تخطى إلى المحتوى

إنفراد – أحدث إبداعات الأديب الكبير أحمد حسن فتيحي – أحسنوا الظن بالله 2024.

أحسنوا الظن بالله
كانت وسائل النقل في جدة.. البغال، والحمير، والجمال والفيتون ويجره الحصان (الذي يتهادى اعتزازاً بمهمته) ويتفنن أصحابها في الإضافات الزركشية لما يملكون.. فالأجراس المعلقة والحنة والبرادع.. لها مميزات في كل حمار يستعمل لنقل صاحبه.. فالحمير والبغال التي تحمل الأثقال وتجر عربات الكرو لا تحظى بما تحظى به حمير الخواص..
وأهالي جدة كلهم يعملون ..
فئة التجار.. هذه الأعداد القليلة المعروفة.. تتميز بأخلاق كريمة وتعامل وتسامح.. فإذا اختلفوا صمتوا حتى يهدءوا ثم تتعافى الأمور، وربما تحتاج لتدخل آخرين ليتم التوصل إلى نهاية الخلاف.. بأكلة (عزومة) عند أحدهم..
هناك رجال أفاضل مهمتهم حل الخلافات بين الناس.. ويرضى بهم الجميع، وأحكامهم دائماً مقبولة.. وتراهم يسعون لذلك بأنفسهم وأموالهم.. وجوههم مشرقة وأناقتهم متميزة.. فالوقار والتقدير والاحترام رفيقهم..
فئة الموظفين.. وهم أكثر أناقة من غيرهم.. ومربون أفاضل أصحاب احترام وتقدير.. وهم أهل (الميري).. «وإذا لم تلحق الميري اتمردغ في ترابه».. وخلافاتهم عادة ما تكون بالرسائل المتبادلة بينهم.. عتاباً أو حساباً أو عقاباً.. وتكون من ضمن الأدبيات..
أما خلافات الفئة الثالثة..(فئة المهنيين) من النجارة والحدادة والتنجيد (تنجيد) والصاغة وغيرها.. كالدلالة والمخَرِّج.. فالأيادي قد تمتد وتصل إلى الخناقات والصراع والضرب والشتم والصياح.. وتنتهى الحكاية بعد عشر دقائق بأن يذهب أحدهم للآخر ويتصافيان وتسمع ضحكاتهما وكأنه لم يكن هناك زوبعة.. وبراد الشاهي يفصل الموضوع.. وأخلاق الجميع بين هذا وذاك..
فالمهنة ليست عيباً أو معرة.. أو ازدراء.. بدءاً من كنس الأزقة وتنظيف المجارى.. وتأجير عربات الكرو.. لنقل الأثاث وما إلى ذلك.. وإذا اجتمع الخُلق الحسن مع المهنة.. فصاحبها محبوب وموثوق ويُشَجَّع ويقولون عنه شقاوى (أي يشقى للقمة عيشه بكرامة).. أما إذا كان غير ذلك فيقولون: «أبت الشقاوة أن تفارق أهلها»..
أما البناؤون.. فإنهم ينظمون الحجر المنقبي (وهو المستعمل) ويشغل كثيراً من الأيادي العاملة لتهذيبه ووضعه في المكان الملائم له.. والنجارون يقومون بعمل رواشين ونوافذ وأبواب المنازل.. وهناك مهن أخرى قد أتطرق إليها قليلاً.. ومن بينها المنادي عند وصول باخرة أو حدث في المدينة يجوب الحارات الأربعة للإعلان عنها..
في المسجد المصلون من جدة.. والإمام من جدة.. والخطيب من جدة..
ودورة المياه والأباريق صاحبها ومديرها المتقاعد من جدة.. ولا تزال الإدارة والتحكم تسري في دمه فيأمر وينهي.. «لا تأخذ هذا الإبريق الأخضر.. خذ الآخر الأحمر.. وخذ الأسود».. وهكذا.. ويسموها (أمارة أباريقي)..
تعيش جدة نهارها عمل وجد كل يسعى لرزقه وما يسر الله له..
فلا تنقضي صلاة الصبح وتطلع الشمس من مشرقها إلا وكانت الحركة تدب في أوصالها من الحلقة، إلى النورية، إلى الحراج، إلى المدارس، إلى الدوائر الحكومية والمكاتب التجارية والدكاكين المختلفة.. فأحدهم نجار.. وآخر حداد.. وصائغ.. ومنجد.. ومصلح للأتاريك.. وبائع مفارش.. وبقال.. وعطار.. وفوال.. ومطبق.. ومعصوب.. وتميز.. والجميع بدون استثناء عاملون.. حتى الحلاقين فالبركة في البكور، وسبحان الله الرزاق الكريم يختص قوماً بالبيع والثقة، فالفـــوال الأمير زحمة، وأبو عوف المطبق زحمة، وحسن فتيحي الإقبال عليه أكثر حتى أنه أحياناً يقول: «جبرنا»..
وبعد صلاة العشاء.. تهدأ جدة تماماً فالكل في بيته كبيراً وصغيراً.. غنياً وفقيراً.. متعلماً وجاهلاً.. موظفاً وتاجراً.. لا تسمع غير أصوات الكلاب.. ونهيق الحمير.. ومطاردة القطط لبعضها.. وصوت البوم.. وصفارات العسس بين الفينة والأخرى.. وفانوس البلدية.. تسرح الغنم في أزقتها.. وتعود إلى حظيرتها ليلاً.. وكل بيت تقريباً عنده من الغنم.. أما الأبقار فالأحواش تمتلئ بها.. وحليبها يوزع للبيع بعد صلاة الصبح وهكذا.. الكل يمارس حريته.. من الإنسان والحيوان في حدود ما تعارف عليه المجتمع..
