من عجائب صنع الله تعالى وآياته خلقه للإنسان؛ حيث أودع فيه من حسن الخلق ما يبهر الألباب ويدهش العقول، وكل عضو في الإنسان هو عجيبة لوحده؛ ودلالة على تمام الإحكام في صنعه تعالى.
ومن أعجب أعضاء الإنسان خَلقاً ذاك اللسان الذي جعله الله سبباً للتخاطب بين البشر؛ وبياناً لما في الإنسان من مكنوناته وحاجاته ومشاعره؛ فهو جِرمه صغير؛ ولكن في جُرمه وصلاحه كبير.
وباللسان يدرك الإنسان معالي الرتب في الدرجات؛ وبسببه يزل في أسفل الدركات؛ روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ)).
وفي اللسان آفتان عظيمتان:
1 آفة الكلام بالباطل. 2 آفة السكوت عن الحق.
فالساكتُ عن الحق شيطانٌ أخرس، عاصٍ لله، مراءٍ، مداهنٌ، إذا لم يخف على نفسه القتل ونحوه، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاصٍ لله، وأكثر البشر منحرف في كلامه وسكوته بين هذين النوعين. وأهل الوسط كفّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعُه.
وخطر اللسان على الإنسان من أعظم ما يكون؛ وكثير من الناس لا يدرك ذلك؛ وذلك لكون اللسان سهل الحركة فيما يقوم به من الكلام؛ فلا يجد الإنسان مشقة في حركته؛ وقد يتحرز الإنسان من الذنوب الكبائر لعدة عوارض؛ ولكن يجد مشقة من التحرز في آفات لسانه التي تورده المهالك وهو لا يشعر؛ روى الترمذي وغيره بسند صحيح عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ، قَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ قَالَ: ثُمَّ تَلاَ: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) حَتَّى بَلَغَ (يَعْمَلُونَ) ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)).
قال ابن القيم -رحمه الله-: وإذا أردت أن تعرف ذلك-أي خطر اللسان- فأنظر إلى ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. فقال الله -عز وجل-: من ذا الذي يتألّى علي أني لا أغفر لفلان. قد غفرت له وأحبطت عملك.
فهذا العابد الذي قد عبد الله ما شاء أن يعبده أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله.
وفى حديث أبي هريرة نحو ذلك ثم قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
وعند الترمذي من حديث بلال بن الحارث المزني عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه)).
فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث.
وفى جامع الترمذي أيضاً من حديث أنس قال توفى رجل من الصحابة؛ فقال رجل: أبشر بالجنة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أوَ لا تدري فلعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه)) قال: حديث حسن، وفى لفظ: أن غلاماً ما استشهد يوم أحد؛ فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت: هنيئاً لك يا بني الجنة. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره)).
وفي الصحيحين من حديث أبى هريرة يرفعه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت.
وفي لفظ لمسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شهد أمراً فليتكلم بخير أو ليسكت.
وذكر الترمذي بإسناد صحيح عنه: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله؛ قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحداً بعدك؟ قال: قل: آمنت بالله ثم استقم، قال: قلت يا رسول الله: ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه؛ ثم قال: هذا. والحديث صحيح.
وعن أم حبيبة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر الله -عز وجل-)) قال الترمذي: حديث حسن.
وفي حديث آخر: إذا أصبح العبد فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان، تقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك؛ فإذا استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا.
وقد كان بعض السلف يحاسب أحدهم نفسه في قوله: يوم حار ويوم بارد.
ولقد رُئي بعض الأكابر من أهل العلم في النوم بعد موته؛ فسئل عن حاله؟ فقال: أنا موقوف على كلمة قلتها، قلت ما أحوج الناس إلى غيث، فقيل لي: وما يدريك؟ أنا أعلم بمصلحة عبادي.
وقال بعض الصحابة لخادمه يوما هات لي السفرة نعبث بها، ثم قال: استغفر الله ما أتكلم بكلمة إلا وأنا أخطمها وأزمها إلا هذه الكلمة، خرجت مني بغير خطام ولا زمام أو كما قال.
واختلف السلف والخلف هل يكتب جميع ما يلفظ به أو الخير والشر فقط، على قولين، أظهرهما الأول.
وقال بعض السلف: كل كلام بن آدم عليه لا له إلا ما كان من ذكر الله وما والاه.
وكان الصديق رضى الله عنه يمسك بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد. والكلام أسيرك فإذا خرج من فيك صرت أسيره، والله عند لسان كل قائل و(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]. ا. هـ.
وإذا أراد المتكلم أن يطلق عنان لسانه فعليه أن يراعي عدة أمور، ذكرها الماوردي حين قال: وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْكَلَامِ شُرُوطًا لَا يَسْلَمُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ الزَّلَلِ إلَّا بِهَا، وَلَا يَعْرَى مِنْ النَّقْصِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ:
فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهِ إمَّا فِي اجْتِلَابِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَتَوَخَّى بِهِ إصَابَةَ فُرْصَتِهِ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ.
وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَتَخَيَّرَ اللَّفْظَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ.
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ مَتَى أَخَلَّ الْمُتَكَلِّمُ بِشَرْطٍ مِنْهَا فَقَدْ أَوْهَنَ فَضِيلَةَ بَاقِيهَا.
وقد تحصل مما سبق أن اللسان نعمة ونقمة؛ فإذا سخر الإنسان هذه النعمة
أوصلته إلى رضوان الله تعالى ومرضاته ونعيمه المقيم.
وإن سخرها فيما لا يرضي الله تعالى من القول على الله بغير علم أو الكذب والنميمة وهتك أعراض الناس والفحش وبذيء القول كان سبباً لأن يورده لسانه إلى المهالك والخزي المقيم