سوف يكون الكلام في هذه الفقرة عن الأصول الظاهرة التي يلمسها ويحسها التابع والمقتدىِ ويرقبها في قدوته ومتبوعه ويمكن أن نرجع ذلك إلى ثلاثة أصول :
الأصل الأول : الصلاح وهذا يتحقق بثلاثة أركان :
الركن الأول : الِإيمان : ويقصد به كل ما يجب اعتقاده من الِإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر وسائر أركان الِإيمان إيمانًا يقينا جازمًا . وتحقيق معنى التوحيد ومقتضياته من معرفة الشهادتين والعمل بمقتضاهما .
ويبدو أن هذا الأمر واضح مما لا نحتاج إلى الِإطالة فيه .
الركن الثاني : العبادة : فيستقيم القدوة على أمر الله من الصلاة والزكاة والصيام وسائر أركان الِإسلام العملية ويهتم بالفرائض والمستحبات ويجد في اجتناب المنهيات والمكروهات . فيأتي من المأمورات بما استطاع ويجتنب جميع المنهيات على حد قوله ، صلى الله عليه وسلم ، : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه .
ويتمثل القدوة الحديث القدسي : وما تقَرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي عليها ولئن سألني لأعطيته ، ولئن استعاذتي لأعيذنه .
الركن الثالث : الإِخلاص : وهو سر عظيم وباب دقيق والتميز به من أعظم المطالب- وهو من أولى ما ينبغي أن يُفتش عنه في الرجل المقتدى به . فيكون المقصود بالقول والعلم والعمل وجه الله عز وجل بعيدًا عن أغراض النفس وأغراض المخلوقين ، بل عبودية خاضعة تمام الخضوع لله عز وجل ، أمرًا ونهيًا ونظرًا وقصدًا . والمرء إذا أسلم وجهه للّه وأخلص نيته لمولاه فإن حركاته وسكناته ونومه ويقظته محسوبة في مرضاة الله . بل إن النصح والِإخلاص يرقى بالعبد الضعيف العاجز إلى رتبة القادر العامل ، ففي غزوة العسرة من تبوك سجل القرآن الكريم خبر هؤلاء الضعفاء الناصحين المخلصين في قوله سبحانه : لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [سورة التوبة ، الآيتان : 91, 92] . وسجل لهم الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، هذا الموقف حين خاطب جنده الغازين في سبيل الله بخبر هذه الطائفة بقوله : إن أقوامًا خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا حبسهم العذر … .
يقابل هؤلاء المثابين المأجورين أصحاب النوايا المدخولة حين ينادي بهم بالويل وحبوط العمل ، ولو كانت صور عملهم صورة عمل الصالحين المخلصين : فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [سورة الماعون ، الآيات : 4-7] .
ومن أجل هذا فإنك ترى أن ضعف الإِخلاص عند كثير من ذوي المواهب والمواقع القيادية جعل تابعيهم والمعجبين بهم يَشْقَوْن بمواهبهم ويرجعون بها القهقري .
يتبين من كل ذلك أن الِإسلام يلحظ في أعمال الناس ما يقارنها من نيات وما يصاحبها من دواعي وبواعث .
الأصل الثاني : حسن الخلق : إذا كان الصلاح يتوجه إلى ذات المقتدى به ليكون صالحًا في نفسه قويمًا في مسلكه فإن حسن الخلق يتوجه إلى طبيعة علاقته مع الناس وأصول تعامله معهم وإليه الدعوة النبوية في قوله ، صلى الله عليه وسلم : وخالق الناس بخلُقٍ حسن والكلام في حسن الخلق واسع متشعب ونحاول أن نحصر عناصره الكبرى في خلال خمس : الصدق- الصبر- الرحمة- التواضع- الرفق .
الصدق : تبرز أهمية الصدق وعظم أثره في مسلك القدوة في قوله صلى الله عليه وسلم : إن الصدقَ يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة . . الحديث .
