ج1: القدر بفتحتين بمعنى التقدير .
واصطلاحًا : تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته .
والقضاء لغة له معان ، ومنها : الحكم ، وهما مصطلحان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ، أي إذا ذكر القدر وحده دخل معه القضاء وإذا ذكر القضاء وحده دخل معه القدر ، وإذا ذكرا جميعًا في سياق واحد تغايرا ،
فيكون القدر بمعنى العلم السابق والكتابة والمشيئة ،
والقضاء بمعنى وقوع ذلك المقدور وخلقه فهما في ذلك كالإسلام والإيمان ، والله أعلم .
* * *
ج2: معنى الإيمان بالقدر أن تؤمن الإيمان الجازم بعلم الله تعالى الشامل لكل شيء ، فالله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون ، وأن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وأن الله كتب الأشياء قبل خلقها وشاءها ، فلا يخرج شيء عن كونه مقدورًا له جل وعلا ، قال تعالى : } إنا كل شيء خلقناه بقدر { ، وقال تعالى : } وكان أمر الله قدرًا مقدورًا { ، وقال تعالى : } وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم { ، وقال تعالى : } وخلق كل شيء فقدره تقديرًا { ، وقال تعالى : } والذي قدر فهدى { ، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن أبيه في حديث جبريل الطويل وفيه : (( أدركت ناسًا من أصحاب النبي e يقولون : كل شيء بقدر الله حتى العجز والكيس )) ، وقال e : (( وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل )) رواه مسلم أيضًا ، وقد أجمع أهل العلم على الإيمان بالقدر وأنه الركن السادس من أركان الإيمان ، والله أعلم .
* * *
ج3: مراتب الإيمان بالقدر أربع مراتب :
المرتبة الأولى : مرتبة العلم ، معناها : الإيمان بعلم الله تعالى المحيط بكل شيء من الموجودات والمعدومات والممكنات والمستحيلات ، لا يخفى عنه شيء في الأرض ولا في السماء ، فقد علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم وعلم أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم وأعمالهم في جميع حركاتهم وسكناتهم وشقاوتهم وسعادتهم ومن هو من أهل الجنة ومن هو من أهل النار من قبل أن يخلقهم ، وأنه يعلم كبير الأشياء ودقيقها على السواء ، قال تعالى : } إن الله بكل شيء عليم { ، وقال تعالى : } ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن { ، وقال تعالى : } وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبةٍ في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولا يابس إلا في كتاب مبين { ، وقال تعالى : } إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدرس نفس ماذا تكسب غدًا وما تدرس نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير { ، وقال تعالى : } وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا { ، وقال تعالى : } هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى { .
وقال – عليه الصلاة والسلام – لما سئل عن أولاد المشركين : (( الله أعلم بما كانوا عاملين )) متفق عليه ، والله أعلم .
المرتبة الثانية : مرتبة الكتابة ، ومعناها : الإيمان الجازم بأن الله تعالى قد كتب في اللوح المحفوظ كل ما هو كائن إلى يوم القيامة وقد أجمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أهل السنة على أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب ، قال تعالى : } ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتابٍ إن ذلك على الله يسير { ، وقال تعالى : } ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين { ، وقال تعالى : } ما فرطنا في الكتاب من شيء { ، وقال تعالى : } وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتابٍ إن ذلك على الله يسير { ، وقال تعالى : } قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا { .
وروى مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال : سمعت رسول الله e يقول : (( كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة )) ، وقال – عليه الصلاة والسلام – : (( ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة )) ، والله أعلم .
المرتبة الثالثة : المشيئة ، ومعناها : الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يكون من حركةٍ ولا سكون ولا هداية ولا إضلال إلا بمشيئته وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم وجميع الكتب المنزلة من عند الله تعالى والفطرة التي فطر الله الناس عليها ، قال تعالى : } وربك يخلق ما يشاء { ، وقال تعالى : } من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم {. وقال -عليه الصلاة والسلام- : (( إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد يصرفه حيث يشاء )) .
المرتبة الرابعة : الخلق ، وهذه المرتبة تقتضي الإيمان بالله تعالى وهو خالق كل شيء ، فهو وحده جل وعلا خالق الكائنات بذواتها وصفاتها وحركاتها ، فهو الخالق وما سواه مخلوق ، قال تعالى : } الله خالق كل شيء { ، وقال تعالى : } وخلق كل شيء فقدره تقديرًا { ، وقال تعالى : } هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون { ، وقال تعالى : } يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً { ، وقال تعالى : } يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى { ، وقال تعالى : } والله خلقكم وما تعملون { . وروى الإمام البخاري في خلق أفعال العباد عن حذيفة t قال : قال رسول الله e : (( إن الله يصنع كل صانع وصنعته )) .