إن جماعة الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – كانت مجموعة إنسانية تتميز بصفات إنسانية متناقضة ، بفضل إعجاز النبوة ، وقد عبر عن ذلك شاعر الإسلام محمد إقبال بما معناه :
((إن المؤمن عبد الله ، أصله من تراب ، وفطرته من نور ، تخلق بأخلاق الله ، واستغنى عن العالمين ، آمالُه ومطامعه قيلة ، وأهدافه ومطامحه رفيعة جليلة ، ألقي عليه الحب وكُسيَ المهابة والجمال ، رقيق رفيق في الحديث ، قوي نشيط في الكفاح ، نزيه بريءفي السلم والحرب ، إن إيمانه هو نقطة الدائرة التي يدور حولها العالم ، وكل ما عداه ، وهم وطلسم ومجاز ، إنه الغاية التي يصل إليها العقل ، ولب لباب الإيمان والحب ، وبه نالت هذه الحياة بهجتها وقوتها (1) .
ونحن ننقل الآن إلى القاريء الكريم شهادات من التاريخ لكي يتحقق أن ما ذكرناه لا يتوقف على مجرد الإعجاب بهذه الشخصيات .
(1) ((روائع إقبال)) للمؤلف ص147-148 الطبعة الرابعة طبع الإسلامي العلمي لكهنؤ (الهند) .
يسعدنا أن نبدأ هذا الموضوع بمقتطفين من خطب علي – كرم الله وجهه – يحملان شهادته عن الصحابة ؛ الذين أصبحت شخصيتهم موضع بحث لدى بعض الفرق ومدارس الفكر ، فإنَّ شهادة على رضي الله عنه بمثابة عينية ، إن بيانه نموذج رائع لما عرف به أهل البيت النبوي من الصدق والأمانة ، ومثال ناطق للبلاغة التي اشتهر بها سيدنا علي – رضي الله عنه – وسلمت له ، وينبغي أن لا يفوتنا أن وصفه هذا إنما يدور حول رفاقه وزملائه الذين كانوا قد فارقوا الحياة وانتقلوا إلى الآخرة ، ولا يجوز أن يختص هذا البيان بالصحابة الأربعة ورفقته الأجلة فحسب ، الذين يعتقد الإمامية أنهم هم وحدهم الذين ظلوا أوفياء للإسلام ، متمسكين بما تركهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهم : سلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاي ، ومقداد بن الأسود ، وعمار بن ياسر ، فإن غير واحد منهم كان موجوداً في حياته مساندين له في شؤونه وأعماله (1) .
هذان المقتظفان مأخوذان من كتابه الموثوق به والمتفق عليه بين الشيعة الإمامية ، الذي يجمع بين خطبه ورسائله وأقواله ، وهو مجموع ((نهج البلاغة)) ، وقد ألفه الأديب الكبير والشاعر الهاشمي الشيعي المعروف بالشريف الرضي (359-404هحرية) ، ولا يزال هذا الكتاب متداولاً يتمتع بإجلال واحترام عند الشيعة ذا قيمة أدبية كبيرة عند علماء الأديب منذ ذلك العهد إلى العصر الحاضر ، وقد شرحه العالم الشيعي الشهير والمتكلم ابن أبي الحديد (586-655هجرية) بشيء كثير من الاهتمام والعناية ، وليقرأ القاريء الكريم النصين التاليين ، وليتذوق ما فيهما من بلاغة أدبية وروعة فنية ، يقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وهو يتحدث عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم :
((لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى أحداً يشبههم منكم ، وقد باتوا سُجداً وَقياماً ، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقفون على مثل الجمْرِ من ذكر معادهم ، كأن بين أعينهم رُكَبَ المعزي من طول سجودهم ، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبتلَّ جيوبهم ، ومادوا كما يميد اشجر يوم الريح العاصف ، خوفاً من العقاب ، ورجاء للثواب)) (2)
ويقول في خطبة ثانية :
((أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه ، وقرؤوا القرآن فأحكموه ، وهيجوا إلى القتال ، فَوَلهوا وَلَه اللقاح إلى أولادها ، وسلبوا السيوف أغمادها ، وأخذوا بأطراف الأرض زَحْفاً زحْفاً وَصَفّاً صَفَّاً ، بعضٌ هلك وبعضٌ نجا ، لا يبشرون بالأحياء ولا يعزون بالموتى ، مره العيون من البكاء ، خمص البطون من الصيام ، ذبل الشفاه من الدعاء ، صفر الألوان من السهر ، على وجوههم غبرة الخاشعين . أولئك إخواني الذاهبون ! فحق لنا أن نظمأ إليهم ونعض الأيدي على فراقهم))(2)
______________________
(1) نهج البلاغة ، تحقيق الدكتور صبحي الصالح ص 143
(2) المصدر السابق ص 177-178 .
بارك الله فيكم