وقد سأل هرقل أبا سفيان عن سيرة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قائَلاَ : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ أجاب أبو سفيان : لا . فقال هرقل : أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله .
وما أنجى الثلاثة الذين خُلفوا في غزوة تبوك إلا صدقهم مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم حين ظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه ، ولقد نادى الله سبحانه عباده المؤمنين في ختام قصتهم بقوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [سورة التوبة ، الآية : 119] .
ويجمع الحافظ ابن القيم رحمه الله حقيقة الصدق بهذه العبارة : " حصول الشيء وتمامه وكمال قوته واجتماع أجزائه ويكون في القصد والقول والعمل " . والمسلك الصادق النقي قولًا وفعلًا وقصدًا- هو الذي لا ريبة فيه لابتنائه على اليقين ، ولا هوى معه لاعتماده على الإخلاص ، ولا عوج فيه لاتباع الحق والهدى فيه .
وهل رأيت سوأة أزرى ممن يتسنم مواقع القيادة والقدوة بينما ترمقه الألحاظ وتشير إليه الأصابع بالخيانة والكذب . وما كان للتهريج والخبط والادعاء والهزل أن يغني فتيلا عن أصحابه .
وفي الحديث : يطبع المؤمن على الخلال كلِّها إلا الخيانة والكذب .
الصبر : الأزمات إذا استحكمت والحبال إذا تعقدت والضوائق إذا ترادفت لا دفع لها ولا توقي- بإذن الله- إلا بالصبر ذلك أن الصبر- كما في الحديث- ضياء .
ومَنْ أولى من الرجل الأسوة بتوطين نفسه على احتمال المكارة من غير ضجر ، والتأني في انتظار النتائج مهما بَعُدت ، وهو عليم بأن ابتلاء الناس بجميع فئاتهم وطبقاتهم لا محيص عنه . فالدنيا مبنية على هذا ، بل قد يمتحن المرء بالشيء وضده . هذا شأن الدنيا . وشأن آخر وهو أن الإِيمان يقترن بالبلاء ليمحصه ويصفيه : أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [سورة العنكبوت ، الآية : 2] .
والصبر من معالم العظمة المحمودة وشارات الكمال العالي ودلائل التحكم في النفس وهواها وهو عنصر من عناصر الرجولة الناضجة . فأثقال الحياة وأعباؤها لا يطيقها الضعاف المهازيل ، والحياة لا ينهض بأعبائها ورسالتها إلا الأكفاء الصبَّارون وقد استحقت فئة من بني إسرائيل الِإمامة والريادة بصبرهم وحسن بلائهم : وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [سورة السجدة ، الآية : 24] ، وأدركت بني إسرائيل حالةٌ استحقوا بها ميراث الأرض المباركة وكان درعهم في ذلك الصبر : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا [سورة الأعراف ، الآية : 137] .
ولهذا فإن نصيب ذوي القدوة والأسوة من العناء والبلاء مكافئًا لما أوتوا من مواهب وما تحملوا من مشاق ، يجسد هذا قول رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : أشد الناس بلاءً الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى المرء على قدر دينه .
ولهذا فإن نصيب ذوي القدوة والأسوة من العناء والبلاء مكافئًا لما أوتوا من مواهب وما تحملوا من مشاق ، يجسد هذا قول رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : أشد الناس بلاءً الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى المرء على قدر دينه .
وقد قال بعض حكماء القياديين : " لا تسأل الله أن يخفف حملك ولكن اسأله أن يقوي ظهرك " . وإن كان هذا فيه ما فيه لكنه يزيد المعنى الذي نقصد إليه وضوحًا .
الرحمة : الرحمة كمال في الطبيعة تجعل المرء يرقّ لآلام الخلق ويسعى لِإزالتها ويأسى لأخطائهم فيتمنى لهمَ الهدى . الرحمة عاطفة حية نابضة بالحب للناس والرأفة بهم والشفقة عليهم .
