قد يتوهم القارئ لأول وهلة أن هناك خطأً في العنوان، ولكن الأمر ليس كذلك، ففي خضم الحديث المتواصل عن بر الوالدين وأهميته في الإسلام، نسي كثير من الآباء والأمهات، بل والمربين أن هناك براً مقابلاً لبر الوالدين وحقوقاً لابد من القيام بها تجاه الأبناء.ورد في بعض الآثار أن رجلاً جاء إلى عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يشكو سوء معاملة ابنه له، فأمر عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يؤتى بالابن، فجيء به، قال له: إن أباك يشكو سوء معاملتك له وقسوتك عليه، فقال له: ياأمير المؤمنين ألا تسأله ماذا فعل بي؟قال: ماذا فعل بك؟ فقال الابن: لم يحسن اختيار أمي، فاختارها مجوسية، فكنت أعيَّر بها، ولم يحسن تسميتي فسماني جُعْلاً "حشرة تدفع القذر بأنفها" فكان الصبيان يسخرون من اسمي، ولم يحسن تربيتي، فكان يهملني ولا يرفق بي، فالتفت عمر بن الخطاب إلى الرجل فقال له: يا هذا لقد عققته قبل أن يعقك.وتنبع أهمية الأبناء من أنهم:
أولاً: زينة الحياة الدنيا: قال تعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا (الكهف: 46)، فهذه الزينة إذا لم تتعاهدها وترعاهــا ذبلت وذهب بهاؤهــا.
ثانياً: باب من أبواب الخير: قال ص: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ….. ولد صالح يدعو له" رواه البخاري ومسلم، وقال: "من كان له ثلاث بنات أو أخوات، فكفهن وآواهن وزوجهن، دخل الجنة"، قالوا: وابنتان يا رسول الله؟ قال: وابنتان" حتى ظننا أنهم لو قالوا: أو واحدة قال: أو واحدة، وهو مرسل، وعند أحمد أنه ص قال: "من كانت له ثلاث بنات، فأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته كن له حجاباً من النار" (انظر تحفة المودود)، فصلاح الأبناء وحسن التربية يحتاج إلى عناية خاصة ورعاية فائقة، وفي المقابل قد يكون الأبناء باباً من أبواب الشقاء في الدنيا والآخــــرة كما قال تعالـــى: يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم 14 إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم15(التغابن).ويقول ص: "إن الولد مجبنة مبخلة" صحيح الجامع ـ 1989، وذلك حين يهمل الآباء والمربون هذا الباب ويفرطون في حقوق الأبناء مما ينعكس سلباً على سلوكهم وأخلاقهم.ولذا اهتم الإسلام بتربية الأبناء وجعلهم مسؤولية الوالدين الأولى كما قال ص :"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته… والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها…." متفق عليه.وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (6) (التحريم). ومن هذا المنطلق أحببت أن أضع بين يدي القارئ بعض التوجيهات والمبادئ التربوية التي لا يستغني عنها والد أو مرب، وأما الوسائل فهي كثيرة جداً وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال وليس هذا مجال الحديث عنها.
أولاً: تهيئة البيئة الصالحة: يعتقد كثير من الناس أن التربية تبدأ بعد الولادة، أو الإدراك وعلى هذا نشأت النظريات التربوية حتى قال قائل: "لاعب ابنك سبعاً وربه سبعاً وصاحبه سبعاً"، ولكن الإسلام يذهب إلى أبعد من ذلك، خلافاً لما يعتقده الكثير( فهو يهتم بالإنسان في جميع أطوار حياته من حين كونه نطفة إلى مستقره في الجنة أو النار)، لذا فهو يأمر ويحث بتهيئة البيئة واختيار الشريك الصالح القادر على القيام بواجب التربية مع الأب منذ البداية، وذلك باختيار الزوجة الصالحة، قال ص: "تُنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"، رواه البخاري ومسلم، وقال أيضاً، "خير ما يكنز المرء في هذه الدنيا المرأة الصالحة: إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله".
ثانياً: الدعاء عند الجماع: إن النية الصالحة عند المعاشرة والتأدب بآداب الجماع فيه حماية للنطفة من نزغ الشيطان وتسلطه على المولود، قال ص: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قضي بينهما ولد من ذلك لم يضره الشيطان أبداً" متفق عليه.ويقول ص: "ما من مولود يولد، إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه" متفق عليه.
ثالثاً: القيام بحقوق المولود: كثير من الآباء يتساهل في حقوق المولود عند ولادته إما جهلاً أو كسلاً وهذا خلاف السنة، وبخاصة للقادر على ذلك من عقيقة وتسمية وحلق للرأس وختان فقد قال ص :"كل غلام رهينة بعقيقته، يذبح عنه يوم سابعه، ويحلق رأسه ويسمى" ص-ج- 454.ويتصدق بوزن شعر المولود ورقاً "أي فضة" والعقيقة تكون عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة كما في رواية أبو داود والترمذي والنسائي (جامع الأصول 7-501)، وقوله ص: "رهينة" قال أحمد هذا في الشفاعة أي أنه إذا لم يعق عنه فمات طفلاً لم يشفع لوالديه" (التحفة 5-114).
