مختصر المقالة:
لقد وجّه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى رسوخ الإيمان في القلوب قبل أن يتحدث عن العبادة والمعاملة:
إذ صلاحُ المجتمع الذي يكون بالعبادة، وإصلاحُه بالتوجيه إلى المعاملات الصحيحة، لا يكون إلا بعد رسوخ الإيمان في القلوب، واستحضار عظمة المرسَل الحبيبِ صلى الله عليه وسلم، وحينما تتوجه القلوب إلى هذا المعنى سوف نرى أسواقنا نظيفة، وسلوكنا مُرضيًا لله تبارك وتعالى…
حينما بعث الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم سيدنا معاذًا إلى اليمن علّمه كيف تكون الدعوة إلى الله، وأرشده إلى طريق الصلاح والإصلاح، فأمره أن يدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
ثم قال له صلى الله عليه وسلم:
(فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ).
وبيَّن له صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بعد ذلك بقوله:
(فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ).
وهذا حديثٌ متّفقٌ عليه علّم فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم كلّ الدعاة وكلّ أهل التربية إلى يوم القيامة كيف تكون ترتيبات الدعوة، وكيف يمكن للإنسان أن يُصلح، لكن مع فهم المنطلق ورؤية الغاية.
والذي يقرأ هذا الحديث يلاحظ فيه أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وجّه أولَ ما وجّه إلى رسوخ الإيمان في القلوب قبل أن يتحدث عن العبادة والمعاملة.
لقد دعا صلى الله عليه وسلم رسوله وعلّمه كيف يدعو حتى يكون الإيمان الذي يعمّر القلوب منطلقًا إلى صلاح المجتمع وإصلاحه، إذ صلاحُ المجتمع الذي يكون بالعبادة، وإصلاحُه بالتوجيه إلى المعاملات الصحيحة، لا يكون إلا بعد رسوخ الإيمان في القلوب.
وحينما نتوهم أننا نستطيع أن نُنجز شيئًا ما دون أن يكون المنطلق حقيقة الإيمان بالله تبارك وتعالى وبالحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فإننا لا نحقق شيئًا.
والذي يقرأ القرآن الكريم يجد أنه يكرر عبارةً، ما من قارئٍ للقرآن إلا ويلاحظها، فإنه سبحانه وتعالى كان يذكر "الذين آمنوا" ثم يذكر بعدها "وعملوا الصالحات"، ليبين لنا أن العمل الصالح لا يمكن أن يظهر إلا حينما تتعمر القلوب بالإيمان، فإذا تعمرت بالإيمان وتوجهت إلى الله تبارك وتعالى ظهرت بعد ذلك ثمرات العمل الصالح، فلن يرتدع المرتشي والراشي والذي يفسد في الأرض عن فساده إلا حينما يتعمر قلبه بالإيمان.
واقرؤوا قوله تبارك وتعالى وهو يعلمنا كيف يكون النموذج:
{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران: 193]
وهكذا كان المنادي ينادي للإيمان، وكلمة "المنادي" تدل على البُعد، لأنه لا يتحدث مع القريب وحسب، لكنه يُسمع القريب والبعيد، لكن ماذا يُسمعه؟
إنه يُسمعه خطاب الإيمان الذي يرقق القلوب، ويزيل غطاءها، ويحبب إليها الله، ويوجد في مرآتها صورة محمد عليه الصلاة والسلام حبيب الله الذي يذكّرها بالآخرة…
واقرؤوا على سبيل المثال قوله تعالى في سورة "ق":
– {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد، بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} إنهم أنكروا الآخرة وأنكروا الإنذار وإرسال المنذر من الله تبارك وتعالى.
– {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} أي: فهم في أمرٍ مختلِط، وقد اختلطت قلوبهم، فلو أن قلوبهم تفرغت من الأشياء وتوجهت إلى رب الأشياء، لكانوا صدّقوا بالقرآن، ولكانوا سُجّدًا وبُكيًّا عند آيات الرحمن.
إذًا: علّتُهم ومرضُهم أنهم قد اختلطت قلوبهم، والله سبحانه وتعالى لا يقبل القلوب المختلطة، لكنه يريد قلوبًا تفرّده، ولا تكون مختلطة وفيها توجهٌ لغيره.
ورحم الله من قال: "العَمَلُ المُشْتَرَكُ لا يَقْبَلُهُ، وَالقَلْبُ المُشْتَرَكُ لا يُقْبِلُ عَلَيْهِ".
لكن ماذا قال بعدها وهو يقدم الدواء بعد العلّة؟ قال:
– {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ، وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أما ترى هذه الآيات…
أما تنظر إلى الحبّة اليابسة التي تضعها في الأرض فترى آيات قدرة الله تبارك وتعالى فيها حينما يشقها فتخرج بعد ذلك منها نبتة خضراء تسبح الله تبارك وتعالى وتقول: لا إله إلا الله…
– {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} هكذا كان تبصير الله تبارك وتعال للقلوب، حتى تبصر عظمة الله تبارك وتعالى، وحتى تتذكر فاقتها وفقرها وعبوديتها وانفراد الله تبارك وتعالى بالربوبية.