وربنا تبارك وتعالى هو أرحم الراحمين وخير الراحمين بل إن رحمته وسعت كل شيء ، كما أن علمه قد وسع كل شيء ، وملائكةُ الرحمنِ يلهجون بهذا الدعاء الشفوق من أجل المؤمنين : رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [سورة غافر ، الآية : 7] .
والرسول ، صلى الله عليه وسلم ، هو الرحمة المهداة للعالمين كلهم بل كأن الغاية من رسالته محصورة في الرحمة : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [سورة الأنبياء ، الآية : 107] .
والرحمة المذكورة هنا يقصد بها الرحمة العامة لكل الخلق تراحما عاما ليلقى المسلم الناس قاطبة وقلبه لهم بالعطف مملوء وبالبر مكنون ؛ لأن الرحمة الخاصة قد تتوفر في بعض الناس فيرق لأولاده حين يلقاهم ويهش لأصدقائه حين يجالسهم ولكن الرَحمةَ المطلوبة من القدوة أوسع من ذلك وأرحب : ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ومن لا يَرحم لا يُرحم بل إن الرحيم تنال رحمته الحيوان من غير البشر . والله يثيب على هذه الرحمة ويغفر بها الذنوب . فالذي سقى الكلب لما رآه يأكل الثرى من العطش شكر الله له فغفر له ، والمرأة البغي من بني إسرائيل سقت كلبًا كان يطيف حول بئر في يوم حار ، قد دلع لسانه من العطش فنزعت له خفها وسقته فغفر لها .
سبحان الله الرحيم لئن كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا ، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب ، ولا تنزع الرحمة إلا من شقي ، أولئك هم غلاظ الأكباد الجبارون المستكبرون . حقا إن القسوة في خلق الإِنسان دليل نقص كبير وفي تاريخ الأمة دليل فساد خطير .
ولكن القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع القسوة فهي أبدًا إلى الصفح والعفو أميل وعن الضغينة والغلظة أبعد .
التواضع : جبلت النفوس على كره من يستطيل عليها ويحتقرها ويستصغرها ، كما جبلت على النفرة ممنِ يتكبر عليها ويتعالى عنها . حتى ولو كان ما يقوله حقًا وصدقًا . إن قلوبهم دون كلامه مغلقة ، وصدورهم عن إرشاده ووعظه موصدة بل لعلهم يكرهون أو يستثقلون ما يصدر منه من علم وحق . وقد أدب الله نبيه محمدًا ، صلى الله عليه وسلم ، في هذا الباب فخاطبه بقوله : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة الكهف ، الآية : 28] . أولئك هم المستضعفون من الصحب الكرام أمثال صهيب وعمار وبلال وخباب ؛ أراد الملأ المستكبرون من قريش من الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، أن يطردهم من مجلسه أو أن يخص لهم مجلسًا لا يجتمعون فيه مع الضعفاء والفقراء فأنزل الله عليه : وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [سورة الكهف ، الآية : 28] .
إن التواضع هو بذل الاحترام والعطف لمن يستحقه . التواضع خلق يكسب صاحبه رضا أهل الفضل ومودتهم ، ومَنْ أحقّ بهذا الخلق من رجل القدوة فهو أنجح وسيلة إلى الائتلاف .
إن ابتغاء الرفعة وحسن الِإفادة من طريق التواضع هو أيسر الطرق وأوثقها . ذلك أن التواضع في محله يورث المودة ، فمن عمر فؤاده بالمودة امتلأت عينه بالمهابة .
إن المتواضع هو الرجل الذي يرجى لنفع الأمة ويستطيع الخوض في كل ميدان ويعيش في كل مجتمع ، يعيش وهو ضافي الكرامة أنيس الملتقى شديد الثقة بنفسه مبسوط المحيا لجليسه .