رابعاً: غرس التوحيد والعقيدة الصحيحة: قال تعالى حكاية عن لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه وفلذة كبده: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (لقمان:13).قال السعدي ـ رحمه الله ـ 4-106، "ووجه كونه ظلماً عظيماً أنه لا أفظع ولا أبشع ممن سوى المخلوق من تراب، بمالك الرقاب… وسوى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرة من النعم، بالذي …. ما بالخلق من نعمة في دينهم، ودنياهم وأخراهم، وقلوبهم وأبدانهم، إلا منه ولا يصرف السوء إلا هو فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟".فيربي الأبناء على هذه المبادئ العقائدية الصحيحة وعلى مبدأ الولاء والبراء الذي هو أوثق عرى الإيمان كما قال ص: "أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله" ص-ج5239.
خامساً: حب الطاعات والعبادات: فينبغي أن يُربى الأبناء منذ صغرهم على الاهتمام بالفرائض كالصلاة والصيام وبر الوالدين وصلة الأرحام وغيرها من الواجبات وبخاصة الصلاة فإن لها أهمية كبيرة في حياة المسلم وهذا هو منهج الأنبياء والصالحين من بعدهم.قال تعالى: واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا54 وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مـرضيا55(مريم).وقال تعالى مخاطباً نبيه ص وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى 132(طه).وقال ص: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع" ، فإن الأبناء إذا تعودوا على أداء العبادات وحبها في الصغر سهلت عليهم في الكبر كما قال الشاعر:على ما كان عوَّده أبوه وينشأ ناشئ الفتيان منا
سادساً: كره المعاصي والمحرمات: إن مبدأ الحلال والحرام في الإسلام ثابت لا يتغير، فلا يمكن أن يتحول الحلال حراماً، أو الحرام حلالاً، لذا لا بد من أن نغرس في نفوس الأبناء كره المعاصي والمحرمات منذ الصغر، فعن أبي هريرة ـ رضي اللـــه عنه ـ قال: "أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال له الرسول ص: "كخ، كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة" رواه مسلم.(قال الإمام النووي: وفي الحديث أن الصبيان يوقون ما يوقاه الكبار وتمنع من تعاطيه وهذا واجب على الولي) 4-175.(وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ وتأديبهم ـ أي الأطفال ـ بما ينفعهم ومنعهم مما يضرهم ومن تناول المحرمات وإن كانوا غير مكلفين ليتدربوا بذلك) فتح الباري 3-355.
سابعاً: الأخلاق الحميدة: فيربى الأبناء على الأدب ومحاسن الأخلاق كالصدق والأمانة والوفاء والكرم والإيثار والشجاعة في غير تهور والجرأة في قول الحق مع احترام الكبار وتقدير الآخرين، ويحذرهم من الأخلاق الذميمة كالكذب والخيانة وغيرها…. ورد أن عمر بن الخطاب مر بأحد شوارع المدينة المنورة والصبيان يلعبون وفيهم عبدالله بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ فلما رأى الصبيان عمر ـ رضي الله عنه ـ هربوا هيبة منه إلا عبدالله بن الزبير، فلما دنا منه عمر، قال له: لِمَ لم تهرب مع إخوانك، قال له: يا أمير المؤمنين، إني لم أخطئ فأخاف منك وليست الطريق ضيقة فأوسع لك…. فتعجب عمر ـ رضي الله عنه ـ من شجاعته وأدبه ودعا له بخير.إن التأدب بآداب المصطفى ص في التعامل والأكل والشرب والأخذ والعطاء، والدخول والخروج والسلام، والكلام، زينة للأبناء في صغرهم وبركة لهم في كبرهم
أولاً: التربيه بالقول دون الفعل : فلا بد للمربي حتى يكون مؤثراً في الأبناء من أن يوافق قوله فعله، قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون(3) سورة الصف.وقال الشاعر :هلا لنفسك كان ذا التعليم ياأيها الرجل المعلم غيره
عار عليك إذا فعلت عظيم لاتنه عن خلق وتاتي مثله
ولعل من أظهر الأمثلة في حياتنا ـ وهي كثيرة ـ أن يطرق رجل الباب فيسأل عن الأب ـ فيقول الأب لابنه: قل له أبي غير موجود.. فهذه كذبة. أو تتصل امرأة بالأم فتقول لابنتها: قولي لها: أمي مشغولة وهي غير كذلك.. فهذه أيضاً كذبة.وهذا إما أن يولِّد عند الأبناء تناقضاً في الشخصية ، أو تهاوناً بالكذب على الآخرين.ففي سنن أبي داود(4970) عن عبدالله ابن عامر قال: "دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقال: هاه، فقالت أعطيك.. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنك لو لم تعطه شيئاً، كتبت عليك كذبة"، قال أبوالطيب في عون المعبود 13-335 (وفي الحديث أن ما يتفوه به الناس للأطفال عند البكاء مثلاً، بكلمات هزلاً أو كذباً، بإعطاء شيء أو بتخويف من شيء، حرام داخل في الكذب).وعند أحمد في المسند 2-452 عن أبي هريــرة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله ص: "من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة"
ثانياً: كثرة الانتقاد لأخطاء الطفل:وهذا يولد عند الأطفال عدم الثقة في النفس أو بلادة الحس أحياناً، لذا ينبغي للآباء والمربين أن يفرقوا بين الأخطاء الطفولية والأخطاء التربوية، فالكذب خطأ وخلل تربوي ينبغي تصحيحه، وكذلك التعدي والمشاغبة وحب التخريب ونحوها.أما سقوط الكأس مثلاً من يد الطفل أو كثرة الحركة أو توسيخ الملابس أثناء اللعب ونحوها فأخطاء طفولية يوجَّه فيها الطفل بالرفق واللين، فكم كسرت الأم من كأس أو صحن وهي تغسل الأواني، فهل هذا خطأ فاحش تعاقب عليه؟! ورحم الله الشافعي حينما قال موجهاً المربين لهذه الحقيقــة: المؤدب اللبيب.. متغافل رفيق..
