أسعد الله صباحــك برضـــاه ..
وأسعدني برضــاكِ عني ..
أمي الطاهرة ..
لا تبحثي عن ابنكِ هذا الصباح ..
ولا تُتعبي قلبكِ الحبيب في التخمين والتفكير ..
ولا تتساءلي لماذا حرص صباح اليوم بالذات على ترتيب فراشه والخروج على أطراف أصابعه دون إيقاظك أنتِ وإخوته الصغار ..
اجلسي هنا .. حيث تركتُ لكِ رسالتي ..
و اقرئيها بهدوءٍ وسكينة ..
واجعلي قلبكِ يتسع للغفران .. لما أنتِ مقبلةٌ على قراءته .. في الأسطر التالية ..
أمي الحبيبة ..
جميعهم أخبروني بأن الاستئذان منكِ واجب وشرط لقيامي بهذه الرحلة ..
ولكني عجزتُ يا مَن حَمَلتني بين أحشاءها .. أن أرى نظرة عينيكِ وهي تودّعني .. كما ودّعَت قبلي فلذة كبدها وثمرة قلبها الأولى ..
والفرق هنا شتّان ..
فقد فجعوكِ بجثمان ( نور ) أختي الكبرى .. التي قُتلَت على حين غرّة وهي ذاهبة لمدرستها ..
وأما أنا يا أماه ..
فذاهبٌ إلى حتفي برجلَي .. مع سبق الإصرار والترصد ..
ولا يوجد في الكون أصعب من أن تهب أمٌ ابنها للموت وهي عالمة .. !!
هل ستكونين بإيمان وتضحية سيدنا إبراهيم عليه السلام حين أقبل على نحر ابنه بيديه ؟؟
لا أظنك تقوين يا حبيبتي …، ولذا رحمتك من هذا الامتحان ..
يكفيكِ ما سيأتيك بعد ساعات قلائل …
أماه بعضهم يسمّينا بالانتحاريين..
أتعتقدين ؟؟
أتعتقدين أن يربط شــاب في غضّ الربيع وأينعه .. حزاما ناسفا … حول وسطه ..
ويُقبّل جبينك المتغضّن بالهموم في خفاء نومك ..
ويُلقي نظرة الوداع على وجوه اخو ته الذين لا يعرف لهم معيلا ولا أمانا بعد الله سواه ..
ويفارق البيت الذي حبس بين جدرانه ضحكات طفولته البائسة ..
ويخطو بعيدا .. بعيدا … عن مزرعة زيتون . كانت .. ذات يوم .. قبل أن يجتثّوا أشجارها بجرّافاتهم .. تحوي عالما من الخصب والعطاء والجمال ..
أتعتقدين بأنه سيفعل ذلك .. لينتحر ؟ ليُخلّد في النار باختياره ؟
هل تعلمين ماذا يعني أن يعلم الإنسان أنه ذاهب إلى حتفه بقدميه .. اختيارا ؟
أن يتخيّل في كل خطوة .. يخطوها
أحشاءه وهي تتناثر ..
وأضلاعه وهي تتحطم ..
وكيف يغدو ألف قطعة من لحمٍ ودمٍ وعظم ؟
ولا يدري هل يبقى منه ما يصلح للدفن ..
أم أنه سيُجمَعُ كقطع متفرقة … في كومةٍ .. يُرمى بها إلى أهله .. أو للكلاب .. !
أماه لست خائفا من ألم الانفجار صدقيني ..
أعلم بأن رسولنا المصطفى الكريم .. قال بأن ألم الموت للشهيد كالقرصة ..!
ولكني تعبٌ من ذلك الدرب الذي يفصل بين هنــا .. وهنـــاك ..
ويقولون لماذا وهب الله للشهداء كل هذه المنزلة .. وموتهم ما به من وجع ..
لا يعلمون يا أماه ..
بأن هذه المنزلة لم ننلها إلا عن ذلك الدرب وقسوته..
عن طول المسافة التي نقطعها ولا نرى خلالها سوى أيدي الموت تتلقّفنا ..
ولا نسمع فيها سوى أصداء أحباءنا .. الذين فارقناهم مُختارين / مُجبرين ..!
ننال الجنة _ بإذن الله _ عن تلك اللحظة الفاصلة …
التي هي بالعمر كله ..
اللحظة التي تضغط فيها أصابعنا على زر التفجير ..
لو يعلمون ياأماه ..
وهم في أمان بيوتهم وتَرف ديارهم .. وأحضان أهليهم .. بعيدا عنا ..
لو يعلمون أني ما ضغطتُ ذلك الزر إلا وعيني في جنان الخُلد سارحة ..
وقلبي مثقلٌ بمنظر الأنجاس وهم يمنعون شيخا عليلا جاء ليصلي في المسجد الأقصى صلاة الحاجة ..
ودموعي تجري لذكرى دماء أختي التي أبت نفسي أن أغسلها عن يديّ خوفا من تلاشي أثرها المتبقّي لنا !!
هل يعلمون كم هي قاتلة تلك اللحظة التي تفصل موتنا والحياة ؟
أمي الغالية ..
أم الشهيــد ..
لاتُبالي ,,
لو قالوا لكِ أن ابنك إرهابي .. أو انتحاري .. أو ما شاؤوا من الأسماء ..
قضيتي هي أنتِ .. وأنتِ يعني فلسطين .. ومزارع الزيتون .. ووجه أختي نور .. وأرض الإسراء .. ودماء رفاقي العطرة .. وبيوتنا الصغيرة المُغتصبَة ..
حين تكونين أنتِ قضيتي ياأمي ..
حين أذودُ عن عرض البطن التي أنجبتني.. والأرض التي ضمّتني حيّاً وستضمّني ميَتاً ..
حينها .. لا مطلب لي سوى أن تتعطري بدمي ..
وترتّلي لهم .. بصوتك الدافئ :
( ولاتحسبنّ الذين قُتلوا في َسبيلِ الله أمواتا َبل أحياء عندَ رَبهم يُرزَقُون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوفٌ عليهم ولاهم يحزنون )
صدق الله العظيم.
اللهم ارزقني شهادة في سبيلك …