ويلتحق بهذا الأمر ويلتصق به حديث المرء عن نفسه وكثرة الثناء عليها ، فذلك شيء ممقوت يتنافى مع خلق التواضع وإنكار الذات ، فينبغي لرجل الدعوة ومحل القدوة ألا يَدّعي شيئًا يدل على تعاليه بل إن حقًا عليه أن يعرف أن كل ما عنده من علم أو منزلة أو مرتبة هو محضُ فضل الله عليه فليتحدث – إن شاء أن يتحدث- بفضل الله لا بفضل نفسه فإذا أدرك الناس منه ذلك فتحوا له قلوبهم وتحلقت حوله نفوسُهم قبل أجسادِهم ووقع وعظُه وتوجيهه منهم موقع القبول والرضا ونال من الحظوة على قدر إحسانه وقصده .
الرفق : الحديث عن الرفق جميل وطويل وهو في ذات الوقت ممتع . وفي تقديرنا أن حاجة الدعاة إليه من أهل العلم والفضل والقدوة ماسة للغاية ، وبخاصة إذا انضم إليه ما سبق من حديث في الرحمة والتواضع .
ونستفتح في حديث الرفق بصفة المصطفى ، صلى الله عليه وسلم ، التي رحم الله العباد بها فاصطفاه لها ، يقول الله عز وجل : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [سورة آل عمران ، الآية : 159] . نعم لقد أراد الله بفضله ورحمته أن يمنن على العالم برجل يمسح آلامه ويخفف أحزانه ، ويستميت في هدايته ويناصر الضعيف ، ويهذب القوي حتى يرده سويا سليم الفطرة لا يشقى ولا يطغى فأرسل محمدًا ، صلى الله عليه وسلم ، وسكب في قلبه من العلم والحلم ، وفي خلقه من الِإحسان والبر ، وفي طبعه من اللين والرفق ، وفي يده من الكرم والندى ، ما جعله أزكى عباد الله قلبًا وأوسعهم عطفًا وأرحبهم صدرًا وألينهم عريكة .
هذا بعض نعت محمد ، صلى الله عليه وسلم ، المجتزأ من قول الحق تبارك وتعالى : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم ، الآية : 14] .
وهذا إيراد من قبس النبوة في باب الرفق وبيان أثره لننطلق منه إلى ما يخصّ هذا المبحث .
يقول عليه الصلاة والسلام : إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه رواه مسلم .
وقال مخاطبًا عائشة رضي الله عنها : عليك بالرفق . . إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه .
يا أيها المُقتدى بهم : إن الناس في حاجة إلى كنف رفيق ، وإلى رعاية حانية ، وبشاشة سمحة ، بحاجة إلى ودّ يسعهم ، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم . في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج إلى عطائهم ، ويحمل همهم ولا يثقلهم بهمه ، يجدون عنده الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والمودة والرضا .
وقد يحسن أن نخص الدعاة المقتدى بهم بخطاب عن الرفق أخذًا من نهج السلف إذ أن هذا الميدان ونحن نعيش الصحوة الِإسلامية وأجواءها المباركة نحتاج فيه إلى مزيد عناية وفقه وترفق .
يقول عمر- رضي الله عنه- وهو على المنبر : " أيها الناس لا تُبَغِّضُوا الله إلى عباده فقيل كيف ذلك أصلحك الله ؟ قال : يجلس أحدكم قاصا فيقول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه ، ويقوم أحدكم إمامًا فيطول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه ".
ويقول ابن عباس- رضي الله عنه عنهما- : "حدث الناس كل جمعة فإن أكثرت فمرتين فإن أكثرت فثلاث ولا تمل الناس من هذا القرآن ، ولا تأت القوم وهم في حديث فتقطع عليهم حديثهم وقال : أنصت . . فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه وإياك والسجع في الدعاء ، فإني عهدت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلونه " .
وكان ابن مسعود يُذكِّر كل خميس فقال رجل من القوم لوددت- يا أبا عبد الرحمن- لو أنك ذكرتنا كل يوم . فرد عليه هذا الكنيف الذي قد مليء علمًا : " أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملَكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يتخولنا بها مخافة السآمة علينا " .