– {وَنـزلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ، رِزْقًا لِّلْعِبَادِ} فلم يكن هذا من العبثية، لكنه سبحانه وتعالى فَعَلَ كلَّ هذا ليُطعمنا وليقوتَنا، ولأنه يعتني بنا ويرحمنا، لأنه أرحم بنا من الأم بولدها.
هكذا تتجلى رحمة الله، وهكذا تتجلى عناية الله التي تبصرها القلوب..
(الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) هكذا قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثٍ يعرف أهل العلم أنه حديثٌ مسلسَلٌ بالأوّليّة، فكلما جاء شخصٌ ليحدث آخرَ يراه أول مرة يحدثه بهذا الحديث، حتى عرف هذا الحديث بأنه الأولية حديث سمعته.
هكذا تتجلى الرحمة..
عندما تراقبُ رحمةَ الله تنعكس في مرآتها فتتحول إلى رحمة سلوكية.
ما أروع أن تجتمع حلب في المسجد الجامع!
لماذا نمنع الأطفال أن يدخلوا هذا الجامع المبارك؟
ولقد وجدت أن بعض الإخوة يمنعون دخول الأطفال المسجد، وقلت في نفسي: ألم يخفف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صلاته عندما سمع بكاء الصبي؟
إننا لا نريد من إحضار الأطفال إلا أن يكون الطفل نبتةً في المسجد..
لا نريد إحضار طفلٍ يمكن له أن يلوّث المسجد بالنجاسة، لكننا حينما نقف في المسجد الجامع صغارًا وكبارًا ونرفع أكفنا إلى الله، فإننا نرجو بذلك أن نرحم بأطفالنا، ولعلنا نرحم بشيوخنا، ولعلنا نرحم بمن كان ذا شيبة فينا.
الرحمة..
هذا مشهد من مشاهد القرآن..
ثم قال:
– {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}كل هذا من أجل أن يقول: إننا نحشر الأجساد يوم القيامة كهذا المشهد الذي ترونه أمامكم، ونحن نخرج النبتة الخضراء من الحبة اليابسة.
ثم أتى بعدها بمشهد المكذبين الذين انعدم الإيمان من قلوبهم فقال وهو يرصد هذه الصورة ويقدمها حتى نكون الأبعد عنها:
– {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ، وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ، وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} فكلٌّ كان بعيدًا عن الإيمان، وبعيدًا عن مراقبة الله.
– {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 1-16]
هكذا كان الخطاب القرآنيّ معبرًا عن الإيمان.
ولا يمكن لنا أن نفهم لماذا أنفق أبو بكر ماله كله إلا إذا فهمنا أن ذلك انبعث من الإيمان..
ولماذا قال خبيب رضي الله تعالى عنه وهو يُصلب أمام المشركين:
لا يمكن لنا أن نفهم هذا الموقف إلا إذا عرفنا أنه انطلق من الإيمان.
وكذلك نقرأ تلك القصة عندما رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وهو يطوف في طرقات المدينة تلك الفتاة الصالحة التي تقول لأمها: لا تمزجي الماء بالحليب لأن عمر منع ذلك.
فتقول لها: عمر؟ وأين عمر؟ إن عمر لا يرانا..
وتجيبها البنت الصالحة: إذًا، فأين ربّ عمر؟
هكذا كان صلاح المجتمع..
وروى البيهقي في شعبه أن ابن عمر رضي الله عنهما مرّ براعٍ في البيداء فقال له: أجزرني شاة (أي: أعطني شاة)، فقال: أنا مؤتمن، وهذه ليست ملكًا لي.
فقال وهو يختبر ذلك الراعي: "قل لصاحب الغنم: أكلها الذئب".
قال: فأين الله؟
هكذا كان المجتمع يراقب الله..
هكذا كان تعظيم الله في القلوب منتجًا للصلاح في السلوك، ومهما أردنا أن نرى صلاحًا سلوكيًّا فلا يمكن لنا أن نحقق ذلك إلا حينما نعرّض قلوبنا لأسباب الإيمان وأسباب زيادته، التي منها:
* سماع المنادي:{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ} وكان ذلك المنادي محمد صلى الله عليه وسلم، {أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}[آل عمران: 193] أجَبْنا رسولك فتوجهتْ قلوبنا إليك يا ربّنا.
* ومنها تلاوة القرآن العظيم: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2].
* ومنها ارتياد بيوت الله: حتى يألف قلب الإنسان بيت الله أكثر من ألفته لبيته، وهكذا قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ).
لسنا في صدد الحديث عن أسباب الإيمان، لكننا ننبه إلى هذه الحقيقة التي ربما يغفل عنها بعض الذين يريدون صلاح المجتمع.
فلا صلاح للمجتمع إلا بالإيمان بالله، وباستحضار عظمة المرسَل الحبيبِ سيدِنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينما تتوجه القلوب إلى هذا المعنى سوف نرى أسواقنا نظيفة، وسوف نرى سلوكنا مُرضيًا لله تبارك وتعالى.
وجِّهْنا اللهم إلى ما فيه رضاك، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
يمكنك الاستماع للمقالة من الرابط المباشر الآتي:الإيمان منطلق الإصلاح
المقالة منقولة للفائدة من موقع البدر الإسلامي وفيه يمكنك قراءة المقالة باللغة الإنكليزية لمن يرغب بذلك