الأمانة
كان أبو السيد الجليل الكبير المقدار صاحب المقامات والأنوار الإمام العالم العابد عبد الله بن المبارك قدس الله روحه عبدا هنديا كما ذكره القزويني في كتاب أخبار البلاد وآثار العباد ، وكان هذا الرجل من أولياء الله تعالى وممن تستنزل الرحمة بذكره وترتجى المغفرة بحبه كما قال ولي الله الإمام النووي رحمه الله . فلا بد أن نشنف الأسماع بذكر شيء من أوصافه الفاخرة رجاء أن ينفعنا الله ببركته في الدنيا والآخرة .
حكي انه كان بمرو قاض اسمه نوح بن مريم وكان رئيسا أيضا وكانت له بنت ذات جمال خطبها جماعة من الأعيان والأكابر وكان له غلام هندي ينطر ( يحرس ) بساتينه فذهب يوما – أي القاضي – إلى البستان فطلب من غلامه شيئا من العنب فأتى بعنب حامض فقال له : هات عنبا حلوا فأتى بحامض 0 فقال القاضي : ويحك ما تعرف الحلو من الحامض ؟!! . فقال : بلى ، ولكنك أمرتني بحفظها وما أمرتني بالأكل منها ، ومن لا يأكل لا يعرف 0 فتعجب القاضي من كلامه وقال : حفظ الله عليك أمانتك . وزوج منه ابنته فولدت عبد الله بن المبارك المشهور بالعلم والورع وكان يحج سنة ويغزو في سنة أخرى 0
وحكي عنه رحمه الله عليه قال : خرجت للغزو مرة فلما تراآت الفئتان خرج من صف الترك فارس يدعو إلى البراز فخرجت إليه فإذا قد دخل وقت الصلاة قلت له : تنح عني حتى أصلي ثم افرغ لك فتنحى فصليت ركعتين وذهبت إليه فقال لي : تنح عني حتى اصلي أنا أيضا فتنحيت عنه فجعل يصلي إلى الشمس ، فلما خرَّ ساجداً هممتُ أن اغدرَ به ! فإذا قائلاً يقول : " وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً " فتركتُ الغدرَ 0 فلما فرغ من صلاته قال لي : لِما تَحَرَّكْتَ ؟ فقلت : أرَدتُ الغدرَ بكَ 0 قال : فَلِمَ تَركتهُ ؟ قلت : لأني أُمرتُ بتركِهِ .! فقال : الذي أَمركَ بتركِ الغدرِ أمرني بالإيمان ، وآمنَ والتحق بصف المسلمين 0قال سفيان بن عيينة : نظرت في أمره وأمر الصحابة فما رأيتهم يفضلون عليه إلا في صحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال إسماعيل بن عياش: ما على وجه الأرض مثله وما أعلم خصلة من الخير إلا وقد جعلها الله في ابن المبارك 0
كُلُّ الذي قلتُ بعضاً من محاسِنهِ … ما زدتُّ إلا لَعَلّي زِدتُّ نقصاناً
وهذه والله هي المكارم ، وهكذا فلتكن في الله العزائم ، هكذا وإلا فلا !!!