يعلق على هذا الحافظ بن حجر في الفتح مستنبطًا مستخلصًا بقوله : وفي هذا استحباب ترك المداومة في الجد في العمل الصالح خشية الملال ، وإن كانت المواظبة مطلوبة ، لكنها على قسمين : إما كل يوم مع عدم التكلف ، وإما يومًا بعد يوم فيكون الترك لأجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط ، وإما يوم الجمعة ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والضابط الحاجة مع وجود النشاط .
والرفق ذو ميادين فسيحة ومجالات عريضة فرفق مع الجهال : إما جهل علم ، أو جهل تحضر ، ولقد رفق النبي ، صلى الله عليه وسلم ، بالأعرابي الذي بال في المسجد وتركه حتى فرغ من بوله وأمر أصحابه بالكف عنه وألا يقطعوا عليه بوله ، فلما فرغ دعاه النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وأخبره أن المساجد لم تبنَ لهذا وإنما هي لذكر الله والصلاة .
وجلفٌ أعرابي آخر جذب برداء النبي ، صلى الله عليه وسلم ، جذبة شديدة وكان عليه برد نجراني غليظ الحاشية فأثر في صفحة عنق النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ثم قال الأعرابي : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت نبي الرفق والرحمة ضاحكًا ثم أمر له بعطاء . بأبي هو وأمي ، صلى الله عليه وسلم ، ما كهر ولا نهر ولا تبرم ولا ضجر .
ومن الذين يخصون بمزيد من الترفق المتبدئون في الإِسلام والعلم وطريق الاهتداء . والغفلة في هذا الجانب قد تؤدي إلى فتنة وانعكاس في المقصود . وقد قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن : بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا يقول ابن حجر : " والمراد تأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليه في الابتداء ، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليُقبل ، وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدرج ، لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلًا حُبب إلى من يدخل فيه وتلقاه بانبساط وكانت عاقبته غالبًا الازدياد بخلاف ضده " .
وينبغي أن يتمثل القدوة في هذا الباب الرفق بمجالسيه فيتحمل من كان منهم ذا فهم بطيء ، ويسع بحلمه جفاء ذي الجهالة ، لا يعنف السائل بالتوبيخ القبيح فيخجله ، ولا يزجره فيضع من قدره .
وأخَيرَا فالرفق ليس حقًا مقصورًا على بني الِإنسان بل هو حق محفوظ لكل ذي كبد رطبة يجسد ذلك في أدقّ صوره بل أغلظ ما يتصور من حالات حين يقول الرسول عليه الصلاة والسلام : إن الله كتبَ الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة ، وإذا ذبحتم فَأحسنوا الذبحة ، وليحدّ أحدُكم شفرته وليرح ذبيحته .
وأي رفق بعد هذا الرفق في حالة إزهاق الروح وفصل الرأس عن الجسد ، ولنختم هذا بهذا الدعاء النبوي : اللهم من ولِي من أمر أمتي أمرا فرفق بهم فارفق به ، ومن ولي من أمر أمتي شيئَا فشقّ عليهم فاشقق عليه .
الأصل الثالث : موافقة القول العمل : يقول الله عز وجل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف ، الآيتان : 2 ، 3] .
سبق الحديث قريِبًا عن الصدق كمظهر أخلاقي في المسلم بصفة عامة وفي القدوة بصفة خاصة .
ولعلك أدركت أن الصدق ليس لفظة تخرج من اللسان فحسب ، ولكنه صدق في اللهجة واستقامة في المسلك . الباطن فيه كالظاهر والقول فيه صنو العمل .
هذا جانب وجانب آخر أن الناس والنفوس مجبولة على عدم الانتفاع بمن علمت أنه يقول ولا يعمل ، أو يعلم ثم لا يعمل ولهذا قال شعيب عليه السلام : وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [سورة هود ، الآية : 88] .
