء، حيث يقول عز وجل:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
معنى الدعاء:
الدعاء هو أن يطلبَ الداعي ما ينفعُه وما يكشف ضُرَّه؛ وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله، والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمةُ العبوديةِ، واستشعارُ الذلةِ البشرية، وفيه معنى الثناءِ على الله عز وجل، وإضافةِ الجود والكرم إليه.
من فضائلُ الدعاءِ، وثمراتُه:
أن الدعاءُ طاعةٌ لله، وامتثال لأمره: قال عز وجل:{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ…}[غافر:60].
و الدعاء عبادة: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ ».
والدعاء سلامة من الكبر:{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[ غافر:60].
و الدعاءُ أكرمُ شيءٍ على الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الدُّعَاءِ ».
و الدعاء سبب لدفع غضب الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ ».
وهو الدعاء سبب لانشراح الصدر، وتفريج الهم، وزوال الغم، وتيسير الأمور: ولقد أحسن من قال:
وإني لأدعو اللهَ والأمرُ ضيّقٌ عليَّ فمـا ينفـــــــك أن يتفرّجـا
وربَّ فتىً ضاقتْ عليه وجوهُهُ أصاب له في دعوة الله مَخْرَجا
والدعاء دليل على التوكل على الله: فسرُّ التوكلِ وحقيقتُه هو اعتمادُ القلبِ على الله، وفعلُ الأسباب المأذون بها، وأعظمُ ما يتجلى هذا المعنى حالَ الدعاء؛ ذلك أن الداعيَ مستعينٌ بالله، مفوضٌ أمرَهُ إليه وحده.
و الدعاء وسيلة لكِبَرِ النفس، وعلو الهمة: ذلك أن الداعيَ يأوي إلى ركن شديدٍ ينزل به حاجاتِه، ويستعين به في كافّة أموره؛ وبهذا يتخلص من أَسْر الخلق، ورقِّهم، ومنَّتِهِم، ويقطعُ الطمعَ عما في أيديهم، وهذا هو عين عِزِّهِ، وفلاحِه.
و الدعاء سلامة من العجز، ودليل على الكَياسة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنْ الدُّعَاءِ وَأَبْخَلُ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلَامِ ».
ومن فضائل الدعاء: أن ثمرته مضمونة بإذن الله: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَا أَحَدٌ يَدْعُو بِدُعَاءٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ مَا سَأَلَ أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهُ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ بِقَطِيعَةِ رَحِمٍ ».
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَسْأَلَةٍ إِلَّا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَهَا لَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ ».
ففي الحديثين السابقين وما في معناهما: دليل على أن دعاء المسلم لا يُهمل، بل يُعطى ما سأله إما مُعجلاً، وإما مُؤجلاً، قال ابن حجر رحمه الله: ( كلُّ داعٍ يُستجاب له، لكن تتنوع الإجابة؛ فتارةً تقع بعين ما دعا به، وتارةً بعِوَضِه ).
ومن فضائل الدعاء: أنه سبب لدفع البلاء قبل نزوله، ورفعه بعد نزوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لَا يُغْنِى حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَإِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ وَإِنَّ الدُّعَاءَ لَيَلْقَى البَلاءَ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ » ومعنى يعتلجان أي: يتصارعان، ويتدافعان.
و الدعاء من أعظم أسباب الثبات والنصر على الأعداء: قال تعالى عن طالوت وجنوده لما برزوا لجالوت وجنوده:{ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} فماذا كانت النتيجة؟ {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ…}[البقرة: 250-251].
والدعاء دليلٌ على الإيمان بالله، والإقرار له بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات: فدعاءُ الإنسان لربه متضمنٌ إيمانهَ بوجوده، وأنه غنيٌّ، سميعٌ بصيرٌ، رحيمٌ، قادرٌ، جوادٌ، مستحقٌ للعبادة دون من سواه.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وآله، وصحبه أجمعين.
17 رمضان 1445 = 17/9/2017