ثالثاً: الدعاء على الأبناء:وبخاصة من الأمهات وقت الغضب.. ولذا يحذرنا النبي ص من ذلك بقوله: "لاتدعوا على أنفسكم.. ولاتدعوا على أولادكم، ولاتدعوا على خدمكم، ولاتدعوا على أموالكم، لا توافقـــوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيســــتجاب لكـــم" رواه مسلم.ولقد كان الأنبياء والصالحون يدعون الله دائماً بصلاح الأبناء كما قال تعالى على لسان زكريا عليه السلام: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (آل عمران: 38-).وقال على لسان إبراهيم عليه السلام ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك (البقرة: 128-).وقال تعالى على لسان الصالحين في دعائهم رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي (الأحقاف:15) وقال تعالى: والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين (الفرقان: 74) فمن البر بالأبناء الدعاء لهم بالصلاح والهداية، فإن في صلاحهم خيراً لأنفسهم ووالديهم وفي ضلالهم شقاءً لهم جميعاً، نسأل الله أن يصلح لنا ذرياتنا جميعاً، وأن يحبِّب إليهم الإيمان.. ويزيِّنه في قلوبهم، ويكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان ويجعلهم من الراشدين.
رابعاً: الجمود في وسائل التربية :وهذا نابع من حب تقليد الآباء وعدم القدرة أو الرغبة في تطوير الوسائل المناسبة لكل زمان، حتى قال قائلهم: (نربي أبناءنا على ماربانا عليه أباؤنا) وليس هذا الكلام على إطلاقه.فلاينكر أحد تغير الأحوال والبيئة والمفاهيم، فما كان يصلح في السابق قد لايصلح في هذا الزمان.. فكثرة الضرب مثلاً كانت وسيلة منتشرة في السابق، وقد لاتصلح في هذا الزمان، والتهديد بالطرد من المنزل في الماضي كان كافياً لزجر وردع الأبناء، وأما في زماننا فإن طرد الأبناء من المنزل ـ إلا في أضيق الحدود ـ قد يكون وسيلة لانحرافٍ أكثر وضلال أشد على الأبناء، وبخاصة مع وجود التجمعات المنحرفة التي تتصيد الشباب لاستغلالهم.. وهكذا.لذا ينبغي على الآباء والمربين مراعاة الأحوال وتطوير وسائل التربية وعدم الجمود على تقاليد الآباء والأجداد إلا فيما تبين أنه علاج ناجع..
خامسا: ضعف الرقابة والمتابعة:فبعض الآباء يتعب ويحرص على تربية أبنائه وتوجيههم ولكنه يغفل جانب الرقابة والمتابعة، فلا يعلم متى يخرجون أو يعودون وإلى أين يذهبون ومع من يختلطون؟ ولعل هذا نابع من الثقة الزائدة في سلوك الأبناء، ولكن هذا المبدأ غير صحيح، فكم جرّ مبدأ ضعف الرقابة على الأبناء من ويلات إذا خالطوا من لا تصلح صحبتهم.إن القرين بالمقارن يقتدي عن المرء لاتسل وسل عن قرينه
ومهما كانت تربية الأبناء فإن للبيئة التي يختلطون بها تأثيراً على سلوكهم فليس من الحكمة أن نزج بأبنائنا في مواطن الشبهات أو أماكن الفساد بحجة صلاح تربيتهم، فإن الهدم أسرع كثيراً من البناء والإفساد أسهل من الإصلاح وبخاصة قبل أن يشتد عودهم، وتقوى مناعتهم..إياك إياك أن تبتل بالماء ألقاه في اليـمِّ مكتوفاً وقال له
فالإسلام دين قائم على مبدأ الوقاية خير من العلاج، لأن المحظور إذا وقع قد يصعب علاجه، أو قد تطول معاناته، وهذان أمران أحدهما مرّ وليس أبناؤنا محلاً للتجارب!!.
موضوع يستحق القراءه اكثر من مره ……..