يقول أبو الدرداء- رضي الله عنه- " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا " .
وجانب ثالث وهو ما أشرنا إليه في مبحث أهمية القدوة منِ أن كثيرًا من الناس لا يتوجه نحو العمل حتى يرى واقعًا ماثلًا وأنموذجًا مطبقًا يتخذه أسوة ويدرك به أن هذا المطلوب أمر في مقدور كل أحد .
بل متى يكون المرء قدوة صالحة وأسوة حسنة ما لم يسابق إلى فعل ما يأمر به من خير وترك ما ينهى عنه من سوء ؟! وقد جاء في الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد- رضي الله عنهما- أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه- يعني أمعاءه- في النار فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون : أي فلان ما شأنك ؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه .
وقد قيل : وغيرُ تقي يأمرُ الناسَ بالتُقَى
طبيبٌ يداوي الناسَ وهو عليلُ
وهنا مسألة هامة يحسن التنبيه إليها في هذا المقام وهو أن المسلم ، حتى ولو كان قدوة مترقيًا في مدارج الكمال قد يغلبه هوى أو شهوة أو تدفعه نفس أمارة بالسوء أو ينزغه الشيطان ، فتصدر منه زلة أو يحصل منه تقصير .
فإذا حدث ذلك فليبادر بالتوبة والرجوع وليُعْلم أن هذا ليس بمانع من التأسي به والاقتداء ، فالضعف البشري غالب والكمال لله وحده ولا معصوم إلا من عصم الله .
وقد حدث مالك عن ربيعة قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر . قال : وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء " .
وقد قال الحسن البصري لمطرف بن عبد الله بن الشَخير : يا مطرف عظ أصحابك . فقال مطرف : إني أخاف أن أقول ما لا أفعل- فقال الحسن : يرحمك الله وإينا يفعل ما يقول ؟ ؟ لود الشيطان أنه ظفر بهذه منكم فلمِ يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر .
وقال الحسن أيضًا : أيها الناس إني أعظكم ولست بخيركم ولا أصلحكم وإني لكثير الإِسراف على نفسي غير محكم لها ولا حاملها على الواجب في طاعة ربها ، ولو كان المؤمِن لا يعظ أخاه إلا بعد إحكام أمر نفسه لعُدم الواعظون ، وقلَّ المذكرون ولما وُجِد من يدعو إلى الله جل ثناؤه ويرغَب في طاعته وينهى عن معصيته ، ولكن في اجتماع أهل البصائر ومذاكرة المؤمنين بعضهم بعضًا حياة لقلوب المتقين ، وإذكار من الغفلة ، وأمن من النسيان ، فألزموا – عافاكم الله- مجالس الذكر ، فرب كلمة مسموعةٌ ومحتقرٍ نافعٌ .
ومن لطائف الفقه عند أهل العلم رحمهم الله ما ذكروا في تفسير قوله تعالى : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [سورة البقرة ، الآية : 44] .
فالمعنى أن الله ذم بني إسرائيل على هذا الصنيع حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه ، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له بل الذم على الترك وحده وليس على الأمر ، فإن الأمر بالمعروف مطلوب من العامل ومن المقصر ويتأكد هذا المعنى من الآية الثانية في قوله سبحانه : كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [سورة المائدة ، الآية : 79] .
فالله ذمهم ولعنهم ليس على فعلهم المنكر فحسب بل على تركهم التناهي عنه ، فالمقصر عليه واجبان : الأول : الكف عن التقصير والثاني : دعوة المقصرين إلى ترك التقصير . وهو فقه دقيق ينبغي أن ينتبه له الدعاة والمربون وكفى بربك هاديًا ونصيرًا .
kuwaitdiamond
لا فض فوك
كلام نحتاجه كلنا
ووالله يا أختي يكفينا قولك
لا إله إلا الله
أسأل الله لي ولكم ألا نكون من أهل هذا الحديث