سكينة وطمأنينة وأمان.. وإيمان يملأ القلوب.. ومحبة ومصاهرة بين الجميع.. لا بغضاء ولا حسد ولا حقد ولا ضغينة.. فالغني يعطي.. والفقير عفيف.. والكلمة الطيبة دائماً من علماء المدينة وفقهائها..
العملة المستعملة هي الريال الفضة والنصف ريال والربع ريال والقروش والهلل وكان مع كثرة استعمال الريال يمسح.. ولا يقبل إلا بعد التبديل من بنك الأندوشين أو مؤسسة النقد أو الصيارفة.. مع فارق بسيط للتبديل، فالريال كان يساوي 22 قرشاً..
المصروف المحترم لطفل المدرسة بين ستة هلل أي قرش ونصف وثلاثة قروش، ومن عنده ربع ريال عليه أن يَتَجَبّى على أصحابه إن أراد..
بجوار كركون الشرطة الذي لا يرتاده أحد إلا فيما ندر .. برحة صغيرة يجلس فيها ضابط الشرطة وجنوده المحدودو العدد.. ومبنى البريد الذي يكتظ عادة لأخذ الطوابع وإرســــــال الخطابات.. وباب البنط الذي ينشط في موسم الحج (الكرنتينه).. ومبنى البنك العربي وبعده البنقلة وخفر السواحل.. وأمام كركون الشرطة من الناحية الشرقية (غرب المشورة) بازان الماء.. والسقا يحمل تنك الماء من الناحيتين والعصا بينهما ويضعه على كتفه.. لتسقى جدة كلها.. وتسمى الزفة..
أمام هذا البازان وقف أعرابي من ضاحية بني مالك ومعه ناقته.. عقلها.. ثم توضأ ولم يحسن الوضوء.. وصلى ولم يحسن الصلاة.. فرآه اثنان من علماء جدة وفقهائهــــا وقررا أن ينصحاه ويعلماه حتى يكون لوضوئه كمالاً ولصلاته خشوعاً.. وقفا بجانبه ثم اصطحباه إلى كرسي شريط عادة ما يكونا عليه..
فجلس على الأرض القرفصاء وبجانبه مشعابه (عصاته) وعلى رأسه إحرامه البدوي في لفته المعروفة وثوبه المربوط في وسطه إلى تحت ركبته (ثوب المحاريد)..
سألاه: «ما هو حق الله عليك؟».. قال: «أن أعبده ولا أشرك به شيئا»..
«ما هو حق رسولك عليك؟».. قال: «أن أتبع ما أمر وأنتهي عما نهى»..
«كيف تكون الرجولة؟».. قال: «بحمــاية الرجــل لأهله.. وحنــانه وعـــطفه عليــهم.. لا جبــــــاراً ولا شقياً يرى كلاً منهم أفضل منه»..
«أيهما أحب إليك الزوجة الذكية أو الجميلة؟».. قال: «ما أحلاهما إذا اجتمعا.. وإذا افترقا.. شكرنا أو صبرنا»..
«أي أبناؤك مبروراً عندك؟».. قال: «الصغير .. والمريض.. والغائب .. فإذا حضروا، كلهم سواسية»..
قدّما له ماءاً فقال: «بسم الله».. وبعد أن انتهى قال: «الحمد لله».. ومسح فمه بكم ثوبه.. أعجبا بذكائه وفطنته وفطرته وسماحته..
سأله أحدهما: «ماذا تعمل؟».. قال: «إني حطاب أحتطب وأبيع»..
سأله الآخر: «ماذا أتي بك إلى جدة في هذا اليوم؟».. قال: «أتيت أشتري فأساً لابني الذي سيشاركني العمل من الغد.. وبعد أن يتعلم.. يترزق الله.. ومن ثم يتزوج ويتحمل مسؤوليته»..
أرادا أن يدخلا عليه بطريقة تكون مقبولة عنده.. فقد كان أدبه الفطري يضفي صفاءاً وسكينة ورغبة في الحديث معه.. كان جميل الطلعة وجميل الكلمة.. قال أحدهما له: «كم قيمة الفأس الذي تريد شراءه من السوق؟».. قال: «بريال واحد».. ثم وضع يده في جيبه وأخرج الريال الفضة، فالتقطا هذه النقطة، وسألاه: «لو كان هذا الريال ممسوحاً(من الاستعمال المتكرر) هل يقبله منك من تشتري منه؟».. نظر إليهما وقال: «لو كان كريماً يقبله، وإن رأى حالي وكان من أصحاب الفضل لأعطاني الفأس وعشرة أريل(ريالات) عليه»..
نظرا إلى بعضهما، وقالا له:«اذهب رعاك الله وأدام عليك النعمة».. وما كاد يمتطي ناقته إلا وقد سقط منها على الأرض الصلبة بجوار البازان..
هرع إليه المارة للمساعدة وأسرع الشيخان فسمعاه يقول:
«اللهم لا راد لقضائك، ألطف بأحبابي وألحقني بأحبابك.. لا إله إلا الله محمد رسول الله».. وقضى..
قال أحدهما: «نية المرء خير من عمله»..
وقال الآخر: «من لم ينفعه ظنه لم ينفعه يقينه»..
أحسنوا الظن بالله ..

إبداع رائع وموضوع أعاد لنا ذكريات الماضي وجماله ..

من قوة الإيمان حسن الظن بالله ..

سلمت يمناك..

مشكوووره

شكرا لاختيارك الجميل

في انتظار ابداع قلمك

وفقك الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.